ملخص
"غالباً ما يكون أثر العقوبات المرتبطة بتجميد الأموال بالنسبة إلى الأفراد ضعيفاً في حال لم يكن للشخص المستهدف أموال خارج البلاد، كما أن عقوبة حظر السلاح لا تؤثر إذا كان لدى الطرف المستهدف مخزون كبير من الأسلحة والعتاد".
على رغم مرور ما يقارب ستة أشهر منذ أن بدأت سلسلة العقوبات الغربية على عدد من الشركات والمؤسسات التابعة لطرفي الحرب في السودان، بجانب قادة عسكريين ومدنيين متهمين بتأجيجها، بهدف معلن هو عرقلة قدرات الجيش وقوات "الدعم السريع" على إطالة أمد هذه الحرب، لكن المعارك لا تزال قائمة وتتصاعد حدتها، من دون أدنى أثر يذكر لتلك العقوبات على أرض الواقع، فلماذا فشلت في تحجيم قدرات الطرفين العسكرية وكبح تمدد الصراع؟
أحدث العقوبات
في أحدث إجراءاتها فرضت وزارة الخزانة الأميركية مطلع الأسبوع عقوبات على القوني حمدان دقلو، الشقيق الأصغر لقائد قوات "الدعم السريع"، لتورطه في شراء أسلحة وعتاد عسكري مكن تلك القوات من مواصلة عملياتها، بما في ذلك هجومها على مدينة الفاشر عاصمة شمال دارفور، وارتكاب فظائع ضد المدنيين، شملت وفق بيان لوزارة الخارجية الأميركية جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وتطهير عرقي.
وفي معرض ترحيبها بالعقوبات على القوني واعتبارها خطوة في الاتجاه الصحيح، أعربت الخارجية السودانية عن أملها في أن تشمل العقوبات الأميركية بقية قادة "الدعم السريع"، وكل الجهات التي تزودها بالأسلحة والأموال.
في السياق يرى أستاذ العلاقات الدولية مجاهد محمد الزين أن العقوبات المفروضة من الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي لم تحقق أية نتائج ملموسة على أرض الواقع، لأنها عمدت إلى الاستهداف الانتقائي لعدد من القيادات والشركات التابعة للطرفين بدلاً من تصويبها مباشرة نحو جسم المؤسسات المتقاتلة نفسها، على اعتبار أن الهدف هو الحد من قدراتهما على مواصلة القتال وإلزامهما بالقانون الدولي الإنساني ومراعاة حقوق الإنسان.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يعتبر الزين أن أكبر دليل حي وملموس على عدم فاعلية العقوبات الغربية يتجلى في التصاعد الكبير لحدة المعارك وتفاقم الانتهاكات ضد المدنيين بأكثر مما كانت عليه قبل العقوبات، مما يؤكد عدم تأثيرها بل وفشلها في قطع الطريق أمام تمويل وتوريد السلاح المؤجج الرئيس للحرب.
يشير الأكاديمي إلى أن أكبر نقاط الضعف في تطبيق العقوبات الدولية بصفة عامة بما فيها الصادرة عن مؤسسات دولية، تتمثل في فجوة الاستثناءات التي تجعل من تنفيذها شبه اختياري من دون إلزام قاطع، وترك الأمر للظروف والتقديرات الخاصة بكل دولة وفق مصلحتها الوطنية، فضلاً عن تمتع بعض الجهات المستهدفة بقدرة كبيرة على الالتفاف والتحايل على العقوبات بخاصة المرتبطة بتجميد الأرصدة المالية، التي غالباً ما تكون لديها بدائل أخرى لتمويل عملياتها العسكرية.
مواقف ورسائل
يلاحظ الزين أن العقوبات الغربية استهدفت شركات ومؤسسات في قطاعات التمويل والصناعة العسكرية والتسليح تابعة لطرفي الحرب، بجانب حجب تأشيرات الدخول للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لعدد من الشخصيات من الطرفين ممن يعتقد أنهم يؤججون الحرب، لكنها تركزت على القيادات الوسيطة ولم تطل رأسي الجيش و"الدعم السريع".
يردف "العقوبات الغربية بهذه الحصيلة الصفرية لا تعدو كونها تثبيتاً لمواقف وبث رسائل سياسية ودبلوماسية للتعبير عن التمسك بمجموعة القيم والمعايير الإنسانية الأساسية التي ظلت تتبناها وترى أهمية المحافظة عليها".
لكن مع ذلك يتوقع الزين أن تحقق العقوبات الأخيرة التي فرضتها الخزانة الأميركية على القائد القوني من دون غيرها، بعض التأثير في تحجيم دوره على المدى القصير، لجهة أن المستهدف هذه المرة هو المفوض المالي الأول لقوات "الدعم السريع" والمشرف على ملف تمويل جميع الأجهزة والواردات القتالية، بجانب كونه المشرف والمحرك للآلة الإعلامية لـ"الدعم السريع" من خارج السودان.
الدول والأفراد
من جهته يصنف المتخصص في القانون الدولي مدير مركز الخرطوم الدولي لحقوق الإنسان أحمد المفتي العقوبات الغربية إلى نوعين، ثنائية وهي تلك الصادرة من دولة أو مجموعة من الدول، وذلك عند الفشل في استصدار عقوبات أممية سواء بسبب حق النقض (الفيتو) أو غيره من الأسباب، وهي تتفاوت ما بين تجميد الأموال ومنع تأشيرات وحظر سلاح ومنع تمويل مشاريع.
يوضح المفتي أنه وعلى رغم الآثار الملموسة المتوقعة لمثل تلك العقوبات، "لكن تظل الدول تعرف كيف تتعامل معها، وكمثال لذلك العقوبات التي استهدفت روسيا بعد شنها الحرب على أوكرانيا"، مشيراً إلى أن أثر مثل تلك العقوبات يكون كبيراً في الأفراد، حتى لو لم يعترفوا بذلك.
يردف "غالباً ما يكون أثر العقوبات المرتبطة بتجميد الأموال بالنسبة إلى الأفراد ضعيفاً في حال لم يكن للشخص المستهدف أموال خارج البلاد، كما أن عقوبة حظر السلاح لا تؤثر إذا كان لدى الطرف المستهدف مخزون كبير من الأسلحة والعتاد".
واقع منفلت
على الصعيد نفسه يرى المحامي والناشط الحقوقي عبدالعزيز عثمان سام أن هناك أسباباً واقعية عدة وراء عدم فاعلية العقوبات المفروضة على طرفي القتال في السودان، وهي ترتبط بطبيعة الثقافة والعقلية التي تسيطر عليهما، وقدرتهما على المراوغة والتكيف مع العقوبات المالية لأن معظم أموالهم خارج النظام المصرفي وكذلك تعاملاتهم، فهم يحتفظون بثرواتهم في خزائن مالية مخبأة تحت الأرض أو في مساكنهم أو حتى داخل سياراتهم.
يتابع "على رغم التاريخ الطويل من العقوبات السابقة التي استهدفت مطلوبين سودانيين لدى المحكمة الجنائية منذ عام 2002، لكن جرائم الحرب نفسها ما زالت ترتكب بالبلاد حتى الآن، بينما يستمر الجناة نفسهم في المراوغة من دون أمل في تسليمهم للمحاكمة".
لذلك يرى سام أن "مثل تلك العقوبات ذات الطابع الدبلوماسي ثبت بالتجربة أنها لا تناسب قادة طرفي الحرب بالسودان، كما أن الاكتراث بالقانون ليس جزءاً من ثقافتهما وهي حقائق لا تدركها الدول الغربية حول طبيعة المتحاربين اللذين يفضلان القتال حتى الموت".
يوضح الناشط الحقوقي أن المستهدفين بالعقوبات غالباً ما يصورونها على أنها استهداف سياسي وشخصي، ويعمدون إلى مواجهتها بالتعبئة والحشود السياسية الجماهيرية مستغلين في ذلك عاطفة وجهل المجتمعات التقليدية، فضلاً عن أن هناك بعض الدول الحليفة تدعم توجهات حلفائها في التحايل على العقوبات بتوفير مخارج ومنافذ لتفادي الآثار المباشرة لها، من خلال ما يعرف بمقايضة المصالح في ظل الصراع الإقليمي والدولي الذي يوفر البيئة الملائمة لمقاومة العقوبات وكذلك الإفلات من العقاب.
لذلك لا يتوقع سام أن تحدث العقوبات الغربية المفروضة على بعض شركات ومنسوبي طرفي الحرب بالسودان أي تغيير على مستوى سلوك الطرفين المتقاتلين، أو في واقع الحرب المتصاعدة، مما يعني أن على الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والمجتمع الدولي كله البحث عن بدائل أخرى أكثر فاعلية وتأثيراً في طرفي الحرب.
توالي العقوبات
ومنذ بدء الحرب المندلعة بين الجيش السوداني وقوات "الدعم السريع" منذ منتصف أبريل (نيسان) العام الماضي، فرضت الولايات المتحدة عقوبات على القائد الثاني لقوات "الدعم السريع" وشركات كبرى أخرى مملوكة للجانبين.
ومنتصف مايو (أيار) الماضي فرضت واشنطن عقوبات على قائدين في قوات "الدعم السريع" هما علي يعقوب جبريل (الذي قتل لاحقاً في معارك الفاشر) وعثمان محمد حامد الشهير بـ"عثمان عمليات"، وذلك لدورهما في قيادة عمليات ومحاصرتهما لمدينة الفاشر وتعريض حياة مئات الآلاف من المدنيين للخطر.
لاحقاً وفي أواخر سبتمبر (أيلول) الماضي أعلنت الولايات المتحدة فرض عقوبات على وزير الخارجية السوداني السابق علي كرتي (الأمين العام للحركة الإسلامية السودانية)، بتهمة عرقلة جهود وقف إطلاق النار في البلاد ومناهضة التحول الديمقراطي.
كما فرضت وزارة الخزانة الأميركية عقوبات على "بنك الخليج" باعتباره جزءاً أساسياً من جهود قوات "الدعم السريع" لتمويل عملياتها، بجانب شركة الفاخر للذهب، مصدرها الرئيس لتمويل شراء الأسلحة.
تقويض الانتقال
كذلك أدرجت واشنطن ثلاثة مسؤولين من نظام الرئيس السوداني السابق عمر البشير، ضمن قوائم العقوبات، هم محمد عطا المولى (مدير جهاز الأمن الحالي)، وطه عثمان أحمد الحسين (المدير السابق لمكاتب البشير المتهم بتسهيل الدعم العسكري لقوات "الدعم السريع")، وصلاح عبدالله محمد الشهير بـ"صلاح قوش"، بتهمة مشاركتهم في أنشطة تقوض السلام والأمن والاستقرار في السودان، والعمل على إعادة عناصر من النظام السابق للسلطة وتقويض الجهود الرامية إلى إنشاء حكومة مدنية.
كما اعتمد المجلس الأوروبي آخر يونيو (حزيران) الماضي فرض حزمة أولى من العقوبات بحظر تمويل وتجميد أصول ستة كيانات متهمة بالضلوع في حرب السودان بدعم الأنشطة التي تقوض الاستقرار والانتقال السياسي في السودان، ملوحاً بمزيد من الإجراءات العقابية الإضافية المماثلة التي قد تطاول قيادات في مناصب عليا.
شملت العقوبات الأوروبية شركتين تعملان في مجال تصنيع الأسلحة والمركبات لصالح الجيش السوداني، هما "منظومة الدفاعات الصناعية"، وشركة "إس أم تي" للصناعات الهندسية، ومعهما شركة "زادنا" العالمية للاستثمار التابعة أيضاً للجيش، لكن يسيطر عليها قوات "الدعم السريع"، بجانب ثلاث شركات تابعة لقوات "الدعم السريع" متهمة بالتورط في تمويل شراء معدات عسكرية، وهي شركات "الجنيد" و"تراديف" و"جي أس كيه أدفانس".
عقوبات وفرار
كما شملت قائمة العقوبات أيضاً ثلاثة من قادة "الدعم السـريع" على رأسهم عبدالرحمن جمعة بارك الله، قائد قـوات "الدعـم السـريع" في غرب دارفور، والمستشار المالي للقوات مصطفى إبراهيم، وزعيم أهلي من قبيلة المحاميد، وكل من مدير منظومة الصناعات الدفاعية وقائد القوات الجوية من جانب الجيش.
ومع استمرار الحرب في السودان التي راح ضحيتها عشرات الآلاف توقعت المفوضية السامية لشؤون اللاجئين أن يتخطى عدد الفارين إلى خارج البلاد عتبة 3 ملايين شخص خلال الأسبوعين المقبلين.
وبينما تسببت الحرب في نزوح نحو 11.3 مليون شخص داخلياً حتى الآن، وفقاً لتقارير محدثة للمفوضية، عبر مليونان و947 ألفاً و27 شخصاً الحدود إلى دول الجوار من السودان، في وقت يواجه فيه أكثر من نصف سكان السودان البالغ 46 مليون نسمة انعدام الأمن الغذائي الحاد.