رأى رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر ومسؤولو حكومته أن مؤتمر الاستثمار الدولي الأول الذي عقدته الحكومة العمالية الإثنين الماضي ناجحاً، متفاخرين بتعهدات من القطاع الخاص باستثمار أكثر من 60 مليار جنيه استرليني (78 مليار دولار).
إلى جانب ستارمر شاركت وزيرة الخزانة راتشيل ريفز وتقريباً نصف وزراء الحكومة العمالية في المؤتمر إلى جانب رؤساء شركات عالمية ومحلية كبرى ومديري صناديق استثمار وغيرهم، وتباهي الحكومة العمالية بأن المؤتمر شهد تعهدات استثمار من القطاع الخاص بنحو 63 مليار جنيه استرليني (أكثر من 82 مليار دولار)، فيما لم يحقق مؤتمر الاستثمار الذي عقدته حكومة المحافظين العام الماضي برئاسة رئيس الوزراء السابق ريشي سوناك سوى تعهدات بنحو 39 مليار جنيه استرليني (51 مليار دولار)، فإن كثيراً من المحللين والمعلقين شككوا في أن تتحقق كل التعهدات الاستثمارية المعلنة، إضافة إلى أن مسؤولي حكومة المحافظين السابقة أكدوا لوسائل الإعلام أن قدراً من تلك التعهدات الاستثمارية "سبق أن قطعت في ظل حكومة المحافظين".
يذكر أن الحكومة الجديدة وضعت مسألة تشجيع الاستثمار الأجنبي والمحلي، بهدف زيادة النمو الاقتصادي إحدى أولوياتها منذ فوز حزب العمال الكاسح في الانتخابات مطلع يوليو (تموز) الماضي، ولعل ما يمكن استخلاصه بصورة أساسية من المؤتمر هو إعادة تأكيد رئيس الحكومة ووزيرة ماليته ووزير العمال وغيرهم على "استعادة الاستقرار" للمناخ البريطاني العام.
استقرار وبيروقراطية
وقال كير ستارمر أمام المؤتمر في جلسته الافتتاحية، إن حكومته عازمة على جعل الأمور أكثر وضوحاً في بريطانيا بما يمكن المستثمرين والشركات من وضع خططهم المستقبلية واستراتيجياتهم الاستثمارية، مؤكداً أن حكومته ستتجاوز فترة الاضطراب التي شهدتها الأعوام الأخيرة من حكم حزب المحافظين، التي شهدت تغيير رئيس الحكومة أربع مرات ووزير المالية ست مرات في غضون أعوام قليلة.
لكن رؤساء الشركات والمستثمرين على رغم تشجيعهم بخطاب حكومة "العمال" الجديدة الذي يبدو قريباً من يسار الوسط، ينتظرون ما ستحققه حكومته في ما يتعلق بخفض الإجراءات البيروقراطية، وعلى رغم تعهد حكومة كيير ستارمر تسهيل الإجراءات وتخفيض القواعد المنظمة للأعمال، فإن الإجراء الأول الذي صدر أخيراً هو قواعد حقوق العمال التي يعدها رجال الأعمال ومديرو الشركات عبئاً على أصحاب العمل.
ويعد الحديث عن تعديل الإجراءات والقواعد وتقليل القيود على الأعمال شيئاً فيما التطبيق شيء آخر، ولا يقتصر ذلك على حكومة لـ"العمال" أو "المحافظين"، إنما هو الفارق بين ما يعلنه السياسيون وما ينفذه الجهاز الإداري للدولة في الواقع العملي، وهذا ما يخشاه المستثمرون ومسؤولو الشركات والأعمال.
يبدو ما تطرحه الحكومة العمالية الجديدة مبهراً نظرياً، لكن بانتظار ترجمة ذلك إلى واقع ملموس لا يمكن الحكم على كم من التعهدات الاستثمارية التي أعلنت الإثنين الماضي سيتحقق، ومن ذلك على سبيل المثال، ما ذكره رئيس صندوق "بلاك روك" الاستثماري لاري فينك ورئيس شركة الأدوية الكبرى "إيلي ليلي" ديفيد ريكس في لقاء مع شبكة "سكاي نيوز"، إذ أشارا إلى أن قدوم الاستثمار إلى بريطانيا مرهون بتحقيق الإصلاحات المعلنة، مثل فتح الباب أمام القطاع الخاص للوصول للخدمات الصحية.
رأس المال المتردد
يسعى حزب العمال الحاكم لإثبات أنه مع حقوق العمال لإرضاء قاعدته الانتخابية من نقابات عمالية، وأنه مع تحسين الخدمات العامة لإرضاء غالبية الناخبين الذين صوتوا له في الانتخابات الأخيرة، وأنه مع تشجيع الأعمال والاستثمار الخاص لجذب رؤوس الأموال اللازمة لتنشيط الاقتصاد وتحقيق النمو. ويرى عدد من المعلقين والمحللين أن محاولة حكومة العمال الجمع بين الثلاثة: حقوق العمال والخدمات العامة والاستثمار الخاص قد تكون في غاية الصعوبة عملياً.
يقول لاري فينك، "دعونا نكون واضحين، بالنسبة إلى الرأسمالية فإنها حين تشم رائحة الفرص تهرع الأموال ناحيتها بسرعة، لكن أيضاً حين تشم رائحة المشكلات والعقبات تتبخر الأموال". صحيح أن الحكومة البريطانية بذلت جهوداً مضنية لإثناء موانئ دبي العالمية، المالكة لخطوط العبارات "بي أند أو" للعدول عن قرارها إلغاء استثمار مليار جنيه استرليني (1.3 مليار دولار) في بريطانيا قبل المؤتمر بيومين، لكن ذلك الاستثمار وغيره عرضة للعرقلة أيضاً.
شهد المؤتمر طرح حكومة "العمال" لخططها الطموحة التي تمثلت في إعادة إحياء "الاستراتيجية الصناعية" وتأسيس صندوق ثروة وطني واستراتيجية جديدة لبنك الأعمال البريطاني، وكل تلك الخطط المعلنة تبدو جيدة، لكن ما سينفذ منها يظل محل توقع وانتظار المستثمرين، الأجانب وحتى المحليين، ويتطلع الجميع إلى ما ستعلنه وزيرة الخزانة في أول بيان موازنة لها نهاية هذا الشهر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لم تستبعد رايتشيل ريفز في ردها على أسئلة الصحافيين على هامش مؤتمر الاستثمار، أي شيء ولم تؤكد شيئاً، ولم تستبعد فرض مستقطعات تأمينات اجتماعية على ما تدفعه الشركات والأعمال في معاشات التقاعد لموظفيها، وهذا أيضاً عبء إضافي على المستثمرين وأصحاب الأعمال، حتى وإن كان سيوفر للخزانة العامة ما بين 10 و20 مليار جنيه استرليني (13 و26 مليار دولار) سيتحملها أصحاب الأعمال.
استثمارات حكومية واقتراض
يتوقع أن تعلن وزيرة المالية كذلك تعديل الطريقة التي يحسب بها الدين الحكومي في بريطانيا لتعطي الخزانة العامة فرصة الاقتراض أكثر من دون خرق للقواعد، لكن في النهاية سيكون ذلك زيادة في عبء الدين على المالية العامة، من ثم سيطالب المقرضون لبريطانيا من المستثمرين في السندات وأدوات الدين الأخرى بعلاوة إضافية على استثماراتهم لزيادة الأخطار مع ارتفاع سقف الدين العام.
من شأن ذلك بالطبع أن يقلق المستثمرين حول الوضع المالي للحكومة وقدرتها على الوفاء بالتزاماتها، صحيح أن هذا التعديل في طريقة حساب الدين كنسبة من الدخل القومي أو الناتج المحلي قد يساعد في الحفاظ على التصنيف الائتماني لبريطانيا، لكن رؤوس الأموال شديدة الحساسية للسلامة المالية للدول التي تستثمر فيها.
كل ذلك إضافة إلى ما يمكن أن يتضمنه بيان الموازنة من أي ضرائب إضافية على أرباح رأس المال أو زيادة في الرسوم على الأجانب أو تعديل في قواعد الإعفاءات التي يتمتع بها المستثمرون كما في دول أخرى، وهنا، مهما كانت بيانات وخطط الحكومة جيدة وإيجابية فإن أصحاب رؤوس الأموال يهمهم ما سيدفعون وما سيحصلون عليه، وإذا لم تكن الحسبة مربحة فلن يضخوا الأموال في الاقتصاد البريطاني.