ملخص
على رغم من أن لجنتي تحكيم مهرجاني الدار البيضاء المغربي ووهران الجزائري كانتا مختلفتين كلياً عن بعضهما بعضاً كان مدهشاً أن تكون الأفلام التي أعلنت كل من اللجنتين فوزها بالجوائز الرئيسية في حفلتي الختام هي الأفلام نفسها
لا الجمهور في المدينتين نفس الجمهور ولا المناخ نفس المناخ ولا المهرجانان نفس المهرجانين وإن كانا يتشابهان في بعض السمات. فهما معاً مهرجانان "دوليان" إنما كل على طريقته ولجمهوره الخاص غايتهما عرض جديد الأفلام السينمائية العربية الآتية من شتى أنحاء العالم العربي. في العادة تكون الأفضلية في التظاهرات المماثلة إما لجديد المنتجات المحلية وإما للأفلام الآتية من القاهرة والنجوم الآتين من عالم التلفزة السورية. هذا البعد الأخير تحقق كالعادة لكن ما سبقه كان غائباً بشقيه. فعلى رغم أن الحكام كانوا هنا وهناك مختلفين تماماً لم يكن الفوز في نهاية الأمر لا لأي من الأفلام المحلية في أي من البلدين المعنيين ولا لأي من الأفلام القاهرية وهي عرضت بوفرة في الدار البيضاء كما في وهران. ولكن لماذا في هاتين المدينتين الواقعتين في أقصى بلدان العالم العربي في المغرب والجزائر تباعاً؟
ببساطة لأن ما يدور حديثنا من حوله هنا هو مهرجان سينمائي أقيم في الدار البيضاء للفيلم العربي ومثيل له أقيم بعده بأقل من ثلاثة أسابيع في وهران. إذاً كل واحدة من هاتين المدينتين العربيتين الجميلتين عرضت لجمهورها المحلي وأيضاً لضيوف استقبلتهم من بلدان عربية أخرى كذلك من بعض الجوار الأوروبي عدداً لا بأس به من شرائط عربية جديدة، فكانت المفاجأة الأولى هي الإقبال اللافت من الجمهور على مشاهدة الأفلام في ظاهرة كان يخيل لكثر أنها باتت منسية.
بلدان ناشئة سينمائياً
غير أن الأهم من ذلك كان في مكان آخر. فعلى رغم أن لجنتي التحكيم كانتا مختلفتين كلياً عن بعضهما بعضاً بين تلك التي حكمت في مهرجان عروس الأطلسي المغربية ومهرجان عروس المتوسط الجزائرية كان مدهشاً أن تكون الأفلام التي أعلنت كل من اللجنتين فوزها بالجوائز الرئيسية في حفلتي الختام هي الأفلام نفسها. ولكن بدا مدهشاً أكثر أن تأتي الأفلام الثلاثة من ثلاثة بلدان عربية لا عهد لها راسخاً في مجال الإنتاج السينمائي وهي تقع معاً أبعد ما تكون من أقصى المغرب العربي في أقصى المشرق العربي. ربما يكون الأمر مصادفة غريبة من نوعها. لكنها مصادفة لا بد هنا من التوقف عندها، بل ربما حتى استخلاص دروسها ومن الداخل تحديداً. ومن الداخل لأن كاتب هذه السطور كان رئيساً للجنة تحكيم مهرجان الدار البيضاء وكان جل ما شهده هناك قبل نحو شهر من الآن أنه أسهم في اختيار الأفلام الفائزة الثلاثة: "المرهقون" من اليمن، و"مندوب الليل" من السعودية، و"ميسي بغداد" من العراق - ترى هل يعرف القراء أفلاماً كثيرة آتية من أي من هذه البلدان؟ -، أجل كان الفوز في الدار البيضاء وعن جدارة نؤكد لكم لفيلم يمني وآخر سعودي وثالث عراقي. فهل بتنا هنا في حاجة إلى أن نستطرد لنقول إن نفس هذه الأفلام هي التي فازت بنفس الجوائز الأساسية في وهران؟ فما هو الدرس الذي يمكن أن نستنتجه من مصادفة كهذه؟
فيلم يمني
إذاً هي ثلاثة أفلام فرضت حضورها في المهرجانين معاً على لجنتي تحكيم لا علاقة لواحدة منهما بالأخرى وفي مدينتين خلال أقل من شهر واحد. آتية من ثلاثة بلدان في المشرق العربي في حدث لا سابق له لحد علمنا. أولهما هو اليمني "المرهقون" من إخراج عمرو جمال ويتناول موضوعاً اجتماعياً شديد الجرأة يتعلق بقرار يتخذه رب عائلة تتدهور به الأوضاع المالية على ضوء ما يحدث في بلده إلى درجة يقرر معها حين تحمل زوجته بطفل جديد أن الوقت قد حان للإجهاض لأن هذا الأخير سيكون عبئاً على الأسرة لا يطاق ويأخذ من درب إخوته تعليماً وغذاء. تقبل الزوجة بعد تردد وعلى مضض ليبدأ الفيلم مع الزوجين التعيسين رحلة البحث عن إمكانية الإجهاض وسط مصاعب مالية واجتماعية وإدارية تنهكهما تماماً، لكن المخرج وانطلاقاً من سيناريو بني بإحكام غريب من نوعه وإخراج متقشف يكاد يكون وثائقياً عرف كيف يقدم عبر إدارة ممثلين شديدة التقشف شريطاً يكاد ينتمي إلى السينما الرومانسية في بساطته الشكلية وعنفه التعبيري.
فيلم سعودي
وفي مقابل هذه السينما الفقيرة إنما من دون أن يحد فقرها من قوتها الفنية وتشويقية تسللها إلى داخل الشخصيات، تأتي سينما غنية بعض الشيء من السعودية التي لا تتوقف عن إدهاشنا منذ سنوات قليلة بعدما بدأت ثمار نهضتها الإبداعية الجديدة تظهر في حركة تصاعدية تمكنت عبر ما بات يقارب الآن العشرين فيلماً حققت بفضل جهود شخصية كما بفضل دعم رسمي عبر هيئة الأفلام تمكنت في البروز بشكل خاص عبر أربعة أو خمسة أفلام مميزة، بل لنقل جديرة بأن تعتبر وريثة للغة إنتاج أتت بدورها من السعودية. ميزة شرائط هيفاء المنصور التي نعرف أنها لم تنتظر الانفتاح السعودي على فن السينما قبل أن تبدأ مسيرتها البديعة في عالم السينما السعودية، كذلك في عالم قضية المرأة السعودية وصولاً إلى المرأة بشكل عام، عبر تحفتها "ماري شيلي" التي لا تزال في حاجة لأن تكتشف، بل حتى يعاد اكتشافها من قبل كتّاب كانوا استخفوا بها أول الأمر!
أما الشريط السعودي الجديد في هذا الإطار فهو "مندوب الليل" الذي حقق فوزاً مزدوجاً في الدار البيضاء أولاً ثم في وهران، اتجه بشكل خاص صوب مخرجه علي الكلثمي الذي قدم فيه واحداً من أبرز الأفلام السعودية حتى اليوم، وذلك من خلال ذلك الشاب الذي إذ يستغنى عنه في عمله المنتظم والمضمون يجد نفسه أمام أخطار الهبوط اجتماعياً والذي يبدو أشد قسوة في المجتمع، ولا يكون أمامه كي يواصل عيشه وإعالة عائلته إلا التجوال الليلي في عمل توصيل للمنازل يضعه أمام حقائق وأوضاع تكشف له كما لمتفرجي الفيلم أن الحياة الحقيقية في العاصمة السعودية ليس كما كنا نعتقد. "مندوب الليل" فيلم بسيط في عمقه وكاشف عما يدور على خلفية الصورة البراقة للحياة المحافظة، كاشف عن عمق حياة الليل والحياة بصورة عامة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فيلم عراقي
وإذا كان في مقدورنا اليوم أن نحيي النهضة السينمائية السعودية الجديدة والمباغتة على مجرد وصول هذا الفيلم بتقنياته المحكمة وجرأة موضوعه التي تكاد تفقأ العين وصورته التي تعطي ليل الرياض مظهر مدينة عادية بالمعنى الإيجابي للكلمة ولا سيما من دون تزويق أو ثرثرة، فإن في وسعنا أن نثني على العراق الذي يبعث الآن إلى مهرجانات شتى الفيلم الجديد "ميسي بغداد" من إخراج سهيم عمر خليفة الذي اقتبس من واقع الحياة حكاية حقيقية عن طفل حقيقي مولع بلاعب الكرة الأرجنتيني النجم ليونيل ميسي، عازماً على رغم الحرب أن يسير على خطاه ولكن بقدم واحدة بدلاً من قدمين، إذ فقد واحدة من قدميه في قصف عادي في بلد بات للقتل وفقدان الأطراف شديد العادية فيه، وهي رحلة لن يكون ميسي الصغير وحيداً فيها ولكن برفقة أبيه العامل أصلاً مع قوات الاحتلال ما يراكم المشكلات فوق المشكلات على رأس العائلة وسط بيئة طائفية معادية، وأم (قامت بدورها الرائعة زهراء غندور) تكاد تقول المأساة كلها بصمتها وبنظراتها التي تساوي ألف حوار وحوار. "ميسي بغداد" فيلم مميز يأتي من بلد نعرف أنه لا يكف منذ نصف قرن وأكثر عن تفويت مواعيده مع الفن السابع، ولكن ها هو هنا يضرب لنفسه معه وعبر هذا الفيلم موعداً جديداً يبدو واعداً بأكثر مما كان أي فيلم عراقي سابق له.
انضم "ميسي بغداد" إذاً إلى فيلمين يمني وسعودي لتقدم الأفلام الثلاثة معاً طرقاً جديدة لسينما عربية مفاجئة لعل أهم ما تتميز به معاً هو قبولها الحياة كما هي من دون غرق في الأيديولوجية التي اعتادت أن تطبع معظم ما هو جديد في السينما العربية التي دائماً ما زعمت لنفسها أنها جديدة ومن دون أن تعبأ حقاً للبهرج الإنتاجي حيث لا الفقير حقاً بدا فقيراً ولا الغني بدا غنياً. كان المطلوب هنا تحقيق أفلام تقول الحياة والمدهش أنها عُرِفت معاً ونعتقد أن كلاً منها هو أول إنتاج روائي لمخرجه، عرفت كيف تقوله بأبسط لغة ممكنة وذلك بإجماع لجنتي تحكيم توافقتا عبر مئات الكيلومترات في مدينتين عربيتين بديعتين.