Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

تحت عين الشمس... المرأة الريفية في يومها العالمي

تكافح لإطعام البشرية لكن حياة القرية لم تعد تلبي طموحات الفتيات بسبب الشقاء والتمييز وتدني الخدمات وندرة الفرص

تأتي نساء الأرض الحقيقيات كي يثبتن في كل مرة أنهن انتزعن صفة المرأة العاملة قبل قرون من ظهور حركات التحرر والمساواة (أ ف ب)

ملخص

16 عاماً مرت على تخصيص الأمم المتحدة الـ15 من أكتوبر (تشرين الأول) للاحتفال بيوم المرأة الريفية، إذ تأتي عليها هذه المناسبة وسط تحديات كبيرة بينها التغيرات المناخية، وهرب الأجيال الجديدة من الفتيات من فلاحة الأرض باعتبارها مهنة مجهدة لا تلبي طموحاتهن.

قبل أيام تصدر موقع "تيك توك" جدل حول ربات البيوت الريفيات بعد أن اكتسحت موضة النساء اللاتي يعملن في الحقل "تريند" الموقع الشهير، كما باتت أكثر انتشاراً على (ريلز) "إنستغرام" و"فيسبوك"، إذ تظهر امرأة بملابس محتشمة بموديلات قديمة مبهجة كثيراً ما ميزت النساء الريفيات كما يظهرن في الأفلام، تعتني بأبقارها ودجاجاتها، وتطعم أبناءها صباحاً حليباً طازجاً ثم تصنع الجبن بأنواعه، وتجمع البيض في سلة، وتطهو الغذاء معتمدة على ما تجود به مزرعتها من فاكهة وخضراوات ولحوم، وتلهو مع الصغار في الأرض الملونة بمختلف الثمار، بينما زوجها يقوم بأعمال المزرعة الأكثر صعوبة، منتعلاً حذاءً بلاستيكياً طويلاً مع ملابس منمقة من مشتقات اللونين البني والأخضر الزيتي عادة.

هذه البهجة المرسومة بعناية واحترافية، التي تحصد ملايين المشاهدات في وقت قياسي شهدت انقساماً في الآراء حولها، إذ يرى البعض أن ما يحدث هو استهانة بحياة النساء المزارعات المكافحات، وأن شهيرات الـ"سوشيال ميديا" يصنعن "تريند" مزيفاً من أجل الصورة فقط ليحصدن الإعجاب كنساء تقليديات بينما هن في الحقيقة لا يعرفن شيئاً عن هذا الواقع.

 

 

الرأي الآخر يرى أن في الأمر دعوة للرجعية وإعادة النساء إلى المنزل كي يتوقفن عن الحلم بالترقي العلمي والوظيفي، فيما انتشرت بالموازاة مع ذلك فيديوهات أخرى لنساء عاديات يزرعن ويحصدن ويربين الحيوانات ويطهون طعامهن على مواقد من الطين في الهواء الطلق، وهنا يرتدين ملابس أقل بهجة وأكثر عملية، ويعتمدن على الطرق القديمة للغاية في الأعمال المنزلية ويرضين بأقل القليل، وهي صورة مناقضة تحصد الانتشار كذلك، إذ إن حياة النساء الريفيات تلقى رواجاً على ما يبدو كونها تمثل عودة إلى مجتمع أكثر هدوءاً وأقل تنافسية.

الواقع يثبت أن وضع المرأة الريفية بعيد كل البعد من صورة نساء "إنستغرام" اللاتي يتبخترن في ثيابهن الشديدة الطول بصورة لا توائم أبداً طبيعة العمل في الحقل، والمصممة كي تخطف فقط عيون المتصفحين، وفي اليوم العالمي لنساء الريف تبدو الفجوة في اتساع متزايد بين الصورة النمطية الغارقة في القدم، التي صدرتها أدبيات متعددة وبينها الأفلام العالمية وحتى المحلية والأغنيات وأبرزها "محلاها عيشة الفلاح" لمحمد عبدالوهاب، وبين ما يجري في الواقع.

امرأة تطعم العالم

في خضم هذا الجدل تأتي نساء الأرض الحقيقيات كي يثبتن في كل مرة أنهن انتزعن صفة المرأة العاملة قبل قرون من ظهور حركات التحرر والمساواة، وعلى رغم الأوضاع الاجتماعية الشديدة القسوة التي عايشنها من شرق العالم إلى غربه منذ فجر التاريخ، فإنهن لم يتقاعسن يوماً عن أداء مهامهن في الإطعام وتقديم الغذاء للبشر في شتى أقطار الكرة الأرضية، حتى لو كن مهمشات ويحصلن على فرص قليلة وامتيازات زهيدة، ولكنهن يجتهدن ويكدحن ويخرجن من الأرض أفضل ما لديها، ويضعنه بأنفس راضية في الأفواه الجائعة، فهن مسؤولات عن نصف إنتاج العالم من الغذاء وفقاً لما تقوله الأمم المتحدة، التي اختارت بدورها الاحتفال باليوم الدولي للمرأة الريفية منذ عام 2008، ليوافق الـ15 من أكتوبر (تشرين الأول) من كل عام، تقديراً لإسهاماتها في الحفاظ على الأمن الغذائي، بل ومحاولات تقليل معدلات الفقر في مجتمعاتها الصغيرة كذلك، يكفي أن نعلم أن النساء يشكلن 90 في المئة من قوة العمل المخصصة لزراعة الرز في جنوب شرقي آسيا، بحسب بيانات المنظمة الدولية.

 

 

ولا يمكن بأية حال من الأحوال مقارنة الريف في نصف الكرة الشمالي كالريف الأوروبي مثلاً، بنظيره في آسيا وأفريقيا، فوفقاً لما تحكيه ليزا (اسم مستعار)، في بلدية بيرخن بمقاطعة ليمورغ جنوب شرقي هولندا، فإن قطاع المزارعين يتمتع بقوة هائلة ويمثل وسيلة ضغط لها تأثيرها، إذ إن هولندا ثاني أكبر مصدر للمنتجات الغذائية بعد الولايات المتحدة، والنساء لديهن دور أساس في صنع القرار حتى لو كن يعملن في مزارعهن إلى جانب الأزواج، إذ يشاركن في عديد من الاحتجاجات التي يتم تنظيمها اعتراضاً على قرارات الحكومة التي تؤثر في العملية الزراعية، كما أن الريف الأوروبي في نظر ليزا هو ملاذ استجمام وتدليل وراحة، بعيداً من صخب المدينة، ويعد بالنسبة إلى كثر اختياراً يدل على مستوياتهن المادية المرتفعة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ما تؤكده ليزا التي تعيش منذ خمس سنوات في هولندا، وبدأت في تربية بعض الطيور في حديقتها والحيوانات المدفوعة بالأجواء من حولها وبيسر الاعتناء بها، أن جميع الريفيات في شتى أنحاء الكرة الأرضية يتفقن في شيء أساس وهو الاستيقاظ مبكراً، لأن طبيعة مجالهن وطبيعة حياتهن تتطلب هذا الأمر، باعتبارهن مسؤولات عن إطعام الحيوانات والطيور وحلب الأبقار، وكذلك الاعتناء بالزوج والأولاد، فيما عدا ذلك تبدو المراعي الشديدة الاتساع وطريقة سير الأبقار بها وكأنها فيلم بالفعل، إذ إن النساء يجتهدن بكل الطرق في الاعتناء بحيواناتهن باستعمال آلات متطورة وطرق يسيرة لتوزيع الأكل والمشرب، ويساعدهن أن غالبيتهن نلن قسطاً وفيراً من التعليم، كما أن كثيرات منهن لديهن وظائف جيدة سواء من بعد أو في مؤسسات قريبة من المنزل يمكثن فيها لبضع ساعات، كما أنهن يبعن إنتاج المزرعة من البيض والجبن والآيس كريم والحليب من خلال آلات مخصصة ملحقة بالمزارع مما ييسر عليهن كثيراً، وعلى رغم مشقة مهام التنظيف فإنهن محترفات ومنجزات ويلجأن إلى مساعدة بعض الأدوات التكنولوجية.

نساء الأجيال الجديدة

على الجهة الأخرى، يبدو الريف في العالم العربي في نظر فئة لا بأس بها من الناس بمثابة عقاب، نظراً إلى تدني الخدمات الصحية والتعليمية به، وكذلك على مستوى البنية التحتية في غالبية مناطقه، مع ذلك لا تزال النساء هناك يناضلن ويكافحن على رغم التغييرات الهائلة التي كادت تقلب كيان وطبيعة الريف تماماً، فقديماً كان من المعروف أن النساء في الريف لديهن أدوار محددة، جميعها تصب في محاولات تنمية المحاصيل الزراعية والارتقاء بدخل الأسرة من طريق الإسهام في الاعتناء بالمواشي والمساعدة في الحصد والزرع جنباً إلى جنب مع الأزواج، لكن نظراً إلى التهميش المتوالي على مدى عقود سابقة، بخاصة أن الاهتمام الرسمي بأساسات الحياة في تلك المناطق ظل منخفضاً تماماً، لذا زال الاهتمام بدراسة تخصصات الزراعة والطب البيطري، وحاول الجميع الخروج من تلك الدائرة والبحث عن فرصة بديلة ومجالات عمل تدر دخلاً أكبر بسبب انخفاض العوائد المالية للعمل بالزراعة.

 

 

وعلى رغم أن الإحصاءات الرسمية في مصر لعام 2017 تشير إلى أن نسبة سكان الريف تصل إلى 57.6 بحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، كما أن بيانات تعود للفترة ذاتها جاءت على الموقع الرسمي للمجلس القومي للمرأة تقول إن النساء يمثلن 49 في المئة من سكان الريف، كما أن 42 في المئة من النساء المصريات يعملن في مجالات الزراعة، ونفس المؤسسة المعنية بقضايا النساء في البلاد تؤكد أن أكثر من 85 في المئة من الريفيات غير متعلمات، وأكثر من 80 في المئة منهن معيلات، كل هذه الأرقام لها دلالات تشير إلى الوضع المتأزم الذي يجعل مهنة الزراعة في مصر تضغط بقوة على ممتهنيها من النساء، إذ يؤكد المجلس القومي للمرأة في تقريره أن كثيرات منهن يعانين الفقر، ولكن نظراً إلى أن محاولات تصحيح الأوضاع لم تؤت ثمارها بصورة تضمن تحسين جودة الحياة وابتكار فرص عمل توازي طموح الأجيال الأصغر سناً، فإن التمرد على الأوضاع من قبل فتيات الأجيال الجديدة يأخذ صوراً مختلفة، لعل أولها الابتعاد عن مهنة الزراعة أو أي اقتصاد قائم عليها، ومن يحتكون بهذه المناطق يدركون جيداً أن نسبة النساء الريفيات بالمعنى المعروف تتراجع بصورة ملحوظة.

تشرح أم نادر، وهي امرأة ستينية تعمل في مجال الزراعة مع زوجها المسن، أن بناتها الثلاث لا يعرفن شيئاً عن أمور الفلاحة، وحتى ابناها الشابان على رغم أنهما نشآ في بيئة ريفية وكانت الزراعة مصدر دخل الأسرة الوحيد، لكنها تفسر ما أقدم عليه الأبناء من اختيار تخصصات تعليمية بعيدة كل البعد من الزراعة ومن ثم مجالات عمل تجعلهم يعيشون في المدينة، بأن ضيق ذات اليد كان دوماً عائقاً أمام الأسرة ولم يكن من السهل تلبية الحاجات على مدى عقود.

 

 

وتتابع الجدة التي لا تزال تعمل بيديها في الحقل وتعتني بالمواشي وتنتج الأجبان والخبز من خيرات الأرض "نحن مزارعون وسنظل هكذا، ولكن لا يمكنني فرض هذه المعيشة الصعبة على أبنائي وأحفادي، فعلى رغم أن نصف الأرض التي نزرعها نملكها والنصف الآخر مستأجر، فإن الظروف كانت صعبة على الدوام، وبين عام وآخر نفاجأ بقوانين جديدة تزيد من المعاناة، كما أن القرية لا يحدث بها أي تطور إلا في ما ندر، حتى خدمات الصرف الصحي غير موجودة".

القرية التي تقع في محيط محافظة الجيزة مثلها مثل قرى كثيرة، ثمة هموم مشتركة متعددة، وعلى رغم ذلك فلا يزال هناك جيل من النساء يتمسكن بالأرض على رغم سعيهن وسعي الأزواج الدائم إلى تحسين الدخل بامتهان مهن إضافية إلى جانب الزراعة. تتابع أم نادر "شقيقتي لديها أيضاً قطعة أرض تفلحها مع زوجها، وأبناؤهما يرفضون المساعدة فتضطر العائلة إلى استئجار عمال في مواسم الحصاد ونثر البذور، وهي تعمل في مكتب البريد المجاور ساعات عدة ثم تعود تستكمل مهام الفلاحة، وكذلك زوجها، إذ يتمسكان بالأرض بسبب التقاليد والأصول التي تربيا عليها، وهما يعلمان أن الأبناء والأحفاد لن يحتفظوا بالحقول أبداً، وسوف يسعون إلى بيعها والاستفادة من ثمنها".

قوة مكبوتة الرأي

وفقاً للأمم المتحدة فإن المرأة الريفية تنتج نحو 80 في المئة من الغذاء في الدول النامية، وتشيد بها تقارير المنظمة الدولية باعتبارها أول من يلمس عواقب التغيرات المناخية لأنها في الصفوف الأولى، تعمل وتربي الأبقار والطيور، لذا تحاول اكتشاف طرق مع الرجال للتكيف مع التقلبات المفاجئة في الطقس كي لا يخسروا المحاصيل أو الحيوانات، في حين أطلق الصندوق الدولي للتنمية الزراعية مبادرات عدة لدعم نساء الريف على مستوى العالم، إذ يصف الموقع الرسمي للصندوق النساء المزارعات بأنهن القوة الحقيقية والدافعة وراء المجتمع القروي، وعلى رغم ذلك يحظى الرجال بثمرة المجهود ويحصلون على موارد أكبر، ويضيف الموقع أن النساء "غالباً ما يثقلن بالأعباء المنزلية، بينما تمنع القواعد الاجتماعية كثيرات منهن من التعبير عن آرائهن."

 

 

بالعودة إلى أسرة أم نادر فإن المهن المتاحة بصورة عامة في محيط القرية كثير منها متعلق بعالم الزراعة والتدريس والمؤسسات الحكومية التي تقدم خدمات بسيطة والبيع والشراء، والنساء لديهن حظ قليل للغاية بها، وهو ما يجعل الصغيرات سناً يهربن إلى مجالات عمل تمكنهن من الحصول على وظائف ذات دخل معقول في المدن، كما أنهن لا يردن تكرار تجربة الأمهات أبداً، بحسب ما تشير الشابة العشرينية خديجة، التي تعتقد أنه سيأتي يوم وتختفي المرأة المزارعة في القرية، إذ إن زميلات جيلها والجيل السابق واللاحق لديهن التفكير والشعور أنفسهما، وطموحاتهن أكبر من الفرص التي توفرها هذه البيئة، إذ تعمل خديجة مسوقة عقارية في إحدى الشركات الكبرى بالقاهرة، ولا تحلم بأن تعيش بعد الزواج في قريتها بل تسعى إلى آفاق أكبر، مشيرة إلى أن بيئة القرية أفضل من ناحية الهواء الصحي والحياة الهادئة، ولكن مقابل ذلك هناك قلة في الخدمات بخاصة التعليم والصحة، وحتى تقنيات الزراعة نفسها تبدو عتيقة ولا تستخدم أساليب حديثة تعين المزارعين وتزيد من الإنتاجية.

اللافت أن الأسر التي تمتهن الزراعة في مصر تعتمد بصورة أساسية على إسهام النساء في تحسين الدخل من طريق تربية الطيور المنزلية وتصنيع الغذاء الريفي والبيع، وذلك وفقاً لما خلصت إليه الباحثة شيماء عبدالرحمن هاشم في دراستها "مساهمة المرأة الريفية في تحسين المستوى الاقتصادي للأسرة بمحافظة الشرقية"، والدراسة ذاتها أقرت بأن نسبة الأمية تتفشى بينهن، إذ إن أكثر من نصف المبحوثات أميات، وقد وصل عدد عينة البحث إلى 379 أمراً تعمل بالزراعة. وبطبيعة الحال فالأمية تقلص فرص الحصول على مهنة بعيداً من الفلاحة والبيع والشراء.

والأمر لم يختلف كثيراً في العراق، فبحسب بيانات الجهاز المركزي للإحصاء عام 2019 فإن ثلث نساء العراق ريفيات، ومع ذلك تواجههن عوائق ملموسة في ملفات الصحة والتعليم، والحقوق الاجتماعية ويتعرضن للتمييز بسبب النوع الاجتماعي، لذا فلا يأخذن نصيبهن عادة من ثمار المشاريع التنموية.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات