Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أثينا الإغريقية أنتجت مراكز فكرية انتشرت في حواضر العالم المتقدم

كان غوته رمزاً للإنسانية والتسامح وسعى إلى فهم الحضارات الأخرى من منظور إنساني شامل

غوته أسهم في ولادة "أثينا ألمانية" عند بدايات القرن الـ19 (غيتي)

ملخص

يوهان وولفغانغ فون غوته (1749-1832) يُعتبر من أعظم الأدباء الألمان في التاريخ، وكان له تأثير كبير في الأدب العالمي.

كانت أثينا تعيش حالة من المنافسة مع إسبرطة غير البعيدة منها في الديار الإغريقية، وهي حالة وصلت إلى القتال العسكري الذي كان فيه الانتصار غالباً من نصيب إسبرطة القوية في تسليحها وجبروتها ونزعتها العدوانية، في المقابل اكتفت أثينا بنجاحاتها الفكرية وتقدمها المعنوي، فكانت النتيجة أن أثينا وزمنها لا يزالان ماثلين حتى اليوم في ذاكرة العالم المفكر وتفكيره العميق، بينما لم تعد إسبرطة تذكر إلا عبر عدوانيتها وجبروتها، ولئن ظلت أثينا حاضرة على هذه الشاكلة فإنها لم تحضر وحدها، بل حضرت وتحضر دائماً من خلال ما يعتبر بضع أثينات "صغيرة" انتشرت في مناطق متفرقة من العالم، وفي حقب متنوعة من تاريخ الفكر تبرر أقوالاً عدة يتم تبادلها باعتبارها إرثاً ثقافياً لعلّ من أشهرها ما قاله الفيلسوف وايتهيد من أن كل تاريخ الفلسفة يبدو وكأنه مجرد هوامش في أسفل صفحات أفلاطون، ولما كنّا نعرف أن هذا الأخير هو في تاريخ الفلسفة المفكّر المؤسس، ونعرف قيمته بالنسبة إلى تاريخ أثينا الأولى نفسها، يمكننا أن نفهم حقيقة أثينا هذه.

 

أثينات حول العالم

بل أكثر من ذلك يمكننا أن نفهم القيمة الحقيقية والإنسانية لتلك الأثينات الصغرى التي انتشرت من الإسكندرية المصرية إلى قرطبة الأندلسية إلى فلورنسا الإيطالية، ومن طوكيو اليابانية وصولاً، في ما يخص موضوعنا هنا في الأقل، إلى بافاريا الألمانية التي نجدنا نعود إليها هنا، بالنظر إلى أنها تكاد تكون منسية، وهي منسية لأن شهرة واحد من مؤسسيها طغت على شهرتها بحيث أضحى، في حدّ ذاته، أثينا من نوع فريد. ونتحدث هنا عن المفكر والأديب والشاعر الألماني وولفغانغ غوته الذي لم يكن هو، ولا كان أحد غيره يعرف في ذلك الوقت المبكر بالنسبة إليه، أنه، وهو يسهم في ولادة تلك الأثينا الألمانية عند بدايات القرن الـ 19، سيصبح ذلك المبدع الكبير الذي خاض كلّ أنواع الكتابة، وفي ذهنه مسعى إلى خلق الحاضرة الإغريقية الكبرى في ذلك الشمال الألماني. فهو كان بعد في بدايات شبابه ولم يكن قد كتب بعد تلك التحف التي ستجعل كثراً يلقبونه لاحقاً بآخر الإغريقيين!

صحيح أن أثينا البافارية لم تكن أكثر أهمية من أي من الأثينات الصغيرة الأخرى التي أشرنا إليها، لكنها أنتجت من النشاطات الفكرية، ما لا يضاهى، وبخاصة أنها تكوّنت عند مفتتح العصور الحديثة، بل لقد وصل البعض في مغالاتهم إلى حدّ القول إن تلك الحركة البافارية لو لم تنتج سوى غوته وحده وفكره التنويري الضخم، لكان ذلك نقطة أساسية تحتسب في تاريخ الفكر الألماني، وأمّنت ارتباط تلك الحاضرة الفكرية الحديثة بالزمن الإغريقي، وهذا في الأقل ما أكده واحد من أحدث الكتب التي صدرت عن غوته، كتاب علّق على صدوره عدد من الباحثين الألمان متسائلين عما إذا كانت مكانة غوته تحتاج حقاً إلى كتاب جديد يؤكدها بعدما بات كل قارئ ألماني يعرف عنه كل ما يجب أن يعرفه، وقرّاء العالم متخمون بأفكاره وإنتاجاته المتنوعة. ولقد أتى الجواب مختصراً بأقلامهم، هم أنفسهم، على أية حال وهو، أجل لا بد لكل جيل من أن يتعرّف على غوته من جديد هو الذي دائماً ما نكتشف عنده جديداً، وربما الجديد الذي أضافه هذه المرة، الكتاب الذي نشير إليه وعنوانه "غوته: سيرته كتحفة فنية"، بقلم العالم والأستاذ الجامعي الألماني رودجر سافرانسكي، وهو بالتحديد حكاية إسهام غوته في تأسيس تلك الأثينا البافارية في فايمار حين كان بالكاد تجاوز الـ25 من عمره.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

غوته شاباً

في الـ25 أو نحو ذلك؟ أجل، ولكن كان اسمه قد بدأ يلمع في أوروبا وربما بصفته ناشطاً في جمعية "الاندفاعة والعاصفة" التي كانت مسيّسة وتنويرية أكثر منها دعوة إبداعية حقيقية في ذلك الزمن المبكر في الأقل.

المهم أن كتاب سافرانسكي هذا، الذي كعادتهم مع كل ما يلامس حياة يوهان وولفغانغ فون غوته (1749 - 1832) تلقاه القراء والمعلقون والصحافيون الألمان بلهفة، باحثين تحديداً فيه عن تلك الجزئية من سيرة هذا المبدع، فوجدوها تستعيد وبتوسع ملحوظ هذه المرة، دوره في "بعث الزمن العقلاني والإنساني الذي أبدع خلاله الإغريق معظم الأفكار والمفاهيم الكبرى التي لا تزال توجه خطوات القوم الأكثر ذكاء وإبداعاً حتى يومنا هذا" بحسب سافرانسكي نقلاً عن غوته نفسه.

والحكاية تبدأ من الدوقة آنا أماليا التي كانت تؤمّن قمة السلطة في دويلة ينا في انتظار أن ينضج الوريث شارل أوغست دي ساكس فايمار، وهي لما كانت متنورة ومتأدبة أحاطت نفسها بنخبة من مفكري وجامعيي تلك المرحلة، ومن بينهم الشاعر فيلاند الذي عهدت إليه بتعليم ابنها، وكذلك بشيلنغ وفيشته ثم هيغل، ولكن بخاصة بكبيرهم هردر الذي طلبت منه أن يختار من بين تلامذته النجباء واحداً يتولى تدريس الوريث نفسه، فنصحها هردر بأن تجتذب ذلك الشاب الموهوب والغزير الثقافة الذي لم يكن أحد يؤمن به قدر إيمان هردر، وهكذا قامت تلك الصداقة بين الشاعر الناشئ والدوق الذي سيكون خير خلف لحاكمي بافاريا السابقين، لودفيغ الأول وابنه لودفيغ الثاني، وخير أمل للدوقة الأم التي لم تبخل على الشاعر الشاب، بل دعمته بقوة، إذ وجدت تطابقاً بين طموحاتها التنويرية الإنسانية وتطلعاته المنصبة على تأسيس أثينا جديدة في تلك المدينة الصغيرة التي كان قد سبق للكاتبة الفرنسية مدام دي ستايل أن اعتبرتها مجرد... دويلة تافهة.

موت حلم

إذاً في تلك الدويلة قامت أثينا الجديدة عند نهايات الربع الأول من القرن الـ 19 بفضل نشاطات غوته وعلاقاته المحلية والأجنبية، كان هذا الأخير يفكر ويقترح بينما كان شارل أوغست ينفذ ويوجه الدعوات تحت استشارة الأم التي بدا واضحاً أنها حفظت دروس هردر جيداً، وراحت تواكب عن كثب صعود غوته الذي راح تلك الفترة يتكون فيها كعالم وشاعر وروائي وبخاصة كمسرحي رصد، بدوره، نشاطات فردريك شيلر في هذا المجال، معتبراً إياه شكسبير المسرح البافاري، وفي هذا السياق لم يكن صدفة أن يضحي مسرح شيلر لتلك الحركة الجديدة الشاملة التي أعطاها غوته بنفسه اسم "أثينا الجديدة"، وانتشرت أخبارها، على الفور، في أوروبا كلها، واعتبرتها النخب الأوروبية تحقيقاً لذلك الحلم الأثيني القديم، لكن ذلك الحلم لن يعيش طويلاً، عاش بضعة أعوام وحسب إذ ما إن حلت نهاية العقد الثالث وبداية العقد الرابع من ذلك القرن حتى رحل الدوق والشاعر عن عالمنا خلال أربعة أعوام، ولم يبقَ للمشروع الطموح مَن يحمله ويرعاه من بعدهما، وهكذا اختفت أثينا أخرى من تلك الأثينات التي طبعت تاريخ الإنسانية المفكرة، ولكن بعدما تشعّبت طموحاتها وبقيت آثارها تخبر عنها في مجالات الفلسفة والمسرح والشعر، بل حتى الرسم والموسيقى...

بقي أن نشير إلى أن يوهان وولفغانغ فون غوته (1749-1832) يُعتبر من أعظم الأدباء الألمان في التاريخ، وكان له تأثير كبير في الأدب العالمي. وتنوعت أعماله بين الشعر والرواية والمسرح، إضافة إلى اهتمامه بالفلسفة والعلوم، ومن أشهر أعماله رواية "آلام فيرتر" التي أثارت ضجة في عصره، ومسرحيته "فاوست" التي تناولت قضايا الإنسان والطموح والمعرفة، وتأثر غوته في الثقافات الشرقية، وبخاصة الأدب الفارسي والعربي، مما تجلّى في ديوانه "الديوان الغربي-الشرقي".

وكان غوته رمزاً للإنسانية والتسامح، وسعى إلى فهم الحضارات الأخرى من منظور إنساني شامل، مما جعل إرثه الأدبي والفكري خالداً حتى اليوم.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة