بعد حكم استمر أكثر من 75 عاماً، رحلت الملكة البريطانية إليزابيث الثانية الأسبوع الماضي، ليرث العرش ابنها الأكبر الذي انتظر المنصب طويلاً. لن يتولى الملك تشارلز الثالث قيادة المملكة المتحدة فحسب، بل أصبح أيضاً رئيساً لأربعة عشرة دولة مستقلة أخرى كانت في السابق مستعمرات بريطانية، بما في ذلك كندا ودول أخرى عبر آسيا والمحيط الهادئ ومنطقة البحر الكاريبي، والتي تعرف باسم "عوالم الكومنولث".
تتشكل عوالم الكومنولث من 150 مليون نسمة، وأكثرهم سكان المملكة المتحدة وكندا وأستراليا وبابوا غينيا الجديدة ونيوزيلندا. وهي تختلف عن دول الكومنولث، المجموعة المكونة من أربعة وخمسين دولة كانت ذات يوم جزءاً من الإمبراطورية البريطانية، لكن معظمها لم يعد خاضعاً للنظام الملكي في أعقاب موجة إنهاء الاستعمار التي حدثت بعد الحرب العالمية الثانية، حيث استقلت عشرات الدول وتخلصت من الملكية واستبدلوها بالنظام الرئاسي، وهي العملية المستمرة حتى الآن، حيث كانت بربادوس آخر دولة تركت النظام الملكي في عام 2021.
ووفقاً لمجلس العلاقات الخارجية الأميركي، فإن 17 دولة تركت التاج الملكي في عهد الملكة إليزابيث. وفي حين اعترفت أكثر من 12 دولة بتشارلز الثالث كرئيس، فإن هناك ما يثير التساؤلات والترقب في شأن وضع الدول التي ما زالت تابعة للنظام الملكي لا سيما بعد رحيل الملكة الأكثر شعبية.
مؤشرات مقلقة
بعد يوم واحد من وفاة الملكة إليزابيث الثانية، أعاد النائب في البرلمان الأسترالي آدم باندت إثارة النقاش من خلال دعوة البلاد إلى قطع علاقاتها مع التاج البريطاني. وهي دعوة من المتوقع أن تحظى ببعض الدعم ليس فقط في أستراليا لكن أيضاً في دول الكومنولث الأخرى مثل نيوزيلندا المجاورة وأجزاء من منطقة البحر الكاريبي، حيث يشغل ملك المملكة المتحدة منصب رئيس الدولة، بحسب مجلة "فوربس" الأميركية. وكان باندت، زعيم حزب الخضر التقدمي في أستراليا، أعرب عن حزنه على وفاة الملكة على "تويتر"، لكنه دعا أستراليا إلى "المضي قدماً" بقطع العلاقات مع النظام الملكي البريطاني والتحول إلى جمهورية.
في حين لا يزال الدعم الكندي للانفصال عن النظام الملكي متراجعاً، لكنه ينمو بشكل كبير. ففي أبريل (نيسان) الماضي، أظهر استطلاع لمعهد أنجوس ريد، مؤسسة أبحاث كندية غير حزبية، أن 51 في المئة من الكنديين يعارضون استمرار العاهل البريطاني رئيساً لدولتهم لأجيال قادمة، مقارنة بـ26 في المئة يؤيدون البقاء. ووفقاً للاستطلاع، يعارض 67 في المئة من الكنديين تشارلز كملك ورئيس رسمي لدولة كندا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويبدو أن المشاعر المعادية للملكية أقوى في أجزاء من منطقة البحر الكاريبي، حيث يرتبط الحكم البريطاني بتاريخ العبودية، وحيث قوبل الأمير وليام وزوجته كيت باحتجاجات خلال زيارتهم الأخيرة للمنطقة، إلى جانب دعوات للاعتذار وتعويضات عن الرق. وبدأت جامايكا، الدولة الكاريبية الأكثر سكاناً في عالم الكومنولث، عملية الانتقال إلى الجمهورية في يونيو (حزيران). ومن المتوقع أن تزيل الملك البريطاني من رئاسة الدولة قبل الانتخابات العامة المقبلة في عام 2025.
وفي سبتمبر (أيلول) 2020، أعلنت ميا موتلي، رئيسة وزراء بربادوس، قائلة "حان الوقت لترك ماضينا الاستعماري وراءنا بالكامل"، وسرعان ما حلت ساندرا ماسون، التي كانت سابقاً الحاكم العام للجزيرة، رئيساً للبلاد بدلاً من الملكة. قبل باربادوس، كانت موريشيوس آخر دولة قطعت علاقاتها مع النظام الملكي البريطاني، في عام 1992.
وفي نيوزيلندا، قالت جاسيندا أرديرن، رئيسة الوزراء الحالية، إنها تتوقع أن تصبح بلادها جمهورية "خلال حياتها". وقبلاً في عام 2016، قال زعيم حزب العمال النيوزيلندي آنذاك، أندرو ليتل، إن "نهاية عهد الملكة الحالية سيكون وقتاً مناسباً لمناقشة ترتيباتنا الدستورية. هل ما زلنا نريد أن يعيش رئيس دولتنا في لندن؟ أم نريد أن نفعل شيئاً آخر"؟ ومن ثم يعتقد مراقبون أن وفاة الملكة إليزابيث ستمنح فرصة للآخرين لتحقيق الانفصال.
مرحلة هشة
وتقول كاتي بيكلز، أستاذة التاريخ في جامعة كانتربري في نيوزيلندا، لمجلة "تايم" الأميركية إنه "نظراً إلى أن النظام الملكي أصبح أقل أهمية في المجتمع، فقد تمسكت بلدان مثل نيوزيلندا انطلاقاً من الاحترام الكبير لشخص الملكة. من المحتمل ألا يحظى الملك تشارلز والملكة كاميلا بنفس الوضع". تتفق سيندي ماكريري، وهي محاضرة رفيعة في التاريخ لدى جامعة سيدني ومتخصصة في الملكية والاستعمار، مع بيكلز وتقول "أعتقد أنه الآن بعد وفاة الملكة، فإن ذلك يمنح الجمهوريين في أستراليا وأماكن أخرى مجالاً أكبر للتحدث بصراحة عن المستقبل الدستوري ولتحضير الطريق للجمهورية".
وداخل المملكة المتحدة نفسها، هناك تيار يرفض استمرار الملكية ويتساءل المعارضون عن أحقية العائلة المالكة في الحصول على بعض من أموال دافعي الضرائب. وفي حادثتين منفصلتين، اعتقل اثنان من المتظاهرين المناهضين للنظام الملكي، في أكسفورد وإدنبره، أثناء احتفالات لإعلان تنصيب الملك البريطاني تشارلز الثالث. ويتوقع مراقبون أن ينعش رحيل الملكة التطلعات الاستقلالية في اسكتلندا، إذ يشككون في نجاح تشارلز.
ويقول أستاذ القانون الدستوري آدم تومكينز لصحيفة "ذي هيرالد" إن "انتقال التاج مرحلة تتسم بالهشاشة" في حين تزداد الحركة الاستقلالية في اسكتلندا زخماً في السنوات الأخيرة. فعلى الرغم من رفض الحكومة البريطانية المتكرر، أعلنت رئيسة الوزراء الاسكتلندية نيكولا ستورغن نهاية يونيو (حزيران) الماضي أنها تريد تنظيم استفتاء جديد حول الاستقلال في 19 أكتوبر (تشرين الأول) 2023. وستبحث المحكمة العليا البريطانية في هذا القرار في 11 أكتوبر المقبل و12 منه. وسبق أن أجري استفتاء حول هذه المسألة في عام 2014 واختار 55 في المئة من الناخبين الاسكتلنديين البقاء ضمن المملكة المتحدة، لكن بحسب الوكالة الفرنسية فإن الحزب الوطني الاسكتلندي يرى أن المعطيات تغيرت ووفاة الملكة التي كانت رمزاً للاستمرارية قد توفر للاسكتلنديين سبباً آخر لتأييد الاستقلال.
نفوذ تشارلز
لكن مجلس العلاقات الخارجية الأميركي يقول إن تشارلز، الذي انتظر كوريث للعرش لفترة أطول من أي شخص آخر في تاريخ بريطانيا، طور عديداً من المصالح الشخصية التي يقول الخبراء إنها يمكن أن تدعم حكمه. كما أن لتشارلز موقفاً قوياً في شأن القضايا البيئية، إذ أعلن أن العالم يجب أن يتبنى "أرضية شبيهة بالحرب" لمكافحة تغير المناخ، ويشارك في أكثر من 400 جمعية خيرية ولديه آراء قوية لصالح العمارة التقليدية والزراعة المتجددة.
ويرى عديد من الساسة في تلك البلدان التي احتفظت بالنظام الملكي أن المؤسسة (الملكية) تمثل مصدر قوة للشرعية السياسية والاستقرار، وأن الإبقاء سابقاً على الملكة كرأس للدولة منحهم رمزاً حيادياً للوحدة الوطنية. وبالنسبة للندن، فإن دور الملكة في الخارج، بما في ذلك زياراتها إلى دول الكومنولث، مصدراً للقوة الناعمة لبريطانيا وتأثيرها الدبلوماسي. وبالنظر إلى الطبيعة الرمزية إلى حد كبير لدور تشارلز الثالث كرئيس للدولة. يقول مراقبون إن القليل سيتغير على الفور في عوالم الكومنولث.