ملخص
تتناول القصة الجديدة عميلاً روسياً انشق في ظروف غير عادية لدرجة تستدعي عودة سمايلي من تقاعده الافتراضي للقيام بالتحقيق. في الرواية يحرص هاركاواي على تكريم عالم والده الأدبي بينما يترك بلطف بصمته الخاصة حيث تتسم القصة بإيقاع دقيق ومدروس، وتظهر فيها شخصيات عديدة ستكون مألوفة للقراء الذين يتمتعون بذاكرة جيدة فيما يظل الصوت السائد في الرواية هو صوت لو كاريه.
حتى وقت قريب، بذل نيك هاركاواي جهداً كبيراً للابتعاد عن والده، من الناحية المهنية، ولديه سبب وجيه لذلك: فوالده هو جون لو كاريه، الكاتب المفضل في العالم لروايات الجاسوسية. لم يكن هاركاواي يرغب في أن يعيش في ظل والده.
يقول وهو يبتسم بتردد: "لكن الأمور تغيرت الآن. يا إلهي، ماذا فعلت؟".
هذا الأسبوع، قرر الكاتب البالغ من العمر 51 سنة، الذي حقق شهرته سابقاً من خلال سبع روايات خيالية مميزة، أن يضع مسيرته الأدبية الخاصة جانباً ليعيد إحياء أشهر إبداعات والده.
في رواية "خيار كارلا" Karla’s Choice، يعود الجاسوس جورج سمايلي للساحة بعد أقل من أربع سنوات من وفاة لو كاريه عن عمر 89 سنة. بالطبع، يظل سمايلي أحد أشهر جواسيس الحرب الباردة، إذ خدم كعميل في جهاز المخابرات البريطاني MI6، الذي تعامل مع عالم العملاء السريين بتفان وتأن، وبغياب تام للمظاهر الزائفة، مما جعله ربما أكثر الجواسيس أصالة في عالم الأدب.
يتميز أسلوب التجسس الذي كان سمايلي يتبعه بالهدوء والتركيز على العمل المكتبي، إذ كان يتطلب صبراً طويلاً للحصول على النتائج المرجوة. كان الالتزام التام والتدقيق الشديد هما الأساس في عمله، ولا تزال هذه الفكرة صالحة حتى اليوم. وكما يقول هاركاواي في أحد مقاطع كتابه الجديد، مكرراً ما كان والده يؤمن به: "أفضل الأعمال الاستخبارية هي تلك التي تحتاج إلى الوقت".
الآن، وبعد أن أصبح الكتاب جاهزاً للنشر، ترتفع التوقعات بين جماهير سمايلي الكبيرة. عندما سألته عن شعوره تجاه ذلك، أجاب هاركاواي: "كيف أشعر حيال ذلك؟ أنا مرعوب".
استقبلني هاركاواي عند باب منزله في شمال غربي لندن مرتدياً كنزة بياقة عالية وسروال جينز مثني الأطراف وحذاء منزلياً أبيض وناعماً. قادني عبر ممر ضيق إلى غرفة معيشة مشرقة مليئة بالأثاث العتيق، وهناك، حول طاولة القهوة، كانت جلستنا للحديث عن هذا القرار الجريء الذي سيخضع مسيرته المهنية لأشد درجات التمحيص.
يقول هاركاواي: "كان والدي دائماً يخطط لكتابة مزيد"، وكان سيقوم بذلك لو أنه لم يواجه، مثله مثل كل الكتاب بالنتيجة، الحاجز الذي لا يمكن تجاوزه: النهاية. لقد كتب تسع روايات عن جورج سمايلي، بدأت في عام 1961 برواية "نداء للموتى" Call for the Dead وانتهت في عام 2017 برواية "إرث الجواسيس" A Legacy of Spies. ومع ذلك، لم يكن لدى هاركاواي أية نية لمواصلة هذا الإرث الأدبي إلى أن جاءته الفكرة من أخويه الأكبر سايمون، وستيفن، وكلاهما يعمل في إنتاج الأفلام.
هل كان القرار سهلاً إذاً؟
يوضح هاركاواي: "ما يجب أن تفهمه هو أنني ولدت في عام 1972، وبالتالي كان سمايلي جزءاً مؤثراً للغاية في حياتي". عندما كان طفلاً، كان والده يقرأ له فصولاً من كتبه قبل ذهابه إلى المدرسة. يضيف: "وهكذا، منذ ولادتي وحتى الثامنة، الفترة التي تبدأ فيها باكتساب اللغة، كنت أتعلم التواصل وأنا أستمع لجورج سمايلي".
ما شعوري تجاه الكتاب؟ أنا مرعوب"
نيك هاركاواي
يضيف هاركاواي: "أعتقد أن ما أحاول قوله هو أنني عندما بدأت في كتابة ’خيار كارلا‘، لم يكن علي البحث كثيراً في داخلي لأجد شخصية سمايلي".
بعد وفاة والده، وفي تطور درامي يرضي معظم كتاب الروايات، عثر على رسالة كتبها والده. يقول: "طلب منا والدي في الرسالة أن نضمن استمرار قراءة كتبه، وأن نوسع جمهورها، ونوصلها إلى جمهور جديد. كانت رغبته واضحة: أريد أن يتم تذكري، وأريد أن يستمر عملي".
بالطبع، قد تكون هذه رغبة أي كاتب ناجح يشعر أن موته قد يعطل سلسلة أعماله المستمرة، لكن الموت لم يعد النهاية الحتمية. فبعد وفاة إيان فليمنغ، استمرت شخصية جيمس بوند في الكتب بأشكال مختلفة، وحمل الشعلة كتاب مثل كينغسلي أميس، وتشارلي هيغسون، وسيباستيان فولكس.
من المحتمل أن يتدخل الذكاء الاصطناعي لإحياء شخصية سمايلي، لكن أحداً لم يطلب ذلك - حتى الآن. وعندما سألته إذا كان المال هو الدافع وراء قراره، شعر بالانزعاج وأجاب بحدة: "هل تقصد أنني حصلت على أجر؟ حسناً، تذهب العائدات لمؤسسة جون لو كاريه المحدودة، وأنا لدي اتفاق معها. إنه عمل مأجور لصالح المؤسسة. إنها تتحكم بحقوق الملكية الفكرية، وأبرموا اتفاقاً لتكليفي بالعمل".
لكنه جزء من الإرث، أليس كذلك؟
يجيب: "نعم، زوجتي هي المديرة التنفيذية، وإخوتي هم المديرون، ونحن جميعاً نمثل المؤسسة". عندما قلت له إن الأمر يبدو معقداً، أجاب: "الأمر ليس معقداً، بل هو متشابك".
ومع ذلك، أردفت أن المردود المادي لا بد أن يكون جيداً. فقال: "هذا أكيد، لكنني لم أفعل ذلك من أجل المال فقط. لقد قمت به لأنني أردت ذلك. كانت الخطوة منطقية بالنسبة إلي".
عندما يتحدث، يقوم هاركاواي بتمرير أحد أصابعه على حاجبيه الكثيفين اللذين يذكران بوالده بصورة واضحة. لم يكن الأدب الإرث الوحيد الذي حصل عليه من أبيه.
يواصل حديثه: "وجدت هذا العمل تحدياً فريداً من نوعه، لكنه كان أيضاً فرصة لا تفوت لأتعلم على يد والدي، وهو الشيء الذي لم أحظ به في حياته".
خلال كتابته، كان يشارك الفصول مع إخوته وزوجته ووكيل والده الأدبي، وكان كل منهم يقدم ملاحظات مؤيدة. لكن الآن، وقد أصبح الكتاب على وشك مواجهة الجمهور الأصعب: قراء كتب والده الأوفياء الذين ما زالوا يكنون محبة عميقة لشخصية سمايلي.
يقول بنبرة متخوفة: "هل سيعجب القراء بالكتاب؟ علي الانتظار لأعرف ذلك. في نواح عديدة، لا يمكنني الفوز ولا الخسارة حتى. ستكون هناك نسبة معينة من الناس الذين سيكرهون الكتاب لمجرد وجوده، وستكون هناك نسبة أخرى ستحبه للسبب نفسه. أنا مرتاح في كلتا الحالتين. لكن جمهوري المستهدف هو الأشخاص الذين يقفون في الوسط، وهم من أسعى إلى الوصول إليهم. وآمل أن أتمكن من ذلك".
تدور أحداث رواية "خيار كارلا" في عام 1963، إذ تأخذ مكانها بسلاسة بين روايتي "الجاسوس الذي جاء من البرد" The Spy Who Came in from the Cold الصادرة عام 1963 و"سمكري خياط جندي جاسوس" Tinker Tailor Soldier Spy الصادرة في عام 1974. تتناول القصة عميلاً روسياً انشق في ظروف غير عادية لدرجة تستدعي عودة سمايلي من تقاعده الافتراضي للقيام بالتحقيق. وحرص هاركاواي على تكريم عالم والده الأدبي بينما يترك بلطف بصمته الخاصة. تتسم القصة بإيقاع دقيق ومدروس، وتظهر فيها شخصيات عديدة ستكون مألوفة للقراء الذين يتمتعون بذاكرة جيدة. ويظل الصوت السائد في الرواية هو صوت لو كاريه.
يقول هاركاواي: "الأهم بالنسبة إلي كان ضبط النغمة بصورة صحيحة. كان هذا الأمر بالغ الأهمية بالنسبة إلي". فهل نجح في ذلك؟ يجيب: "أعتقد ذلك، نعم".
نشأ هاركاواي في مدينة كورنوول، كابن لجون لو كاريه وزوجته الثانية، محررة الكتب جين يوستاس. (أنجب لو كاريه، واسمه الحقيقي ديفيد كورنويل، ثلاثة أبناء من زوجته الأولى، أليسون شارب، من بينهم الصحافي تيم كورنويل، الذي توفي في عام 2022 بعد فترة قصيرة من تحرير كتاب يحتوي على رسائل والده). يصف هاركاواي حياته المبكرة بأنها كانت "مريحة ومستقرة"، وعلى رغم أن والده كان يذهب بعيداً أحياناً، إلا أنه غالباً ما كان موجوداً، ملتزماً بعمله خلف مكتبه.
لكن حياة جون لو كاريه الخاصة كانت مليئة بالأحداث تماماً مثلما كانت الحياة التي رسمها لبطله الأدبي. فهو لم يكن مجرد كاتب، بل عمل جاسوساً في السابق، وكشفت سيرة ذاتية حديثة كتبها آدم سيزمان بعنوان "الحياة السرية لجون لو كاريه" The Secret Life of John le Carré صدرت عام 2023، عن جوانب خفية في حياته، منها أنه كان يخون بصورة متكررة، إذ أقام علاقات متعددة على مدار سنوات عديدة. وبعد صدور السيرة الذاتية بفترة قصيرة، قال سيزمان: "يمكنك أن ترى كيف استخدم النساء الواحدة تلو الأخرى كشخصيات في كتبه، إذ استعملهن لخلق نوع من الدراما في حياته، التي كانت في الغالب مملة".
أما نيك هاركاواي الصغير فكان غافلاً تماماً عن ذلك. يقول: "بالنسبة إلي، كنت أعيش حياة أسرية عادية وسعيدة تماماً"، يضيف عابساً: "نعم، صحيح، كان زواجهما معقداً وغير تقليدي، لكن ذلك يجعل الأمور تبدو أكثر درامية مما كانت عليه في الواقع. كانت والدتي دائماً تعتبر نفسها الرابحة، وكانت هي من يتحكم بالساحة. صحيح أن هناك عشيقات، لكنها ظلت في مكانها، وكان والدي يعود لها في كل مرة. تجربتي معهما كانت أنهما شكلا وحدة. صحيح أنهما كانا يتشاجران أحياناً، لكن والدتي كانت شريكة في تلك العلاقة. كانت تستطيع المغادرة في أي وقت لكنها اختارت البقاء. كانت هي من خلق البيئة التي يستطيع والدي العمل والأداء فيها"، ويضيف مؤكداً: "كانت هذه هي الطريقة التي اختارتها لتؤثر في العالم".
توفيت جين زوجة لو كاريه، بعد شهرين من وفاته، وذلك نتيجة "تحطم قلبها"، كما أفاد متحدث باسم العائلة في ذلك الوقت. خلال الستينيات والسبعينيات، كان لو كاريه نجماً أدبياً بارزاً، إذ حققت كتبه مبيعات تجاوزت ملايين. لكنه كان أيضاً هدفاً حقيقياً لمصوري المشاهير، إذ يتذكر هاركاواي كيف كان المصورون "يستخدمون عدسات مثبتة على عصي طويلة للتسلسل من فوق سور حديقة منزله والتقاط صور له، وعندما كتب والدي كتباً لم تعجب الناس، كان يتلقى تهديدات بالقتل من القراء غير الراضين. كان ذلك غريباً".
عانى والده كثيراً من شهرته، ويقول هاركاواي: "كان يقدر شهرته، لكنها كانت مصدر إزعاج له، إذ كان شخصاً انطوائياً".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلى النقيض من ذلك، كان هاركاواي يتوق لحياة مختلفة تماماً. وكان يعرف أنه من غير الحكمة محاولة السير على خطى والده، ولذلك اتخذ اسم هاركاواي اسماً مستعاراً له. حاول في البداية كتابة السيناريوهات. ويقول: "استمتعت بذلك، لكن الأمر كان محبطاً، إذ لم ينتج عدد من السيناريوهات. كنت أكتب قصة إثارة حضرية تدور أحداثها في منطقة كامدن تاون في لندن على سبيل المثال، لكن المنتجين كانوا يطلبون مني تغييرها لتدور أحداثها على القمر. كنت أستجيب لذلك، لكنهم يكرهون النتيجة ويقولون إنهم لم يفهموا لماذا اخترت أن تدور الأحداث على القمر".
بعدما كون عائلته الخاصة، اتجه هاركاواي في نهاية المطاف نحو كتابة الروايات، لكن بنمط مختلف تماماً. كانت كتبه قريبة من الخيال العلمي، وشائعة "بين أولئك الذين يحبون أفلاماً مثل ’بليد رانر‘ Blade Runner وأعمال ويليام جيبسون". إحدى رواياته "التيتانيوم الأسود" Titanium Noir التي صدرت في عام 2023، تتناول موضوع دواء يمكنه إعادة الشباب للناس، لكن تناوله يؤدي إلى زيادة حجمهم بنسبة 20 في المئة. هل يعتبر ذلك تضحية جديرة بالاهتمام؟ يقول: "كنت أحب دمج أنواع أدبية مختلفة تماماً، لكن الناشرين أخبروني أن تسويق هذه الأعمال سيكون صعباً".
يؤكد هاركاواي أنه سيستمر في كتابة رواياته الخاصة، ويأمل في مواصلة العمل على قصص سمايلي "إذا كان هناك طلب على ذلك، بالطبع". وإذا كان هناك مثل هذا الطلب، فسيكون سعيداً بالامتثال له. قد تكون تجربة "خيار كارلا" تحدياً لكنها تحد مرحب به.
لطالما قدر والدي شهرته، لكنها كانت مصدر إزعاج له، إذ كان شخصاً انطوائياً
نيك هاركاواي
يقول هاركاواي: "أعتقد أن الرغبة أثناء كتابة الرواية كانت أن أشيح بنظري أحياناً بعيداً من مكتبي لأرى النسخة الأثيرية من والدي، مثل أوبي وان كينوبي، جالساً في الكرسي، يومئ برأسه لي ويذكرني بضرورة عدم نسيان الفاصلة المنقوطة. لم يحدث ذلك تماماً، لكن ما حصلت عليه من كوني في المكان نفسه الذي كان فيه هو أنني لامست التحديات نفسها، وتناولتها بالطريقة عينها، ومشيت في خط إبداعي مواز له، وبدأت أفهم بالكامل عملية الكتابة التي كان يتبعها"، يضيف مبتسماً: "بدا الأمر وكأنه هبة".
رواية "خيار كارلا" متوفرة للقراءة الآن.
© The Independent