Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

جون ميلتون يدافع عن العقل من باب الصراعات الدينية

دراسة حول حرية التعبير عند صاحب "الفردوس المفقود": لنترك للناس أن يقرروا كيف يفكرون ومتى!

جون ميلتون (1608 – 1674) (غيتي)

ملخص

كتب الشاعر الإنجليزي جون ميلتون نصا قويا وشبه منسي عن حرية العقل، وهو الذي عاش أكثر سنوات حياته ضريراً يائساً مكتئباً، بما فيها السنوات التي أنجز خلالها الأجزاء الـ10 التي يتألف منها سفره الكبير "الفردوس المفقود"

كثر من الكتاب والمفكرين وربما السياسيين والناس العاديين أيضاً يطالبون دائماً وأبداً بضمان حرية التعبير لمن يريد أن يعبر عن نفسه، وهؤلاء يرون أن الرقابة ومنذ الأزمان البعيدة تعد أحد أسوأ الحواجز التي تقف ضد الحرية التي يطالبون بها لمن يريد أن يعبر، وفي رأي هؤلاء أن الحق في التعبير يشمل حرية الصحافة ونشر الكتب وقراءتها وإلقاء الخطابات في الاجتماعات الخاصة والعامة، وما شابه ذلك، أي إنها في اختصار تشمل قدرة المرء على أن يوصل أفكاره إلى الآخرين، وقدرة الآخرين على تلقي هذه الأفكار معبراً عنها بالكلمة والصورة والموسيقى أو حتى بالإيماء. وفي الوقت نفسه يفرق القسم الأكبر من هؤلاء المفكرين بين حرية التعبير، التي يرون أنها يجب أن تكون مطلقة، وحرية المعبر التي يرون أنها يجب أن تخضع إلى القوانين والأعراف الناظمة لحياة الناس ومسار المجتمع، مثل أي مواطن آخر كان في ما مضى يفهم أنه ليس من حق أي شخص أن يسرق أو يعتدي على حرمات الناس أو أملاكهم أو يمارس الإرهاب العملي أو الفكري تحت حجة أنه إعلامي أو كاتب أو فنان أو مفكر.

القرون الوسطى متواصلة

كل هذا يبدو خلال أيامنا هذه من البديهيات حتى وإن كان لا يطبق دائماً، بل نجدنا في مناطق عدة من العالم نعيش حالات تذكر بالقرون الوسطى وبمحاكم التفتيش. وحسبنا أن نقرأ سنوياً البيانات والتقارير التي تصدرها الهيئات المعنية بالرقابة وحرية التعبير حتى ندرك أن العالم لم يتقدم كثيراً في هذا المجال. أما إذا عدنا بضعة قرون إلى الوراء فإننا سنجد نصوصاً تدافع عن حرية التعبير التي نتحدث عنها هنا يدهشنا كونها تبدو وكأنها مكتوبة اليوم، في أسلوبها وما تتحدث عنه وفي تركيزها على القضية التي تعنينا في هذه السطور. ومن ضمن هذه النصوص نص قوي وشبه منسي اليوم للشاعر الإنجليزي جون ميلتون الذي اشتهر خصوصاً بسفره الكبير "الفردوس المفقود"، وبأنه عاش عدداً كبيراً من آخر سنوات حياته ضريراً يائساً مكتئباً، بما فيها السنوات التي أنجز خلالها الأجزاء الـ10 التي يتألف منها "الفردوس المفقود". لكن ميلتون لم يكن بعد فقد بصره وحماسته، حين كتب نصه الذي اشتهر في حينه حول حرية التعبير وعنوانه "آريوباجيتيكا، خطاب في حرية صدور المطبوعات من دون رقابة".

خطاب برسم أولي الأمر

كتب جون ميلتون هذا النص على صورة خطاب موجه إلى مجلسي اللوردات والعموم البريطانيين خلال عام 1644 وكان حينها في الـ36 من عمره، وقد عاد من إيطاليا حيث زار العالم غاليليو وسنرى بعد قليل علاقة زيارته لغاليليو بهذا النص. أما هنا فيجدر أن نشير إلى أن ميلتون إنما انطلق في كتابة نصه مباشرة من رد فعله الغاضب إزاء قانون أصدره البرلمان الإنجليزي يوم الـ14 من يونيو (حزيران) 1643، وفيه حد كامل من حرية التعبير إذ ينص على ضرورة أن يخضع نشر أي كتاب أو نص أو أي شيء من هذا القبيل إلى رقابة مسبقة تقرر ما إذا كان يجوز أو لا يجوز نشره وإيصاله إلى القراء.

هكذا إذاً وانطلاقاً من هذا القانون الذي أثار ثائرة الكتاب في ذلك الحين، كتب ميلتون ذلك النص الذي استعار عنوانه "آريوباجيتيكا" من الأساطير اليونانية القديمة. وهو منذ بداية النص حاول أن يلعب بذكاء على حساسية العلاقة والتناقض بين الفكر الكاثوليكي البابوي الذي كان الإنجليز يعادونه حينها، والفكر البروتستانتي السائد في بريطانيا. ومن هنا بدا من الواضح أن ميلتون يوجه خطابه أول الأمر إلى البروتستانت الإنجليز، مستعملاً ممارسات رجال الدين الكاثوليك فزاعة. وهكذا بدأ ميلتون حديثه بالقول إن واقع الرغبة في إخضاع كل نص إلى الرقابة قبل أن ينشر "يجعلنا نتذكر أساليب الكنيسة البابوية ولا سيما أساليب محاكم التفتيش التي سادت بعد مجمع ترنت"، مما يعني أن أصحاب القانون ودائماً وفق ميلتون إنما "يريدون الآن أن ينشروا ثقافة الكنيسة البابوية وأساليب محاكم التفتيش في أوساط المجتمع الإنجليزي البروتستانتي الذي يخيل إليه أنه بعيد ومنذ زمن، عن تلك الأساليب وعن مناهج القهر الفكري، بل حدث له كثيراً أن قارعها بكل جدية".

وهنا، كي يظل في حديثه على مستوى اكتساب قرائه المؤمنين لم يفت جون ميلتون أن يذكر بأن كبار الأنبياء والرسل وبخاصة كبار آباء الكنيسة أعلنوا دائماً في كل وضوح أو في صورة مضمرة، أن نتاجات العقل الإنساني يجب أن تبقى حرة ويجب أن يكون في مقدور كل البشر، أياً كان انتماؤهم أو طبقتهم، أن يطلعوا عليه ويعرفوه مباشرة، وربما أحياناً حتى يتمكنوا من أن يرفضوه بأنفسهم لأنه لو رفضوه أو قبلوه قادر دائماً على أن يزيد وعيهم ويزيد من معارفهم وعلومهم. وكان رأي ميلتون في هذا النص أن "سماحنا للناس كل الناس بقراءة الصالح أو الطالح من الكتابات معناه الوثوق بعقل الإنسان وتعويده على أن يفرق من تلقائه، ومن دون وصاية من أحد بين الخير والشر، الجيد والسيئ، ما يمكنه من أن يتمثل الأول ويرفض الثاني، ما دام الله أعطى هذا العقل سواسية للناس أجمعين، وليس من حق أحد أن يفرق بين عقل وعقل". ويرى ميلتون أن إعطاء كل إنسان الحق في أن يخوض هذه التجربة، وفي أن يمتحن كل يوم على هذه الشاكلة، إنما معناه "تقوية عقل الإنسان وتصليب شخصيته وجعله عنصراً فاعلاً وجيداً في المجتمع يخدم ربه والآخرين عن وعي بما يفعل". وفي هذا "ما فيه من فضيلة وحض على الفضيلة في الوقت نفسه".

محاجات خارج الزمن

ويذهب ميلتون هنا في حماسته وفي محاجاته العقلية بعيداً من زمنه حين يقول إن ليس من المناسب حتى، منع طباعة ونشر الكتب التي قد تبدو لوهلة ما مضادة لمصلحة الدولة أو الكنيسة، وذلك بكل بساطة لأن الرقابة قد ترتكب الخطأ، إذ تجازف مثلاً بأن تجد نفسها في مواجهة أفكار تكون من القوة والجدة والرفعة، بحيث قد تبدو في نظر الرقابة مناهضة للمبادئ الأخلاقية أو الدينية، ثم يتبين العكس "وهذا ما يحدث دائماً". ويضيف ميلتون الذي يعطي هنا مثالاً معاصراً، إذ يذكر بمحاكمة العالم غاليليو "هذه المحاكمة نددت بالعالم وأجبرته على التراجع عن أفكاره، ولكن ها هو اليوم بعد أعوام قليلة يعد أحد كبار العلماء الذين أنجبتهم البشرية، وها هي أفكاره تعد صحيحة وثابتة علمياً".

أيام المحاكمة مع هذا كادت الرقابة تعدم كل فكره في صورة نهائية... أليس كذلك؟ يتساءل ميلتون الذي يذكر كيف أن محاكم التفتيش لم تحاكم فكر غاليليو بقدر ما حاكمت جرأته وتطلعه إلى المستقبل، وقوته الثورية. ولهذه المناسبة يروي ميلتون في نصه هذا كيف أنه زار غاليليو في آخر أيامه ووجده عجوزاً محطماً أسير محاكم التفتيش، لمجرد أنه فكر في علم الفلك في صورة تتنافى مع تفكير الرقباء الكنسيين".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

حماسة الشباب

كما أشرنا، نشر جون ميلتون (1608 – 1674) هذا النص الجريء وكان بعد شاباً يتقد حماسة ويناضل من أجل القضايا الكبرى في زمنه. وفي ذلك الحين كان لا يزال يعيش مرفهاً داخل لندن بعد أن تلقى تعليماً دينياً وحقوقياً كبيراً مكتشفاً في نفسه ميلاً إلى الفلسفة والشعر في آن معاً، وأتقن كثيراً من اللغات لأنه أراد دائماً أن يقرأ النصوص القديمة والأجنبية في لغاتها الخاصة. وهو كان في البداية غزير الإنتاج ولا سيما في النصوص الفكرية كما في النصوص التاريخية، كتب في اللاهوت وتاريخ الكنيسة ثم بدأ يتجه صوب الشعر أكثر وأكثر، وبمقدار ما كانت حياته تنتقل من الرفاهية إلى التعاسة، ثم خصوصاً بعدما فقد بصره وزوجته المحبوبة وابنه الوحيد بين ثلاث بنات تباعاً، انصرف إلى الشعر وأنتج أعماله الثلاثة الخالدة في هذا المجال: "الفردوس المفقود" و"الفردوس المستعاد" و"معاناة شمشون".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة