Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

التاريخ الوطني يتأرجح بين الخاص والعام في تحفة برتولوتشي "نوفتشنتو"

"القرن العشرون" عنوان غير دقيق لخمس ساعات من سيرة إيطاليا بين صعود الفاشية واندحارها

مشهد من فيلم "نوفتشنتو" أو "1900" لبرتولوتشي (موقع الفيلم)

ملخص

"نوفتشنتو" لم يستعد مكانته إلا بعد ذلك بعقود، بل ربما تحديداً في 2018 عام رحيل المخرج حين رمم الفيلم من جديد وراح يعرض بوصفه من كلاسيكيات السينما التاريخية العالمية وهي مكانة لم تؤخذ في الاعتبار منذ العرض الكاني الأول.

في عام 1972 كانت الفضيحة السينمائية والأخلاقية التي أسفر عنها فيلم "التانغو الأخير في باريس" من الضخامة بحيث إن مخرجه برناردو برتولوتشي وجد نفسه في حاجة إلى تحقيق فيلم من نوع مختلف تماماً. من نوع أكثر جدية وأقل إباحية من الفيلم السابق، يعيد شيئاً من التوازن وربما الاحترام أيضاً إلى سمعته السينمائية. ولعل أكثر ما أحزنه يومها أن بطل ذلك الفيلم "الملعون" مارلون براندو بلغ من الاستياء أن قرر ألا يعود إلى العمل مع برتولوتشي بعد ذلك "الفخ" الذي نصبه له.

قبل ذلك كان برتولوتشي قد رسم حساباته على أساس أن يتعاون مع النجم الأميركي الكبير لثلاثة أفلام في الأقل. فما العمل الآن؟ لا شيء. سيحاول إغراءه بفيلم تاريخي من طينة "الفهد". ومن هنا بعد أن قلب السينمائي الشاب الأمر وجد نفسه يعود إلى أوراقه القديمة ومن بينها خاصة أوراق تخص حلماً سينمائياً من أحلام بدايات شبابه فحواه فيلم يروي مرحلة بالغة الأهمية من مراحل التاريخ الإيطالي، مرحلة تروي تاريخ العقود الأولى من القرن الـ20، تلك التي تفتح ذلك القرن وتتوقف مع اندحار الفاشية عشية انتهاء الحرب العالمية الثانية. ومهما يكن وإذ تذكر برتولوتشي هذا المشروع في وقت بدا فيه واضحاً أن براندو لن يعمل معه بعد الآن، قرر أن يسند الدور إلى بيرت لانكستر الذي كان أبدع في "الفهد" قبل ذلك بسنوات.

فيلم عملاق

والحقيقة أن فيلماً له مواصفات الفيلم العتيد ما كان من شأنه أن يغري الاستوديوهات الأميركية لولا سمعة برتولوتشي الفضائية التي جعلته نجم شباك تذاكر ولولا حضور بيرت لانكستر. وهكذا تقدمت ثلاثة استوديوهات موفرة 6 ملايين دولار المطلوبة لإنتاج سترتفع كلفته على أية حال 3 ملايين أخرى كما سيستغرق تصويره 11 شهراً لجمع نخبة من نجوم كبار كانوا من كبار نجوم شباك التذاكر من روبرت دي نيرو وجيرار ديبارديو وصولاً إلى ستيفاني ساندريلا ودومنيك سانا ناهيك بلانكستر، الذي قبل بلعب دور صغير كتعبير عن ممنونيته للسينما الإيطالية التي أعطته وتعطيه أدوار حياته وتقربه من حلم قديم: أن يصبح نجماً أوروبياً.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وهكذا وإذ اكتملت الدائرة برونالدو ساذرلاند انطلق المشروع ليرسم على الشاشة وطوال ما يزيد على خمس ساعات وربع الساعة - جرت قسمته إلى جزأين - حكاية تنطلق من ولادة صبيين عند مفتتح القرن الجديد في بيئة واحدة ينتمي كل واحد منهما على رغم الجيرة إلى طبقة مختلفة عن طبقة الآخر لينتهي مع ولادة إيطاليا الجديدة عند منتصف أربعينيات القرن والتغيرات الهائلة التي عرفتها كما عرفتها حياة الولدين نفسيهما.

"نوفتشنتو"

كان فيلماً طموحاً وواضحاً على رغم قدر ما من الالتباس يغمر عنوانه بالنسبة إلى غير الإيطاليين، وهو ما لا بد من توضيحه قبل أن نغوص في حكاية الفيلم. ففي الإيطالية يحمل الفيلم عنوان "نوفتشنتو" ومعناها الرقم 19 الذي يرتبط بكون الترجمة الرقمية 1900 بمعنى أنه القرن الذي يبدأ من عام 1900 ليصل إلى عام 1999 أي ما يعد في اللغات الأخرى القرن الـ20 تحديداً. ومع ذلك لا يتحدث الفيلم في واقع الحال إلا عن السنوات بين بداية القرن الـ20 وعام 1944. ومهما يكن من أمر فإن برتولوتشي سيواصل الحديث طوال السنوات التالية من حياته عن عزمه على تحقيق جزء ثالث من الفيلم نفسه يتابع فيه حكاية ذلك القرن لكنه لم يتمكن من ذلك قط. وربما بسبب الفشل الذي كان من نصيب الفيلم في عروضه الأولى التي كانت قد انطلقت من دورة عام 1976 من مهرجان "كان"، حيث عرض الفيلم خارج المسابقة الرسمية في جزأين. وربما كان الفشل ناتجاً من موقف مختلف النقابات في فرنسا وأميركا وأوروبا بصورة عامة، فهي وربما استناداً إلى سمعة باتت إباحية لسينما برتولوتشي بسبب فيلمه السابق قررت أن يكون الفيلم ممنوعاً لمن هم دون الـ18.

والحقيقة أن "نوفتشنتو" لم يستعد مكانته إلا بعد ذلك بعقود، بل ربما تحديداً في 2018 عام رحيل المخرج حين رمم الفيلم من جديد وراح يعرض بوصفه من كلاسيكيات السينما التاريخية العالمية وهي مكانة لم تؤخذ في الاعتبار منذ العرض الكاني الأول.

 

أجل "نوفتشنتو" الآن يعد في مقدمة النماذج الأكثر أهمية في تاريخ العلاقة بين السينما والتاريخ، ومع ذلك لا بد من اعتباره فيلماً شديد الحميمية بالنظر إلى أن مخرجه عرف كيف يوازن تماماً بين الخاص - من خلال حكاية الولدين اللذين جاءا إلى الحياة في وقت واحد وعاش كل منهما في طبقته ومجريات حياته ربما رامزاً إلى ذلك الانتماء من دون أن يفقد خصوصيته وحياته الحميمية – والعام، من خلال التاريخ الإيطالي كما تطور خلال المرحلة الزمنية التي يتناولها الفيلم، مرحلة شهدت كل ألوان الصراعات السياسية والنقابية ونشوء المطالب الرقابية وصولاً حتى إلى الانقسامات الأيديولوجية حتى داخل الأسر وحدها.

صحيح أن هذه السمات قد تكون سائدة في معظم الأفلام التاريخية وتشكل سمات أساسية منها، غير أن قوة "نوفتشنتو" تكمن في إبداع برتولوتشي ذلك الترابط الخلاق بصورة استثنائية بين ما هو خاص وما هو عام، بحيث يبدو الأمر وكأن اللحمة مطلقة بين الاثنين بشكل ندر أن عرفته السينما إلا في أعمال نادرة منها فيلم لوكينو فيسكونتي "الفهد" الذي من الواضح أن برتولوتشي كان مراده أن يتفوق عليه وربما يكون قد فعل ذلك.

أبعاد فنية

والواقع أن برتولوتشي قد توصل إلى ذلك انطلاقاً من اشتغاله المفرط على الأبعاد الفنية. فهو وعلى رغم إفراطه في أدلجة موضوعه وكأن الفيلم ينتمي إلى "الواقعية الاشتراكية" في عديد من جوانبه، جعل المرجعية الفنية وحتى التشكيلية بصورة خاصة محوراً أساساً في الفيلم. من هنا نجده يقسم جزأيه أربعة أقسام تحمل أسماء فصول السنة وألوانها في اقتباس يكاد يكون مباشراً من رباعية الفنان الهولندي بيتر بروغل. ومن هنا حمل الفصل الأول، ويمتد نحو 90 دقيقة عنوان "الصيف الذهبي" وقدم فيه المرحلة الأولى من حياة الولدين وعلاقتهما انطلاقاً من كون الأول ألفريدو برلينغويري هو حفيد الإقطاعي الكبير في منطقة إميليا رومانيا الشمالية بينما الولد الثاني أولمو دالكو ليس أكثر من ابن موظف يعمل في خدمة الإقطاعي.

 

وفي البداية عند الطفولة لا يدرك الولدان ذلك الواقع الذي بعد رفقة الصبا المشترك ولهوه سيتكشف لهما في قسمي الخريف والشتاء حيث تتلاشى صحبتهما تدريجاً وذلك تزامناً مع ظهور الفاشية وبدء سيطرتها. وإذ يتحول ألفريدو إلى بورجوازي كبير لا يكون أمام دالكو إلا أن يتبع سبيل أبناء طبقته وينتمي إلى الحزب الشيوعي الإيطالي. وهكذا يضحى كل واحد منهما إلى جانب من جانبي لعبة الصراع الطبقي فيما الفاشية وانطلاقاً من "المسيرة إلى روما" التي حولت تلك الحركة السياسية إلى سلطة طاغية، تهيمن على البلد كله وتخوض معركتها الكبرى ضد سائر القوى التقدمية التي كان لا بد لها من أن تحقق انتصاراتها الكبرى مع حلول ألوان الربيع التي تختتم ذلك التاريخ عبر انبعاث المقاومة والتحرير.

المزيد من ثقافة