Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

نوش نجمة السوريالية فتنت بول إلويار وبيكاسو ومان راي

السيدة الساحرة رافقت الشعراء والرسامين في ثورتهم الحلمية والتحررية

نوش نجمة السورياليين الفرنسيين وزوجة بول اليوار (من الكتاب)

ملخص

 من هي نوش التي خصّتها أستاذة الأدب الفرنسي في جامعة برشلونة والباحثة في كرسي اليونيسكو "النساء والتنمية والثقافات" يوّانا ماسو، بسيرة عنوانها "نوش إلويار، النساء تحت السوريالية" (سيغرز، باريس 2024) في إطار النشاطات المواكبة لمئوية السوريالية ونَشرِ بروتون بيانه السوريالي الأول عام 1924؟ هل هي فقط مُلهِمة الشعراء والفنانين أم هي أيضاً فنانة مُلهَمة؟

في ثلاثينيات القرن الفرنسي الماضي، احتلت نوش إلويار المعروفة بجمالها مكانة خاصة في حياة السورياليين ومخيلتهم. فهي ظهرت في رسوم بيكاسو، وصور مان راي وثيودورا ماركوفيتش المعروفة بدورا مار، ورولان بنروز، ولي ميلر، وألهمت زوجها بول إلويار أجمل قصائده وعُرضت صورها واللوحات التي تناولتها، مثلها مثل صور نساء أخريات تحلقن حول السورياليين، في كبريات صالات العرض والمتاحف الفرنسية. غير أننا لا نعرف   الشيء الكثير عن هذه المرأة التي كان لها حضور قوي وسط هذه الحلقة بعد أن اقترن اسمها بأسماء أعضائها وخلد وجهها وجسدها لوحاتهم، علماً أنها لم تترك أي عمل فني يذكر وراءها. فهل كانت نوش امرأة بلا قصة وبلا صوت؟

في هذا الكتاب الجميل والمزين بالصور "نوش إلويار، النساء تحت السوريالية"، تتّتبع يوانا ماسو مسرى حياة هذه المرأة كما تتبدى في شذرات سوريالية خطّت هنا وهناك، فتسلط الضوء على احتفاء السورياليين بأنوثتها، معيدةً كتابة حياتها، متسائلةً عن دورها في التصوير الفوتوغرافي والرسم السوريالي في حركة تعتبر واحدة من أبرز التيارات الفنية في القرن العشرين، ضمت تحت لوائها نخبة من الشبّان المأخوذين بسحر عوالمها ورؤيتها التجريدية للكون. فنوش هي "المرأة الأثيرية" في لوحات بيكاسو و"الجسد المُمَجّد" بعدسة مان راي، و"الجمال الغامض ساعة الغسق" في أشعار بول إلويار، والمرأة ذات الحضور الطاغي في الصور واللوحات والقصائد السوريالية.

 

ولدت نوش واسمها الحقيقي ماريا بنز عام 1906 في مدينة ميلوز الواقعة في شمال شرقي فرنسا في منطقة الألزاس- اللورين يوم كانت جزءاً من الإمبراطورية الألمانية وتوفيت حاملة الجنسية الفرنسية في باريس عام 1946. قضت طفولتها كلاعبة بهلوانية في خيمة سيرك والدها أوغست بنز، الذي كان يتنقل من قرية إلى أخرى، مقدماً عروضه مع زوجته ماري-جوزيفين وفرقته الصغيرة.

عند اندلاع الحرب العالمية الأولى، أخرجها والدها، الذي كان يطلق عليها تحبباً ولصعوبة التعامل معها، اسم "نوش" ومعناه "الجوزة"، من المدرسة لتدريبها على الألعاب البهلوانية وتعليمها فنون المسرح. فشاركت في عروض المهرجين والتأرجح على الحبال وعروض ألعاب الخفّة. وفي العاشرة من عمرها، أعدّ لها خصيصاً عرضاً قائماً على استخدام السلاسل جعل منها النجمة الأولى لمسرح العائلة ومصدر دخلها. عام 1920، أصبح أوغست بنز فرنسياً بموجب مرسوم 14 ديسمبر (كانون الأول) 1919. فشجّع ابنته البالغة من العمر أربعة عشر عاماً على قبول عرض من مسرح في العاصمة الألمانية. تُركت نوش بمفردها في برلين، حيث أدت أدواراً مسرحية صغيرة من دون أن تتلقى أجراً لقاء عملها، مما اضُطرها لقبول عروض التقاط صور إباحية لها وممارسة الدعارة من أجل البقاء على قيد الحياة.

 فور بلوغها سن الرشد انتقلت الصبية إلى باريس وتحديداً إلى مسرح الرعب الإيروسي المعروف باسم "غراند-غينيول" الواقع في الدائرة التاسعة، حيث وجدت دوراً ثابتاً كمؤدية لعروض التنويم المغناطيسي، تحدثت من خلالها كوسيطة مع الأرواح. لم يكن الممثلون آنذاك يتلقون أجراً من المسرح، بل كان الأجر يُعطى مباشرةً من الجمهور ومن اللقاءات التي تلي العروض. فمن أجل تأمين بدل إيجار غرفتها المتواضعة الواقعة بالقرب من محطة "سان لازار" للقطارات، كانت نوش تسرق أحياناً زياً أو أكسسواراً من المسرح وتمارس الدعارة وتقوم بقراءة الكف وورق التاروت. لكن "حياتها الحقيقية" لم تبدأ فعلياً ألا بعد لقائها بالشاعر الكبير بول إلويار عام 1930، علماً أنها، قبل ذلك، كانت على علاقة بماكس بيل، المهندس السويسري الذي ارتبط اسمه بمدرسة الباوهاوس الفنية.

لقاء الشارع

كانت نوش تتجول ذات يوم في الشوارع الباريسية الواقعة بالقرب من "غاليري لافاييت"، امرأة جميلة ترتدي فستاناً طويلاً وقبعة سوداء، كأنها خرجت للتّو من أحد أفلام لويس بونويل، عندما اقترب منها كل من الشاعرين رينيه شار وبول إلويار بذريعة البحث عن "نادجا" جديدة؛ الشابة الفاتنة التي تدعى ليونا ديلكور والتي التقاها أندريه بروتون صدفة، فألهمته روايته الشهيرة. شكلت هذه الرواية ذريعة للعديد من تأملات بروتون النظرية والشعرية وتوقه إلى تأسيس نوع جديد من الأدب. كان شار وإلويار يعاشران معاً المومسات ويستكشفان ميولهما للمثلية الجنسية. لكن الشابة حاولت الإفلات منهما مدعية اضطرارها إلى الانتقال إلى محطة المترو. غير أنها سرعان ما رافقتهما إلى المقهى الصغير والتهمت "الكرواسون" الذي قدماه لها.

سحرت نوش كلا الرجلين بجمالها السوريالي ولكنتها الألمانية. وبينما شعر بول إلويار بانجذاب قوي تجاه المرأة، انسحب رينيه شار بهدوء بعد أن لاحظ إعجاب صديقه بالشابة الجميلة. هكذا بدأت قصة حب استثنائية كانت فيها نوش مصدر إلهام شاعر الحب والسوريالية. وهكذا تروي لنا أيضاً يوانا ماسو تعرّف نوش إلى حلقة السورياليين، وكذلك فعلت قبلها شانتال فيويي في كتابها "نوش، بورتريه لملهمة السوريالية" الصادر عام 2010.

في تلك الليلة انجرفت نوش مع هذين الشابين الساحرين. ولما عرض عليها بول إلويار، واسمه الحقيقي أوجين غريندل، أن تقضي الليلة معه تبعته على الفور. في الحقيقة، وقعت نوش في حب هذا الرجل المثقف من أول نظرة، ولم تتركه أبداً. بل تركت غرفتها المتواضعة وودعت حياتها السابقة لتكرس نفسها لحبه.  تقول لنا يوانا ماسو إن إلويار طلب في ما بعد من "الدمية البائسة" ذات العينين الزرقاوين الرماديتين والبشرة النضرة أن تنتقل إلى شقته الصغيرة الواقعة في حيّ مونمارتر التي تركتها زوجته غالا التي ارتبطت في ما بعد بالرسام سلفادور دالي، وبعد أن وضع ابنته سيسيل تحت رعاية والدته.

 كانت نوش حينها في الـ24 من عمرها، بينما كان إلويار يكبرها بعشر سنوات. بدأت نوش تهتم بمنزل الشاعر المنتمي إلى الحزب الشيوعي الفرنسي، والذي أسس مع أندريه بروتون ولويس أراغون حركة السورياليين ونشر أكثر من 10 دواوين، منها "عاصمة الألم" و"الحب والشعر" وغيرها.  جمعت بين العاشقين أولاً علاقة حرة، بسبب تعلق إلويار الشديد بطليقته غالا وألمه لفراقها. لكن نوش بأنوثتها الطافحة وجاذبيتها التي لا تقاوم أصبحت مصدر إلهام الشاعر. غاصت نوش في خيال إلويار، وأعطته طاقة جديدة رافعةً شعره إلى أسمى درجات الإبداع.

كتب إلويار أجمل قصائد الحب خلال حياتهما الزوجية التي بدأت عام 1934 واستمرت على مدى 17 عاماً. يقول المصور الأميركي مان راي إن إلويار في حبه لنوش كان رومانسياً وإن نوش قد أصبحت محور كل أعمال زوجها ومصدر إلهام حلقة السورياليين. فهو نفسه التقط لها سلسلة من الصور ألهمت إلويار قصائد حب نُشرت في ديوان بعنوان "فاسيل"، صدر عام 1935، وفيه تقابلت قصائد إلويار مع صور مان راي التي أظهرت نوش عارية. وقد استمر هذه التعاون بين الثلاثة حتى عام 1937. إلى جانب مان راي، كانت نوش أيضاً موضوع سلسلة من الصور الفوتوغرافية والتراكيب السوريالية للمصورة والشاعرة والرسامة دورا مار وموديل بعض رسوم بيكاسو.

أسطورة الثنائي

تحول الثنائي إلى أسطورة الحركة السوريالية. تحرّر كلاهما من القيود التقليدية وابتكرا أسلوب حياة خاصاً بهما. فنوش دخلت التاريخ كامرأة لا تعرف المحرَمات، حرّة في حياتها الجنسية والزوجية. تروي لنا يوانا ماسو أن بابلو بيكاسو بعد أن تعرّف إلى بول إلويار عام 1933، أصبح مقرباً من الزوجين، وغالباً ما كان يستقبلهما في منزله ويقضي معهما إجازات حرّة جداً في مقاطعة الألب البحرية جنوب شرقي فرنسا، برفقة لي ميلر ورولان بنروز ومان راي وملهمته أدريان فيديلين. وقد رسم بيكاسو نوش في الأعوام 1936 و1937 و1938 ويُقال إن بيكاسو كان على علاقة بنوش بموافقة زوجها. ذلك أن نوش مع إلويار، عملا على تحقيق يوتوبيا صغيرة تتعلق بالرغبات الجنسية المفتوحة من دون قيد أو شرط، من خلال تبادل الأزواج والعلاقات الثلاثية السحاقية، متجاوزين أسس الأسرة والمجتمع التي انتقدها كارل ماركس.

عند إعلان الحرب العالمية الثانية، تم تجنيد بول إلويار في وظيفة إدارية في بعض المناطق الفرنسية. فلحقت  به نوش متنقلة من منطقة إلى أخرى. وبعد انهيار المعاهدة الألمانية- السوفياتية، شاركت عام 1941 في المقاومة الشيوعية على رغم تدهور حالتها الصحية، وأصبحت، وفقاً لبعض الشهود المقربين، الشخصية التي ألهمت إلويار كتابة قصيدة حملت عنوان "الحرية"، علماً أن الشاعر نفسه عاد للانضمام إلى الحزب الشيوعي الفرنسي السريّ الذي طرد منه سنة 1933 ونشر قصائد متمردة تولت نوش نقلها في علب حلوى.

بعد الحرب، ألقى إلويار عدة محاضرات في أوروبا، وكانت زوجته ترافقه في معظم الأحيان. معاً تشاركا الشغف باللامبالاة والحيوية إلى جانب شلة من أصدقائهما الفنانين، رجالاً ونساء أحراراً، مرتبطين بأحلام الجنون والحرية الفكرية والإيروسية والجنس، ساعين وراء متع الحياة اليومية. بحبها وحساسيتها وبساطتها المفرطة، كرست نوش حياتها للحب وغدت، رغماً عنها، رمزاً للسوريالية.

 تخبرنا يوانا ماسو إن نوش على رغم اختزال دورها إلى مجرد "ملهمة"، بيّنت اكتشافات حديثة توصل إليها الأميركي المتخصّص بالسوريالية تيموثي بوميل، أنها قامت بسلسلة من الكولاجات نُسبت خطأً إلى بول إلويار، مع أنها حملت توقيعها. ولدت هذه الأعمال محض صدفة، يوم عانت نوش من أرق بين العامين 1935 و1936، فاستشارت طبيباً نفسياً اقترح عليها، على سبيل العلاج، الرسم والكتابة. لذلك، بدأت بقص الصور من المجلات بقصد ابتكار بطاقات بريدية وفق تقنية "الكولاج" الفنية أو القصاصات التي تجمع مواد مثل الورق، والصور الفوتوغرافية، أو الأقمشة لتكوين أعمال فنية جديدة. وقد نشأت هذه التقنية في أوائل القرن العشرين مع التكعيبيين كبيكاسو وبراك، وانتشرت مع الدادائية والسوريالية، متيحةً للفنانين استخدام القص واللصق والدمج لخلق تركيبات متعددة الأبعاد والتعبير عن رؤى إبداعية متنوعة. حمل أحد أعمال نوش عنوان "غابات الجزر"، نُشرت ضمن سلسلة مكونة من 21 بطاقة بريدية بالأسود والأبيض أصدرها جورج هوغونيه عام 1937، إلى جانب أعمال مارسيل دوشان وماكس إرنست وسلفادور دالي وجاكلين لامبا-بروتون. تكشف هذه الأعمال الفنية عن نساء عاريات يظهرن بأعين مغمضة، في إشارة من نوش إلى "رفضهن ملاحقة المشاهد المتلصص في النظر إليهن"، وكأنها تقول: "أنتم ترونني، ولكن لا تعرفون شيئاً عني". وهذا بالضبط ما سمّته جوانا ماسو "تأثير نوش" الذي سمح لنا لوقت طويل بالنظر إلى النساء وأجسادهن من دون أن نعرف عنهن شيئاً. تم نشر خمسة أعمال من هذه المجموعة عام 1978 والمحفوظ جزء منها، في مجموعة خاصة في لندن وفي متحف سان دوني في باريس ضمن أعمال إلويار. وقد شاركت نوش على ما يقول الكتاب في رسم مجموعة من الجثث إلى جانب كل من  بريفير وأراغون وتزارا وبروتون، ولو لم يكن هذا الرسم عملاً فنياً كاملاً.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

طمست الحلقة السوريالية دور النساء اللاتي كن موجودات فيها ونظرت إليهن فقط كمُلهمات أو عاشقات. فعلى غرار أدريان فيديلين وجاكلين لامبا ودورا مار، تم تهميش دور نوش في الحركة السوريالية ونُظر إليها كشخصية نسائية تمثل التجدد من خلال الرغبة والحرية، رفيقة إلويار وزوجته ، ثم تم محو اسمها من المشهد الفني. ويرى بعض النقاد المعاصرين أن نوش حولت حياتها إلى عمل فنيّ.

توفيت نوش فجأةً بسكتة دماغية في 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 1946 في منزل حماتها جان غرينديل، بحضور سيسيل، ابنة زوجها ودفنت في مقبرة بير لاشيز. فأصبحت بعد وفاتها ملهمة ديوان "الزمن يفيض"، الذي نشره إلويار عام 1947.

يغوص كتاب يوّانا ماسو،  في مرحلة غنية من تاريخ الفن والأدب في فرنسا. فالمرأة التي تسرد حياتها توسطت الحركة السوريالية وكانت لها علاقات وثيقة مع رساميها ومصوريها وشعرائها في مغامرة فنية جماعية مليئة بالإبداع والحب والجنون والمتعة وتمجيد الجنس المتجاوز كل الحدود. في هذا الكتاب الجميل، تستعيد يوانا ماسو ذكر نوش المنسي، التي تظهر بين ذراعي إلويار، تلعب الورق مع بروتون، وتضحك في شكل هستيري تحت أعين مان راي وبيكاسو. نكاد نسمع صدى ضحكاتها عبر صفحات الكتاب. نوش، التي ماتت في عمر الأربعين، تبدو هنا أكثر حياة من أي وقت مضى.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة