Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"سوشيال ميديا" مصر: أحزاب خيالية وبرلمان افتراضي

منصات تمنح مساحة للاعتراض أو التأييد من دون قيود وعدم التفكير مرتين في اختيار الكلمات وانتقاء العبارات

يمضي المصريون قدماً في التعبير السياسي والنقاش الفكري فضائياً (مواقع التواصل)

ملخص

يشعر كثيرون في مصر أن المشاركة عبر الأحزاب السياسية ليست مجدية، وبعيداً من الأسباب التي يمكن توزيع الاتهامات فيها بين الحكومات المتعاقبة، قدمت الـ "سوشيال ميديا" نفسها لكثيرين كمادة خام لمن يرغب في أن يلعب دور الأحزاب السياسية المؤيدة أو المعارضة، أو حتى تلك التي لم تحسم أمرها.

جرأة وتعبير وصخب، وتضارب وتناقض وتطابق، وحرية وحرية مضادة ومطالبات بالتقييد والتقنين، وهتافات مدوية يعقبها بعضهم بتهديد ونذير، وبعضهم الآخر يهدئ ويطمئن. أيديولوجيات تعبر عن نفسها، وانتماءات لا تخجل أو تخشى من المجاهرة بما تطالب به وتعتبره حقاً أصيلاً، واستطلاعات رأي تقيس المزاج وتستشرف التوجهات وأخرى تجري تصويتات وتخرج بأعداد ونسب مئوية لاختيار هذا المرشح أو ذاك، وترتيب أولويات القضايا وطرح حلول إنهاء الاحتلال وتغيير الحكومة وتعديل السياسات وتطوير الأداءات.

على ساحات التعبير وعبر أحزاب مختلفة التوجهات وقنوات بعضها ينتمي إلى اليمين وبعضها الآخر يعبر عن اليسار، ومجموعة ثالثة تقف على جبهة عدم الحياد، يجري التصويت والنقاش على أداء الحكومة الجديدة وأسعار الوقود المعدلة وفوز الزمالك غير المتوقع ومدى الحاجة إلى القرض الجديد من صندوق النقد الدولي، وما يجب عمله وما يجب تفاديه في شأن الحرب الدائرة حالياً في الشرق الأوسط، والأسلوب الأمثل للتعامل مع أزمة سد النهضة، والوسيلة المثلى للتعامل مع استبعاد المنتخب المصري من كأس العالم، والقواعد المعمول بها لإعادة مصر على عرش القطن طويل التيلة، والأسس الواجب اتباعها بعد انضمام مصر لـ "بريكس"، وإلغاء الجيولوجيا في الثانوية العامة وتعديلات قانون البناء الموحد.

تحت القبة الافتراضية

تحت قبة الواقع الافتراضي وفي غرف اجتماعات مجموعات "واتساب"، وعلى صفحات الشد والجذب الاجتماعي، التواصل الاجتماعي سابقاً، ومن خلال ترغيب الـ "لايك" والـ "شير" وترهيب الإبلاغ والإيقاف، يمضي المصريون قدماً في التعبير السياسي والنقاش الفكري والجدل الاقتصادي والحراك الاجتماعي، مستخدمين حق اقتراح القوانين وسحب الثقة وتوجيه الاتهامات والاستماع إلى المرافعات وإصدار الأحكام وتدشين بنوك الأفكار وشن حروب التخوين تارة والتصويت على الثقة تارة أخرى، واختيار الزعماء، وتحديد أهل الثقة وإقصاء أهل الإفك والرعونة، وكل هذا يحدث على مدى اليوم، كل يوم، من دون الحاجة إلى انتظار مواعيد انعقاد الجلسات تحت قبة البرلمان، أو مناقشة جدول الأعمال في اجتماع المحافظين، أو لقاء الوزراء أو حتى حلقات النقاش على أثير الإعلام الرسمي وشبه الرسمي.

إنها ساحات التعبير الافتراضي والاعتراض أو التأييد من دون قيود، والمجاهرة بالرأي من دون تفكير مرتين في اختيار الكلمات وانتقاء العبارات، والمطالبة بالحقوق ولو كانت دون وجه حق، وإصدار الأحكام دون شرط الإلمام بقواعد القضاء أو نصوص القوانين.

إنها الأحزاب السياسية الشعبية والمجالس النيابية ابنة بيئتها، والبرامج الحوارية الإعلامية دون شرط الإعداد أو الإخراج أو التقديم.

محتوى ملياري

مليارات التدوينات والمنشورات والفيديوهات والصور والتعليقات والتعليق على التعليقات يولدها ما يزيد على 82 مليون مصري ومصرية هو تعداد مستخدمي الإنترنت في مصر، بحسب تقرير "حالة الساحات الرقمية لمصر 2024" الصادر عن موقع "داتا ريبورتال" المتخصص في دراسات وإحصاءات الاستخدامات الرقمية، وأكثر من نصف هؤلاء، وتحديداً 45.4 مليون مستخدم مصري لمنصات وتطبيقات الـ "سوشيال ميديا"، أي نحو 40 في المئة من مجموع المصريين، لا يألون جهداً في تحويل هذه المنصات الافتراضية إلى أحزاب سياسية ومجالس نيابية وغيرها من ساحات تعبير.

 

 

وهذا الجهد يشهد زيادة وتوسعاً وتوغلاً وتغلغلاً خلال الأعوام الأخيرة، وبصورة أكبر خلال الأشهر القليلة الماضية، تزامناً وتوازياً مع خفوت نجم الأحزاب من جهة، وما يصفه بعضها باتساع الفجوة بين المجالس النيابية ومن يمثلونها من عموم المواطنين.

ولت وأدبرت، وفي أقوال أخرى راحت صرعة الـ "سوشيال ميديا" باعتبارها أداة تمكين في زمن عز فيه التمكين ومنصة تعبير في وقت ضاقت فيه الساحات، فقد اتسمت الأعوام القليلة التي سبقت وتلت موجات ما يسمى بـ "الربيع العربي" بكم هائل من الدراسات والبحوث والتحليلات عن روعة المنصات وعظمة التطبيقات العنكبوتية، والتي تشجع وتسهل وتوفر سبل الاحتجاجات الشعبية والخروج على الحكام وإسقاط الأنظمة، وبعد خفوت الموجة بدأت أصوات خافتة في طرح أسئلة حول مرحلة ما بعد تمكين الجموع من الاحتجاج والثورة، ولا سيما أن كثيراً من دول "الربيع" وجدت نفسها إما في قبضة جماعات الإسلام السياسي أو في خواء "ماذا نفعل الآن؟"

ماذا نفعل الآن؟

لم تعد الغالبية تتطرق كثيراً إلى مسائل التمكين مثل سد الفجوات وردم الهوات، وهي فجوة متمثلة في تراجع دور الأحزاب السياسية بمختلف توجهاتها وخفوت أدوراها السياسية والاجتماعية، وحضورها في المجال العام والخاص وما بينهما، وهوة تتكرر في كل مرة تهيمن قضية أو حدث أو وضع على اهتمام القاعدة العريضة من المصريين، فلا يجدون في شاشات التلفزيون غايتهم النقاشية أو تحت قبة البرلمان أصواتهم الممثلة لهم حقاً.

خلال الأشهر القليلة الماضية اتضحت معالم الأدوار الكثيرة والمتشابكة التي باتت تلعبها الـ "سوشيال ميديا"، أو ربما نجح المصريون في تطويع الـ "سوشيال ميديا" لتقوم بلعبها، فقد غابت الأحزاب من حياتهم فتحول أثير المنصات إلى حراك سياسي شعبي تغلب عليه الفطرة ويهمين عليه مبدأ "من وحي اللحظة"، لكن في الوقت نفسه يقوم بمهمات نيابية ويؤدي أدواراً حزبية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

دراسة عنوانها "أثر شبكات التواصل الاجتماعي على المشاركة السياسية في مصر" للباحث أحمد محمد عبدالحليم محمد في جامعة بورسعيد (2021) أشارت إلى أن نصف من اُستطلعت آراؤهم قالوا إن استخدام شبكات التواصل الاجتماعي زاد وعيهم السياسي، وإن أهم القضايا التي يناقشونها على المنصات سياسية، والغالبية قالت إن الـ "سوشيال ميديا" تمنحها ما لم تقدمه وسائل الإعلام التقليدية بكل أنواعها، بما فيها المواقع الإلكترونية، ويقولون إن الـ "سوشيال ميديا" تعمل على تقليل الحواجز وتمكنهم من نقل الأفكار والآراء المتعلقة بمواضيع مختلفة بطريقة سهلة ومن دون تعقيدات أو مخاوف تذكر، وهذا يساعد في تبادل الآراء ويمكّن الجميع من التعبير عن الرأي.

المصريون والأحزاب

التاريخ المعاصر يشير إلى أن القاعدة العريضة من المصريين لا تميل أو لا تؤمن أو لا تلفت كثيراً لمسألة المشاركة الحزبية والاهتمام بالاطلاع على برامج الأحزاب المختلفة والمقارنة بينها، والبحث في إمكانات واحتمالات صعود هذا الحزب أو ذاك إلى السلطة، وأثر ذلك فيهم وفي حياتهم اليومية.

السياسي والكاتب مصطفى الفقي أشار في مطلع مقالة كتبها عام 2019 تحت عنوان دال هو "أزمة الأحزاب السياسية" إلى ما يردده كثير من محللي النظم السياسية عن أن المصريين لا يميلون إلى الحزبية بمعناها السياسي ودورها في إدارة البلاد، لكن الفقي يشير إلى أن الأحزاب المصرية بدورها لم تكن يوماً أحزاباً مطابقة للنمط الأوروبي، وذلك بالمفهوم الحديث لمعنى الحزب السياسي المعاصر، وأضاف أنه "لو تم تطبيقها بمعايير فقيه دستوري كبير مثل الفرنسي موريس دوفرجيه، فإن هذا يعني أن الأحزاب المصرية كانت تاريخياً تجمعاً بشرياً عفوياً، ولم يكن الانضباط الحزبي صارماً يوماً ولم تكن تشكيلات الأحزاب تتأثر بالمؤشرات العلمية الحديثة بالمعنى العصري للحزب السياسي".

وحدد الفقي مجموعة من العوامل المؤثرة في ازدهار الأحزاب السياسية مثل "توافر مناخ سياسي مفتوح يسمح بحرية الحركة ويتيح الأجواء التي تسمح بتخريج كوادر تملأ الفراغ السياسي، وتقود الحركة السياسية بحيوية ودماء متجددة، إضافة إلى وجود أهداف محددة لمجموعة بشرية تسعى إلى الوصول للسلطة، فإذا انتفت هذه الصيغة نكون أمام تجمع أقرب إلى مفهوم الجمعية التعاونية منه إلى التكوين الحزبي".

مشاركة غير مجدية

يبدو أن شعوراً ما يجمع بين كثيرين في مصر حول أن المشاركة عبر الأحزاب السياسية ليست مجدية أو لا تحقق الهدف من ورائها، أو تقوم على أسس شكلية أكثر منها جوهرية، وبعيداً من الأسباب التي يمكن توزيع الاتهامات فيها بين الحكومات المتعاقبة التي لم توافر للأحزاب بيئة مناسبة، وكذلك الأحزاب نفسها إما لضعفها أو هيمنة المصالح الشخصية على بعضها أو تسليمها بأنها جزءاً لا يتجزأ من النظام، أي نظام، فصارت حزباً على الورق ومؤسسة من مؤسسات الدولة على أرض الواقع، فإن منصات الـ "سوشيال ميديا" قدمت نفسها لكثيرين باعتبارها مادة خاماً لمن يرغب، بل وتلعب دور الأحزاب السياسية، سواء المؤيدة أو المعارضة أو حتى تلك التي لم تحسم أمرها بعد.

ما لا يقل عن 40 في المئة من المصريين يستخدمون الـ "سوشيال ميديا"، وعلى رغم عدم وجود دراسات أو بحوث تقيس نسبة الاهتمام بالسياسة والمشاركة بالتعبير عن الآراء والمناقشات والحوارات ذات الطابع السياسي، مقارنة بغيرها من المواضيع من قبل المستخدمين، فإنه بمتابعة محتوى المنصات وكذلك قياساً إلى ما تعكسه الوسوم الأكثر تداولاً وغيرها، يمكن القول إن ملايين الصفحات والحسابات تدخل في التعبير السياسي الشعبي بصورة واضحة وصريحة ومباشرة.

عصر ذهبي قصير

عاشت الأحزاب السياسية عصراً ذهبياً قصيراً، وبمعنى أدق سمح المصريون للأحزاب السياسية أن تعيش عصراً ذهبياً قوامه رغبة شعبية عارمة في التعرف إلى البرامج، وخطوات فعلية على الأرض للانضمام إلى هذا الحزب أو حضور فعاليات ينظمها آخر، وذلك لبضعة أشهر تلت أحداث يناير (كانون الثاني) 2011، وحدث ما حدث من سطوة التيارات الدينية والأحزاب التي قالت عن نفسها إنها مدنية لكنها دينية من ألفها إلى يائها، ثم وقعت أحداث الـ 30 من يونيو (حزيران) 2013 وتم التخلص من الحكم الديني المباشر ممثلاً في جماعة الإخوان المسلمين وحزبها "الحرية والعدالة" ورئيسها محمد مرسي، لكن انقشعت كذلك الأحزاب السياسية تدريجاً وتوارت لأسباب مختلفة تراوح ما بين الخلافات الداخلية وقلة التنظيم، والتفاف الغالبية حول الرئيس عبدالفتاح السيسي الذي لم يأت من حزب بعينه أو يؤسس حزباً أو يستند إلى أيديولوجيا سياسية تتطبق مع حزب أكثر من غيره، وأخيراً ضيق مساحة التعبير السياسي وأفول نجم الأحزاب لدرجة أن قلة قليلة فقط من المصريين القادرة على ذكر أسماء خمسة أحزاب سياسية من بين 104 أحزاب سياسية مسجلة رسمياً في لجنة شؤون الأحزاب.

أسماء الأحزاب

ربما قلة قليلة هي القادرة على تذكر أسماء حفنة من الأحزاب، لكن ما تضخه الغالبية من محتوى يتعلق بالسياسة، بغض النظر عن مدى قربه أو بعده من أرض الواقع، يشي بأن قطاعاً عريضاً من المصريين حوّل منصات الـ "سوشيال ميديا" إلى أحزاب سياسية تضج بالحياة والعراك، وتنضح بالرأي والرأي الآخر، وربما يكون كلاهما قائماً على وهم ومرتكزاً على خيال، فمحتوى ملايين الصفحات يشير إلى توافر مقومات الحزب السياسي بجميع عناصرها، رئيس الحزب أو صاحب الحساب ويحمل على عاتقه مسؤولية الأنشطة الحزبية، والعناصر التنفيذية للحزب والتي تقوم بمهمات التنسيق والمتابعة والإدارة والتأكد من أن مجريات الحزب تسير على ما يرام، أو أصدقاء رئيس الحزب من المتابعين الأوفياء ممن لا يترددون قبل الدق على الـ "شير" وعمل الـ "لايك" والتعليق الإيجابي وإحياء التدوينات والمنشورات من سباتها، وبعث الحياة فيها بشتى الطرق العنكبوتية.

 

 

وهناك أعضاء الحزب ممن يمرون على صفحة الرئيس فيقرأون ويتناقشون ويقترحون ويؤيدون عبر إعادة النشر والتدوين، ولا يكتمل الحزب من دون أعدائه ومنافسيه، ومنهم من يمر على الصفحات بهدف الاطلاع على "قضية اليوم" سواء كانت زيادة أسعار البنزين أو أثر هجمات الحوثيين في إيرادات قناة السويس أو قرب التحول من الدعم العيني إلى النقدي، أو تعامل مصر مع أزمة غزة أو جدوى عاصمة جديدة في ظل أزمة اقتصادية كبيرة، أو رد فعل مصر على توسيع دائرة الصراع ودخول لبنان على الخط أو تعويم الجنيه أو إلغاء اللغة الفرنسية من الثانوية العامة، أو حرب شرائح الكهرباء والتصالح في المخالفات وسداد ديون صندوق النقد الدولي، والأنشطة الحزبية الشعبية لا تعترف بأن ساعات العمل قد انقضت أو أن وقت النوم قد حان.

مؤسسات بلا ثقة

على رغم الدور الحاسم والمهم والكبير الذي تلعبه الأحزاب السياسية في معظم الدول التي فيها أحزاب سياسية، لكنها تصنف دائماً بين المؤسسات الأقل ثقة في معظم دول العالم، وذلك بحسب دراسة عنوانها "الأحزاب السياسية والرأي العام في مصر" نشرها منتدى البدائل العربي للدراسات (2014)، حيث تتعاظم معضلة عدم الثقة في مصر عبر مختلف الأزمنة.

وتشير الدراسة إلى ارتفاع سقف توقعات المصريين في ما يتعلق بدور الأحزاب في أعقاب أحداث عام 2011، لكن استطلاعات الرأي تشير إلى إصابة كثيرين بخيبة أمل في حجم والدور الفارق الذي يمكن للأحزاب أن تلعبه على الساحة السياسية، واليوم وبعد مرور عقد كامل يمكن القول إن المسألة تطورت من خيبة أمل في قدرة الأحزاب السياسية إلى غيابه تماماً، وتحول كتلة شعبية ضخمة صوب الـ "سوشيال ميديا" بديلاً مريحاً للتعبير، ومنصة شبه آمنة للاعتراض، وصمام آمن متوافر، فالكهرباء غير مقطوعة وباقة الإنترنت لم تنفد.

وحتى اقتراح القوانين وإبداء الرأي في السائد فيها، والاعتراض على ما تجري مناقشته تحت قبل البرلمان، والمطالبة بتعديل دستوري وتصحيح مسار النظام الديمقراطي، أو طرح رؤى لضمان السلام الاجتماعي وتعديل معاهدات دولية في ضوء أحداث إقليمية، وغيرها من مهمات تقوم بها المجالس النيابية، صارت أنشطة تمارسها الملايين على الأثير.

نشاط ملاحظ

في عام 2023 شهد الأثير العنكبوتي نشاطاً شعبياً ملاحظاً تزامناً مع كل من حرب غزة من جهة واحتدام حدة الأزمة الاقتصادية من جهة أخرى، فمجلسا النواب والشيوخ، على رغم أخبار بعض الجلسات ومقتطفات من مناقشات تجري تحت قبة هذا أو ذاك، يعانيان فجوة كبيرة في علاقتهما بالمواطن العادي، ويباعد بينهما وبين الملايين هوة سحيقة لدرجة أن كثيرين لا يعرفون أن "مجلس الشعب" أصبح "مجلس النواب"، وأن هناك مجلساً للشيوخ من الأصل.

أحدث دراسة أجريت على أداء مجلس النواب تعود لعام 2021 حين أصدرت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية في ذلك العام دراسة تحليلية لتقييم حصاد مجلس النواب المنتهية ولايته (2015 – 2020)، تطرقت إلى إحجام المجلس عن استخدام أدواته المتاحة، واقتصار السجل التشريعي في معظم الأحوال على إقرار تشريعات مقدمة من الحكومة مباشرة من دون تعديلات تذكر، مع غياب الأدوات الرقابية.

 

 

ونوهت الدراسة إلى الصعوبة الجمة في الوصول إلى المعلومات اللازمة لإنجاز الدراسة، ولا سيما أن جلسات المجلس لم تعد تذاع على الشاشات، ناهيك عن خلو الأخبار التي يصدرها المجلس ويوزعها من أية معلومات تفصيلية عن أداء الأعضاء، والأدوات الرقابية التي تستخدم، وعلى رغم أن هذه الدراسة تتطرق إلى تعامل المجلس مع ملف الحريات الدينية بصورة خاصة، فإنه يمكن تعميم نتائجها ولا سيما في ضوء تضاؤل شغف الشارع بمتابعة ما يحدث تحت قبل البرلمان.

تضاؤل الشغف

تضاءل الشغف بالبرلمان لا يعني تضاؤل الاهتمام بتقليد البرلمان أو محاكاته عبر الأثير، فهناك محاكاة شعبية تُجري استطلاعات للرأي وتصويتاً بالنسب المئوية حول مقترحات قانون لتنظيم مواقف سيارات الأجرة، أو تجريد إسرائيل من عضوية الأمم المتحدة، أو إعادة اللغة الفرنسية للمواد التي تدخل في مجموع شهادة الثانوية العامة، أو اتخاذ خطوات مختلفة في ملف سد النهضة، أو إخراج القليوبية من مسمى "القاهرة الكبرى"، أو مقاطعة "الجزارين" بعد ما كسر الكيلوغرام حاجز الـ 400 جنيه، أو المطالبة بوقف عجلة قروض صندوق النقد الدولي، أو سحب لقب "أمير الغناء العربي" من المطرب هاني شاكر، وآلاف غيرها من القضايا والمقترحات والسياسات، وكل ذلك تحت قبة الـ "سوشيال ميديا".

جدوى التعبير

الطريف أن العالم اختلف حول الجدوى من طرح الآراء وفتح أبواب المناقشات السياسية وعمل استطلاعات رأي حول مسائل إستراتيجية وعسكرية وأمنية واقتصادية واجتماعية عبر الأثير، ففريق يحذر من قدرة الـ "سوشيال ميديا" الفائقة على زرع الفتنة ونثر الاستقطاب ونشر الفوضى جراء تحويل المنصات إلى ساحات تبادر أفكار سياسية لا تلبث أن تتحول إلى نزالات لديها القدرة على الانتقال إلى المجتمع فعلياً، وفريق آخر يرى أن الدخول في السياسة على الـ "سوشيال ميديا" حرية تعبير تكفلها الديمقراطية، وحجبها أو تنظيمها يحول الديمقراطية إلى ديكتاتورية.

وبينما ينشط ملايين المصريين عبر الأثير محولين هذه المنصة إلى نشاط حزبي محموم من دون وجود الحزب على أرض الواقع، أو متخذين من أخرى قاعة لمناقشة السياسات والتصويت على القوانين والاعتراض على معاهدات وسنّ مواثيق جديدة، أو مكتفين بلعب دور الأعضاء بين مؤيد عبر تعليق أو معارض عبر الإبلاغ سراً عن التدوينة، يعقد آخرون حلقات نقاش لهيئات الأحزاب الخيالية الافتراضية العليا، أو يصوتون على قوانين لم ولن تخرج إلى نور الواقع بعيداً من ملأ المنصات وعلانية التدوينات، وذلك في أحضان مجموعات "واتساب" المغلقة على أعضائها، وغيرها من تطبيقات تضمن قدراً أوفر من السرية ومساحة أكثر انتقائية في اختيار هيكل الحزب الافتراضي ومكون البرلمان الخيالي.

ولا يزال العالم غارقاً في مناقشة مساوئ ومنافع الاستخدامات السياسية للـ "سوشيال ميديا"، وهل ينبغي مراقبة المحتوى أو تنظيم المشاركة، أما في مصر فقد اجتاز المصريون هذه المرحلة واتخذوا من الأثير أحزاباً ومن المنصات قاعات تحت قبة البرلمان، لكنها جميعاً افتراضية وينتهي أثرها وتتبدد حماستها بالدق على زر "أوف" وتسويد الشاشة.

المزيد من تحقيقات ومطولات