ملخص
تواجه المملكة المتحدة تحديات في الحفاظ على فاعلية ووحدة منظمة الكومنولث، فهي مطالبة اليوم بدفع تعويضات عن تجارة الرقيق التي كانت تمارسها في مستعمراتها السابقة، ويجب عليها مساعدة دول المنظمة في مواجهة مشكلاتها المالية والاقتصادية والأمنية، كي تضمن وقف التمدد الروسي والصيني فيها.
قبل نحو ثلاثة أسابيع تنازلت المملكة المتحدة عن جزر شاغوس لمصلحة دولة موريشيوس مقابل الاحتفاظ بقاعدة عسكرية فيها، ومع تخلي لندن عن الجزر الواقعة في المحيط الهندي أصبحت الشمس تغيب عملياً عن "الإمبراطورية البريطانية" التي حكمت خلال القرن الـ19 نحو ربع مساحة اليابسة في الكرة الأرضية ونحو 23 في المئة من سكان العالم.
والغياب في دلالته الطبيعية جاء متأخراً عن وقوعه سياسياً واقتصادياً، فجميع الدول التي كانت مستعمرات للمملكة المتحدة تحررت واستقلت عنها خلال القرن الماضي، وإن احتفظت 14 منها بالملكية في نظامها السياسي حتى اليوم فهذا لا يعني أن ملك بريطانيا يقرر شؤونها، أو أن قراراتها تناقش مع ساكن المنزل رقم 10 وسط العاصمة لندن.
56 دولة كانت مستعمرة بريطانية سابقاً تشكل مع المملكة المتحدة حالياً منظمة الكومنولث التي ولدت بصيغتها الحالية رسمياً عام 1949، قادتها منذ التأسيس الملكة الراحلة إليزابيث الثانية حتى وفاتها عام 2022 ثم خلفها نجلها الملك تشارلز الثالث، وبين الأم والابن فارق ملحوظ في ولاء الأعضاء للمنظمة وعلاقتهم مع الدولة البريطانية.
في مدينة آبيا عاصمة ساموا جنوب المحيط الهادئ يشارك تشارلز هذه الأيام في القمة الـ28 للكومنولث إلى جانب رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، ومع ضعف تمثيل دول كبيرة مثل الهند وجنوب أفريقيا في القمة تجددت التساؤلات القديمة حول مستقبل المنظمة وجدوى استمرارها بصورتها الراهنة والتحديات التي تواجهها داخلياً وخارجياً.
رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي ورئيس جنوب أفريقيا سيريل رامافوزا فضَّلا حضور قمة بريكس في روسيا على اجتماع الكومنولث، ولم ترسل سريلانكا رئيس وزرائها ولا وزير خارجيتها إلى ساموا وكذلك كندا الحليف الوثيق للمملكة المتحدة، إذ أكد مسؤول فيها أن رئيس وفدها سيكون المفوض السامي لأوتاوا لدى بريطانيا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تفضيل الهند وجنوب أفريقيا قمة "بريكس" يبرز وفق تقرير لمجلة "بوليتيكو" مشكلة ضعف رهان أعضاء "الكومنولث" على منظمة تجمع نحو ثلث سكان الكوكب وتعد التجمع الأكثر تنوعاً عالمياً في الثروة والحجم والجغرافيا والتركيبة الدينية، لذلك هم يبحثون عن مصالحهم في العلاقات مع دول مثل الصين وروسيا "خصوم" المملكة المتحدة.
الصين على وجه التحديد تبدو أكثر خطورة في التوغل داخل المستعمرات البريطانية، وتقول وزيرة التجارة البريطانية السابقة بيني موردونت التي حضرت اجتماع رؤساء حكومات الكومنولث عام 2018، إن "بلادها يجب أن تغتنم قمة ساموا لتعزيز العلاقات مع دول المنظمة ومنحها بدائل للمال الصيني المتدفق عبر التجارة والاستثمار".
وهناك استعداد بريطاني رسمي لهذا وفق بيانات رسمية صادرة عن الحكومة العمالية الجديدة، لكن قادة دول الكومنولث لا يفضلون بحث الأمر في القمة الراهنة ويتطلعون لمناقشة قضية التعويضات التي يجب أن تدفعها لندن إلى ضحايا العبودية التي مارستها المملكة البريطانية حكومة وعائلات على مدار ثلاثة قرون تقريباً في مستعمراتها السابقة.
وبدأت بريطانيا بتجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي عام 1562، وبحلول ثلاثينيات القرن الـ18 تصدرت المجال عالمياً، إذ كان الطريق من أوروبا إلى أفريقيا ثم الأميركيتين والعودة إلى القارة العجوز مربحة للغاية للمملكة المتحدة، وسيطرت عليها السفن الإنجليزية المبحرة من مدن ليفربول ولندن وبريستول بدعم من غلاسكو ولانكستر.
الموقف البريطاني رافض لمناقشة قضية التعويضات التي تقدر قيمتها بأكثر من 200 مليار دولار، وقد عبر عنه رئيس الوزراء كير ستارمر والملك تشارلز الثالث وبخاصة أنها غير مدرجة على جدول أعمال قمة ساموا وفق متحدث باسم المنزل رقم 10 في لندن، ولكن ذلك لم يوقف المؤتمرين من ذكرها صراحة في مسودة البيان الختامي للقمة.
وتقول هيئة الإذاعة البريطانية إن ستارمر والملك تشارلز الثالث لم يتمكنا من عرقلة الإشارة إلى "تعويضات العبودية" في ثلاث فقرات ضمن البيان الختامي لـ"ساموا"، وهذا يعني أن المملكة المتحدة لن تستطيع بعد الآن تجنب النقاش والمماطلة في بحث هذه القضية المكلفة التي ستتحول إلى عنوان رئيسي لقمم المنظمة التي تعقد مرة كل عامين.
أقر برلمان المملكة المتحدة أكثر من 100 قانون يدعم تجارة الرقيق عندما كانت شرعية، وحين أصدر قانون إلغاء العبودية عام 1833 حرر 800 ألف أفريقي كانوا آنذاك "أملاكاً" لبريطانيين، ولكنه أقر أيضاً تعويض ملاك الرقيق فخصصت الحكومة حينها 20 مليون جنيه استرليني لهذا الغرض تعادل في العصر الحديث نحو 17 مليار جنيه.
وبحسب وزير خارجية جزر البهاما فريدريك ميتشل "سيستغرق بحث تعويضات العبودية بعض الوقت حتى يغير الناس رأيهم ولكنهم سيفعلون ذلك في نهاية المطاف"، لافتاً إلى أن "العدالة التعويضية يمكن أن تكون مالية أو عبر تخفيف الديون والاعتذار الرسمي والبرامج التعليمية، وبناء المتاحف والدعم الاقتصادي والمساعدات الصحية".
المرشحون الثلاثة لمنصب الأمين العام المقبل للكومنولث شيرلي بوتشوي من غانا، وجوشوا سيتيبا من ليسوتو، ومامادو تانجارا من غامبيا، يتبنون مبدأ العدالة التعويضية كشرط أساس لتعزيز العلاقات بين دول المنظمة والمملكة المتحدة، وجميعهم يصرون على أن تكون هذه القضية هي العنوان رقم واحد على أجندة قمة المنظمة بعد عامين.
وفق تصريحات صحافية، كان يأمل ستارمر أن يبحث مع قادة الكومنولث قضايا راهنة مثل المناخ وديون دول المنظمة للمؤسسات المالية الدولية، ولكن النائب العمالي جون ماكدونيل قال إن "حجة ستارمر بالتركيز على المستقبل بدل البحث في الماضي تعكس ضعفاً في فهم أهمية هذه المسألة وتكرر سياسة حزب المحافظين المخيبة للآمال".
برأي الباحث في "معهد دراسات الكومنولث" هارشان كوماراسينغهام يشكل التنوع الكبير للمنظمة اقتصادياً وديموغرافياً وجغرافياً فرصة كبيرة للندن عالمياً، فيما يرى الباحث في مؤسسة "تشاثام هاوس" سمير بوري أنه يجب على بريطانيا الوفاء بوعودها لمستعمراتها السابقة كي لا تتحول قمم الكومنولث إلى منصة للمجاملة والحديث فحسب.