ملخص
تبدو العلاقات الأميركية - الأسترالية بالفعل وثيقة بصورة استثنائية، فقد حاربت القوات الأميركية والأسترالية جنباً إلى جنب لأكثر من 100 عام، في كل صراع كبير منذ الحرب العالمية الأولى، بدءاً من معركة هامل في عام 1918، وفي عام 2023 احتفلت الولايات المتحدة وأستراليا بالذكرى الـ80 لعديد من المعارك الرئيسة في الحرب العالمية الثانية، بما في ذلك معارك بحر المرجان وميدوي وجوادالكانا.
عرفت الجغرافيا دوماً بأنها ظل الله على الطبيعة، والتاريخ بأنه فعل الإنسان على الأرض، وما بين الطبيعة الجغرافيا، والتفاعل البشري التاريخي، تكتسب مواقع ومواضع مختلفة حول العالم أهميتها الجيوسياسية، أي مزايا الجغرافيا والسياسة معاً.
عدت قارة أميركا اللاتينية تاريخياً الخلفية الجغرافية للولايات المتحدة الأميركية، وقد بسطت سيطرتها ونفوذها السياسي هناك على مدى أكثر من 100 عام خلت بصورة نافذة، كما أن ثرواتها الطبيعية لا سيما من النفط، جعلتها في مقدم الأهداف الاستراتيجية المطلوب الحفاظ عليها، بل والدفاع عنها ضد أي مخططات لقوى قطبية أخرى تود أن تجد لها موطئ قدم هناك.
هل تتضاءل القيمة الجيوسياسية لأميركا اللاتينية في حاضرات أيامنا، في مقابل نشوء وارتقاء مواقع أخرى على خريطة الكرة الأرضية؟
الجواب يقطع بأن أهمية أميركا اللاتينية لا تزال باقية، ولهذا نرى واشنطن محمومة ومهمومة من أي علاقات صينية أو روسية معمقة بدول القارة اللاتينية، غير أن هذا لم يمنع من ظهور أستراليا، القارة الصغرى بين القارات الست، والواقعة في أقصى شرق الكرة الأرضية، كمركز لوجيستي وجيوسياسي في غاية الأهمية للسياسات الأميركية، والسؤال لماذا؟
الجواب قطعياً موصول بقربها الطبيعي من الصين، القطب القادم لا محالة، مما يجعل أراضيها كنزاً استراتيجياً للولايات المتحدة، وسواء كان ذلك على صعيد العسكرية أو الاقتصاد.
هنا يتساءل القارئ "هل نحن إذاً أمام علاقات أميركية - أسترالية جديدة، أم أن هناك علاقات قديمة بالفعل بين الجانبين، وقد جاءت مرحلة الصراع القطبي لتكسبها وزناً وازناً جديداً، بخاصة من ناحية قربها من واحدة من أهم نقاط الصراع بين واشنطن وبكين، التي يمكنها أن تجعل من احتمالات المواجهة واقع حال، ونعني لها جزيرة تايوان، عطفاً على قربها أيضاً من بحر الصين الجنوبي، الذي يقطع كبار الاستراتيجيين بأنه عند لحظة زمنية بعينها، يمكن أن يفجر ما هو أخطر من مجرد الصراع الإقليمي.
لماذا تناول شأن العلاقات الأميركية - الأسترالية في الوقت الحاضر، هل من متغير جديد طرأ على المعادلة الدولية، يشي بأن أستراليا قد باتت جبهة متقدمة في الصراع الأميركي - الصيني القادم لا محالة؟
مناورات تاليسمان وعسكرة أستراليا
عندما تدربت القوات الأميركية والأسترالية على عمليات الإنزال البرمائي والقتالي والعمليات الجوية في العام الماضي 2023، تصدرت عناوين الأخبار حول سعي الحليفين إلى تعميق التعاون الدفاعي لمواجهة طموحات الصين العسكرية الناشئة.
على أنه بالنسبة إلى مخططي الحرب الأميركيين الذين يستعدون لصراع محتمل في شأن تايوان، فإن مناورات "تاليسمان سيبر"، البارزة كانت لها قيمة أكثر تحفظاً، فقد ساعدت في إنشاء مخزونات جديدة من المعدات العسكرية في أستراليا بعد انتهاء التدريبات في أغسطس (آب) 2023.
تقول بيانات الجيش الأميركي إن المعدات التي نتجت من مناورات تاليسمان، تشمل ما يقارب 330 مركبة ومقطورة و130 حاوية في مستودعات في بانديانا، في شمال شرقي فيكتوريا.
وتكفي كمية المعدات التي لم يتعرف بها الجيش الأميركي من قبل، لتزويد نحو ثلاث شركات لوجيستية تضم ما يصل إلى 500 جندي أو أكثر.
تنظر واشنطن إلى ما تركته هناك في أستراليا من معدات عسكرية، وهذا ما كشف عنه، ومؤكد أن هناك كثيراً غير معلن، على أنه نوع من الاستعداد للمستقبل، وسواء تعلق الأمر بالكوارث الطبيعية أو الحروب.
في هذا السياق يصرح الجنرال القائد الأعلى للقوات الأميركية في المحيط الهادئ، تشارلز فلين، بالقول "نحن نتطلع إلى القيام بهذا الأمر أكثر فأكثر".
لم يتوقف الأمر على مناورات تاليسمان، ففي يوليو (تموز) 2023 أيضاً، نفذ سلاح الجو الأميركي تدريباً عرف باسم Mobility Guardian 23 وهو تمرين في منطقة المحيطين الهندي والهادئ مع أستراليا وكندا وفرنسا واليابان ونيوزيلندا والمملكة المتحدة، وتضمن التدريب على التزود بالوقود جواً والإخلاء الطبي.
في ذلك الوقت، استغل الجيش الفرصة لنشر معداته، بما في ذلك في جزيرة غوام، وقد ساعدت هذه المعدات هناك في التعامل مع تداعيات الإعصار "ماوار" أخيراً، غير أنها ستكون مفيدة بالأكثر في أي صراع مستقبلي، وفقاً لما قاله الجنرال دارين كول، مدير العلميات في قيادة الحركة الجوية.
أستراليا ونهج عسكري أميركي مغاير
هل تعني تلك المناورات أن التفكير المنهجي العسكري الأميركي قد تغير؟
يعد الجنرال كول أن قيادته كانت مسؤولة ليس فقط عن الإغاثة من الكوارث، لكن أيضاً عن الطوارئ حتى العمليات القتالية الكاملة والحرب الكبرى الواسعة النطاق.
من هنا يمكن القطع بأن تغييراً طرأ على تفكير المؤسسة العسكرية الأميركية، فعلى مدى عقود من الزمان، لم تكن الولايات المتحدة مضطرة إلى القلق من استهداف قوة أجنبية قواعدها اللوجيستية، مما سمح للمخططين بالتركيز على الكفاءة وتبني نموذج "التوريد في الوقت المناسب"، الشائع بين الشركات المصنعة في القطاع الخاص.
أدى هذا النهج إلى اتخاذ قرار توفير الكلف بإنشاء قواعد ضخمة، مثل قاعدة رامشتاين الجوية في ألمانيا، وقد كانت هذه في مأمن من هجمات "طالبان" وتنظيم "داعش".
لكن الصراع مع الصين قد يجعل القواعد العسكرية الضخمة، بما في ذلك معسكر "همفريز" قرب سيول في كوريا الجنوبية، أهدافاً رئيسة، وهذا الخطر يدفع إلى التحول إلى نهج أكثر كلفة في التعامل مع اللوجيستيات، ويتضمن تويع المخزونات الأميركية وتخزين الإمدادات مسبقاً في مختلف أنحاء المنطقة.
تظهر أهمية أستراليا بنوع خاص عبر تصريحات الأدميرال البحري ديون إنجليش أحد كبار ضباط اللوجيستيات في البنتاغون وفيها أنه "بدلاً من التخطيط للكفاءة، فإنه من المحتمل أنك تحتاج إلى التخطيط للفاعلية، والانتقال في الوقت المناسب" فقط في حالة الطوارئ.
لقد فعلت الولايات المتحدة هذا في أوروبا بعد ضم روسيا شبه جزيرة القرم في عام 2014، إذ خزنت الأسلحة واستثمرت في القواعد والمطارات التي يمكن للقوات الأميركية استخدامها إذا لزم الأمر.
هل الأمر الآن يعني بأستراليا تحديداً؟
بحسب تحليل أجرته وكالة "رويترز" للأنباء، فإن البنتاغون الأميركي قد طلب من الكونغرس زيادة 5.2 مليار دولار لتخزين المعدات والوقود وتحسين الخدمات اللوجيستية في القارة الآسيوية، إذ تقع أستراليا في القلب من تلك المخططات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولعله من الواضح أن السياسيين الأميركيين بدورهم يدعمون الحضور العسكري في القارة الآسيوية، وبالتحديد في المياه القريبة منها.
يقول السيناتور روجر ويكر، أكبر عضو جمهوري في لجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ في يونيو (حزيران) الماضي، إن "البنتاغون في حاجة إلى مزيد من التركيز على القواعد والخدمات اللوجيستية في المحيط الهادئ".
ويقطع ويكر بأن القدرات الأميركية على ردع الصراع في غرب المحيط الهادئ على مدى السنوات المقبلة ليست قريبة من المستوى المطلوب.
هل يعني ذلك مزيداً من العسكرة لأستراليا؟
تعزيز التعاون الدفاعي وإقامة القواعد
مؤكد أن الأمر يمضي بالفعل على هذا النحو، ولعل مشاركة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن في المشاورات الوزارية الأسترالية الأميركية AUSMIN مع وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن، ووزيرة الخارجية الأسترالية بيني وونغ، ونائب رئيس الوزراء الأسترالي ووزير الدفاع ريتشارد مارلييس في مركز مؤتمرات جاك سي تايلور في المعهد البحري الأميركي في السادس من أغسطس الماضي خير دليل على أن أستراليا يوماً تلو الآخر تشغل موقعاً لوجيستياً متقدماً في المخططات الأميركية.
وصف الإعلام الأميركي أيام النسخة الـ34 من منتدى الدفاع الثنائي، بأنها الأيام الـ10 الأكثر أهمية للعلاقات الدفاعية الأميركية في المنطقة، لإدارة بايدن.
قبل المنتدى كان أوستن وبلينكن قد سافرا إلى منطقة المحيطين الهادئ والهندي، لإجراء محادثات وزيارة في طوكيو ومانيلا لترقية استثمارات واشنطن ووضع قواتها في المنطقة.
قبل بدء المشاورات في أنابوليس قال أوستن "نحن على استعداد للمضي قدماً في مبادراتنا لتعزيز موقف القوة الرئيسة، وسنتخذ خطوات لتعميق تعاوننا الصناعي الدفاعي في مجالات التطوير والإنتاج والدعم المشترك، وهذا يشكل دعم مشروع الأسلحة الموجهة، والذخائر المتفجرة الأسترالي. وسنعمل أيضاً على تحديد فرص جديدة مع حلفاء وشركاء من ذوي التفكير المماثل، بما في ذلك اليابان والهند والفيليبين".
وفي إطار توسيع المبادرات التي طرحت خلال محادثات العام الماضي في بريسبان، سلط بيان عن الاجتماع الضوء على فرص التمركز والانتشار للقوات الأميركية النووية في جميع أنحاء أستراليا. وأشار مسؤول دفاعي كبير إلى زيادة تناوب المنصات، بما في ذلك طائرات الدوريات البحرية ومقاتلات الجيل الخامس، والقاذفات إلى قواعد سلاح الجو الملكي الأسترالي، في أمبرلي وداروين وتيندال.
ولعل الأكثر أهمية في هذا المنتدى، ونظراً إلى التحديات المتعلقة بالنقل بالمسافات البحرية الشاسعة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، حدد الجيش أستراليا كمركز رئيس لشبكته اللوجيستية الإقليمية خلال محادثات العام الماضي، وقرر إقامة منطقة دعم لوجيستي في كوينزلاند، وموقع لتمركز المعدات في بانديانا، ومن المقرر نشر مركبات تابعة للجيش في أستراليا على أساس دوري.
هل من مقررات أخرى تقطع بأن أستراليا قد باتت بالفعل خلفية لوجيستية أميركية بامتياز؟
هذا ما جرت به المقادير بالفعل، فخلال أيام المنتدى سلطت الدولتان الضوء على الجهود المبذولة لجلب إنتاج الذخائر الأميركية إلى القاعدة الصناعية الدفاعية الأسترالية، وبخاصة نظام الصواريخ الموجهة المتعددة الإطلاق والصواريخ الدقيقة القادرة على مكافحة السفن.
والمعروف أن أستراليا في عام 2023 كانت قد اشترت صواريخ هيمارس في إطار برنامج LAND8113، وهو برنامج اقتناء يهدف إلى تزويد القوة بقدرات إطلاق النار البعيدة المدى اللازمة. كما تم تسليط الضوء على الأنشطة المتعلقة بالتطوير المشترك لصاروخ كروز الهجومي الأسرع من الصوت التابع للقوات الجوية في بيان مشترك للمشاورات. وباختصار غير مخل، فقد أسفرت محادثات عام 2024، عن جهد مشترك جديد متكامل للدفاع الجوي والصاروخي، إذ تعهد المسؤولون تطوير خريطة طريق استراتيجية في شأن الأنشطة التعاونية الملموسة بين الولايات المتحدة وأستراليا.
أستراليا حليف لا بديل عنه
تتأكد الأهمية اللوجيستية الآنية لأستراليا بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأميركية من خلال تصريحات وزير الدفاع الأميركي أوستن، فقد صرح بالقول "لقد عملت الولايات المتحدة وأستراليا جنباً إلى جنب لأكثر من قرن من الزمان وتظل أستراليا حليفاً لا غنى عنه. نحن نعمل معاً اليوم لمعالجة التحديات الأمنية المشتركة، من السلوك القسري من جانب جمهورية الصين الشعبية، إلى حرب روسيا الاختيارية ضد أوكرانيا، إلى الاضطرابات في الشرق الأوسط".
هل أوستن يتجاوز الواقع في توصيف العلاقة بين بلاده من جهة، وأستراليا من جهة ثانية؟
بالقطع لا، فأستراليا بالفعل هي حليف وشريك وصديق حيوي للولايات المتحدة، وفي عام 2020 احتفلتا بالذكرى الـ80 للعلاقات الدبلوماسية بينهما التي قامت عام 1940 رسمياً.
تبدو العلاقات الأميركية - الأسترالية بالفعل وثيقة بصورة استثنائية، فقد حاربت القوات الأميركية والأسترالية جنباً إلى جنب لأكثر من 100 عام، في كل صراع كبير منذ الحرب العالمية الأولى، بدءاً من معركة هامل في عام 1918، وفي عام 2023 احتفلت الولايات المتحدة وأستراليا بالذكرى الـ80 لعديد من المعارك الرئيسة في الحرب العالمية الثانية، بما في ذلك معارك بحر المرجان وميدوي وجوادالكانا.
علاوة على ذلك، شهد عام 2021 الذكرى الـ70 لتوقيع معاهدة أستراليا ونيوزيلندا والولايات المتحدة "أنزوس"، ذلك التحالف البارز لأستراليا، الذي يتمتع بدعم واسع النطاق من الحزبين، إذ استدعت أستراليا معاهدة أنزوس رداً على هجمات الـ11 من سبتمبر (أيلول) 2001 في نيويورك وواشنطن.
هل من مشترك براغماتي بين أستراليا وأميركا يعزز من التعاون العسكري والاقتصادي بينهما مستقبلاً؟
الثابت أن أميركا وأستراليا تشتركان في مصلحة قوية في الحفاظ على حرية الملاحة والتحليق والاستخدامات القانونية الأخرى للبحر، بما في ذلك بحر الصين الجنوبي. كما تتعاون أستراليا والولايات المتحدة مع اليابان والهند في الرباعية "أوكوس" لحل الأزمات الأكثر إلحاحاً في المنطقة.
كما تشترك الولايات المتحدة وأستراليا في تاريخ طويل من التعاون في مجالات أخرى. ففي عام 1949، وقعت الولايات المتحدة وأستراليا اتفاقية أسست برنامج فولبرايت، ومنذ ذلك الحين حصل أكثر من 500 أسترالي وأميركي على منح فولبرايت.
على أن أحدهم قد يطرح علامة استفهام "هل واشنطن فقط هي من يحتاج إلى أستراليا كموقع وموضع لوجيستي؟".
بالرجوع إلى معالم كتاب "جيوبولتيكال فيوتشر" لصاحبه المنظر الأميركي الشهير جورج فريدمان، فإن أستراليا بدورها في حاجة فعلية إلى الولايات المتحدة، إذ يعتمد اقتصادها على التجارة العالمية، ولا تمتلك قوة بحرية عالمية قادرة على حماية طرق التجارة البحرية. وهذا يعني أن أستراليا يجب أن تكون لها علاقة وثيقة مع دولة تمتلك هذه القوة.
بعد المملكة المتحدة ومنذ عام 1945، أصبحت الولايات المتحدة هي الدولة التي تمتلك هذه القوة. وعلى رغم أن أهم علاقة تجارية لأستراليا هي مع الصين، إذ شهد عام 2015 ذهاب 29.6 في المئة من الصادرات الأسترالية إلى الصين، وجاءت 22.8 في المئة من الواردات الأسترالية من الصين، فإن علاقة التجارة البحرية لا معنى لها إذا لم تتمكن البضائع من الانتقال من دولة إلى أخرى، وهذا هو السبب وراء احتياج أستراليا إلى الولايات المتحدة، إذ تضمن الأخيرة أن التجارة البحرية ستتحرك بحرية ومن غير أدنى تهديدات مستقبلية.
أستراليا وخشية من نفوذ الصين
على أن حاجة أستراليا إلى الولايات المتحدة في واقع الأمر، وما يجعلها ترحب بأن تكون في تعاون لوجيستي طويل المدى مع واشنطن، لا يتوقف عند حدود المخاوف من مصالحها التجارية، فهناك ما هو أكثر أهمية وربما خطورة... ماذا عن ذلك؟
على رغم أن أستراليا تبعد أكثر من 2400 ميل عن الصين، وهي بذلك أقل عرضة جغرافيا للهجوم العسكري المباشر من بكين مقارنة بعديد من شركائها في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، مثل اليابان والفيليبين وتايوان، فإنها تشير أخيراً إلى وعي متزايد بالتهديدات المحتملة التي تشكلها الصين لمصالحها.
الذين طالعوا استراتيجية الدفاع الأسترالية الوطنية الأخيرة يدركون مخاوف الأستراليين من التكنولوجيا المحسنة التي قلبت الميزات الجغرافية التي تتمتع بها أستراليا منذ فترة طويلة، أي بعد المسافة.
في هذا الصدد تبدو ترسانة الصواريخ الصينية المتنامية، والعدوان المتزايد في المنطقة الرمادية، وترهيب شركاء الولايات المتحدة الآخرين في الممرات المائية بالمحيط الهادئ، أمراً مثيراً للقلق خصوصاً.
هذه المخاوف ليست مجرد نظرية، فقد كانت أستراليا ضحية لإكراه الاقتصاد الصيني، عندما قيدت الصين الواردات الأسترالية المختلفة بين أبريل (نيسان) 2020 ومايو (أيار) 2024 في أعقاب دعوة أستراليا المبكرة لإجراء تحقيق دولي في أصول كوفيد.
وفي كل الأحوال، فإن الانفصال المادي عن الصين، لن يجنب أستراليا التأثيرات الأوسع نطاقاً المترتبة على مواجهة القوى العظمى، لذا تعتزم أستراليا حرمان الصين من أي فرصة لتهديد أمنها من خلال جعل احتمالات ذلك شديدة الخطورة ومكلفة للغاية. وتحقيقاً لهذه الغاية، تعتزم قوات الدفاع الأسترالية دمج نفسها وتحديثها بصورة أفضل وتقييم الأخطار الاستراتيجية قبل أن تتجسد.
ما الذي تسعى إليه الاستراتيجية العسكرية الأسترالية في الوقت الحاضر بالشراكة مع الولايات المتحدة؟
قبل كل شيء الحفاظ على التوازن الأمني الإقليمي الحالي الملائم، وتعزيز النظام الدولي القائم على القواعد، وحماية الارتباط الاقتصادي لأستراليا ببقية العالم.
ستشهد العقود القادمة سعي كانبيرا إلى زيادات هائلة في موازنة الدفاع، بما في ذلك مضاعفة الإنفاق الدفاعي تقريباً في غضون 10 سنوات، من نحو 35 مليار دولار أميركي عام 2024 إلى أكثر من 66 مليار دولار بحلول عام 2033.
في هذا السياق تخطط الحكومة الأسترالية لتكثيف إنتاج وشراء المعدات العسكرية، وبناء قواعد عسكرية جديدة على ساحلها الشمالي وتعزيز الابتكار والإنتاج داخل قطاع الدفاع. ويشير هذا الارتفاع السريع نسبياً في الموازنة إلى إلحاح استراتيجية الدفاع الوطني ككل لتسريع المشتريات الدفاعية، على سبيل المثال تخطط البلاد لتغيير متطلبات إدخال أسلحة جديدة معينة وإعطاء الأولوية لسرعة الإنتاج فوق معايير أخرى.
هل تعتقد كانبيرا بدورها بأن الصين ستقدم على غزو تايوان وإرجاعها إلى التراب الوطني، وعليه فهي تبادر بفتح أبوابها أمام التحالف العسكري مع واشنطن؟
أستراليا قاعدة عمليات مركزية
في أوائل أغسطس الماضي أصدرت حكومتا الولايات المتحدة وأستراليا بياناً مشتركاً أكدتا فيه أهمية الحفاظ على السلام والاستقرار في مضيق تايوان ومعارضتهما التغيرات الأحادية الجانب للوضع الراهن في المنطقة.
هل توقفت الجهود الأميركية - الأسترالية عند فكرة المناشدة السلمية فحسب؟
حكماً هناك قناعة راسخة، وباتت تتردد كثيراً في الداخل الأميركي، قوامها أن حكومة شي جينبينغ، الرئيس الصيني لن تطيق صبراً أكثر من 2027، لإرجاع تايوان إلى التراب الوطني الصيني، سواء كان ذلك من طريق الغزو العسكري، أو الضغوط الدبلوماسية والتهديدات بالتدخل الحربي.
هنا بات جلياً أن حكومة حزب العمال الحالية في أستراليا تعمل على تكثيف تحويل البلاد إلى منصة حاسمة لحرب أميركية ضد الصين عبر منطقة المحيطين الهندي والهادئ، مما يضع السكان فعلياً في خط نيران حرب نووية محتملة.
في منتصف أغسطس الماضي أيضاً، نشرت صحيفة "ذا أستراليان" على صفحتها الأولى مقابلة "حصرية" مع عضو بارز في الكونغرس الأميركي، أعلن فيها أن أستراليا أصبحت "القاعدة المركزية للعمليات" للاستعداد الأميركي بصورة علنية لردع "العدوان الصيني".
العضو البارز هو رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأميركي، مايكل كول، الذي صرح للصحيفة بحقيقة نشر القاذفات الأميركية في القواعد الشمالية في أستراليا، ما من شأنه أن يمكن أميركا من فرض قوتها في جميع أنحاء المنطقة.
وقال ماكول في حديثه بعد زيارة استمرت 10 أيام لسيدني إن جغرافية أستراليا تقدم مزايا رئيسة للولايات المتحدة في سعيها للرد على "التهديد" الذي تمثله الصين. وأضاف أنها "القاعدة المركزية للعمليات في منطقة المحيطين الهندي والهادئ لمواجهة التهديد".
يمثل هذا خطوة أخرى في طريق تصعيد الوجود العسكري الأميركي والوصول إلى القواعد في أستراليا، وبخاصة في مختلف أنحاء شمال القارة الاستراتيجي، ويكتسب هذا زخماً وسط مخاوف في الجيش الأميركي والدوائر الحاكمة في شأن تعرض القواعد الأميركية الكبيرة في جزيرة غوام واليابان وكوريا الجنوبية والفيليبين للصواريخ الصينية.
تصريحات ماكول تلقي في واقع الأمر مزيداً من الضوء على الأجندة الحقيقية وراء اتفاقية "أوكوس"، لتزويد أستراليا بغواصات تعمل بالطاقة النووية من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، وصواريخ فرط صوتية بعيدة المدى وأسلحة أخرى عالية التقنية.
هل تستعد أميركا إذاً لحرب نووية مع الصين، تكون قاعدتها المتقدمة أستراليا؟
ماكول كان يؤكد أهمية النشر الدوري للغواصات النووية الأميركية من قاعدة سترلينغ البحرية قرب بيرث غرب أستراليا اعتباراً من عام 2027 إلى جانب شراكة تبادل التكنولوجيا "الركيزة الثانية التابعة لأوكوس لدمج أستراليا بصورة أكبر في قدرة صنع الأسلحة الأميركية".
ويشير هذا مرة أخرى إلى الاستعدادات لحرب نووية محتملة ضد الصين قبل وقت طويل من تسليم الغواصات الأميركية للبحرية الأسترالية في ثلاثينيات القرن الحالي والبناء النهائي لمثل هذه السفن في أستراليا في الأربعينيات.
وفي الخلاصة، يبدو أن الأميركيين يسابقون الرياح، في مواجهة دعوة شي جينبينغ المزعومة للقوات الصينية للاستعداد لغزو تايوان في غضون ثلاث سنوات، مما يجعل "الوقت جوهر المسألة الآن" على حد تعبير ماكول.
هل يجتمع الأستراليون عن بكرة أبيهم حول هذا التوجه، أي جعل بلادهم قاعدة عسكرية أميركية متقدمة في مواجهة الصين؟
المؤكد أن هناك أصواتاً أخرى ترى أنه لا يجب الدخول في مثل هذا الصراع مع الجار الأقرب، لا سيما أن مدن القارة الأسترالية وولاياتها لن تكون في منأى من صواريخ التنين الصيني، وهو ما صرحت به رئاسة الأركان للجيش الصيني في ردها على حيازة أستراليا غواصات يمكن أن تحمل صواريخ نووية، تطاول جميع الحواضن الصينية.
لمن الغلبة في الرأيين؟
هذا ما ستكشف عنه الأيام المقبلة.