ملخص
يقول أحد الأطباء إنه "خلال عام 2024 باتت تلك العمليات مكلفة جداً، بعضها قانوني ويتم في مستشفيات مرخصة وفق القوانين الناظمة، فيما غالبيتها تتم في عيادات مغلقة بعيدة من الأعين ليحصّل الطبيب مالاً وفيراً قد يواجه مقابله عقوبات تصل إلى سحب الشهادة الطبية منه إذا ما افتضح أمره، وبات لدينا مئات وربما آلاف الأطباء المغامرين، فبضع عمليات إجهاض شهرياً تجعل الطبيب ثرياً".
تنامى عمل طب النساء والتوليد بسوريا في عمليات الإجهاض التي تقول مصادر طبية إنهت ارتفعت بنسبة ألف إلى 1200 في المئة خلال الأعوام الـ10 الماضية في الأقل، الأمر الذي أكدته مصادر متعددة لـ"اندبندنت عربية" في وزارة الصحة ومديرياتها ونقابات الأطباء.
ومن بين الأطباء المتخصصين في أمراض النساء، أشار لنا الطبيب معروف الشابي إلى أن ارتفاع النسبة مهول قياساً بأعوام ما قبل الحرب السورية، فإن كانت ألف امرأة تجري عملية إجهاض في 2010 فإن الرقم اليوم هو 100 ألف، وهذا بمثابة كارثة.
ويلفت إلى أن تمسك أطباء كثر بالقوانين التي تمنع وتجرم الإجهاض وفق القانون السوري هو التزام أخلاقي ومهني وقانوني إلا في حالات دقيقة ومحددة تتعلق بسلامة الأم الحامل وبالقوانين المرعية.
ويوضح أنه "خلال عام 2024 باتت تلك العمليات مكلفة جداً، وبعضها قانوني ويتم في مستشفيات مرخصة وفق القوانين الناظمة، فيما غالبيتها تتم في عيادات مغلقة، بعيدة من الأعين ليحصّل الطبيب مالاً وفيراً قد يواجه مقابله عقوبات تصل إلى سحب الشهادة الطبية منه إذا ما افتضح أمره، وبات لدينا مئات وربما آلاف الأطباء المغامرين، فبضع عمليات إجهاض شهرياً تجعل الطبيب ثرياً للغاية".
ويقول "نتحدث هنا عن مئات الدولارات، ويختلف الرقم بين حالة وأخرى، لكن لا أعتقد بأنه يقل عن 300 إلى 400 دولار وصعوداً حتى ألفي دولار ربما، تبعاً لنوع الحالة والحالة المادية للزبون واضطراره، خصوصاً إن كان الحمل خارج إطار الزوجية، وتلك تصبح حالاً من الابتزاز".
سعر عملية مقابل ما تجنيه في عام
يوافق طبيب أمراض النساء علي نصرة زميله الرأي، فيقول "أولئك الأطباء ضعاف نفوس لأنهم يمارسون عمليات الإجهاض بعيداً من القانون خلف أبواب عياداتهم الموصدة، مستغلين حاجة المرأة الحامل (بصورة غير قانونية غالباً) لتسهل لهم الحصول على مبالغ مالية كبيرة لقاء تلك العملية التي لا تراعي في بعض الأحيان مسألة السلامة التامة، فقد تؤدي إلى الوفاة".
ويتابع أن "غالبية عمليات الإجهاض في العيادات تكون ناتجة من علاقات غير شرعية، وتلك العلاقات لا يمكن إدراجها تحت توصيف العلاقات الماجنة لأن ما ينتج منها يكون صدفةً من غير تخطيط مسبق بالنسبة إلى تلك الفتيات (الضحايا) واللاتي لا يعملن في ’الدعارة‘ وكثرة تلك الممارسات وقلة الوعي والاستقلال السكني والانفتاح الجزئي واستغلال الفتيات بوعود واهية كلها عوامل تجعل لدى الطبيب زبائن دائمين".
قبل بضعة أشهر، رفضت الطبيبة لميا القاسم مغريات مادية كبيرة لإجراء عملية إجهاض لقاصر عمرها 17 سنة وحامل في الشهر الرابع، وأبلغت النقابة المسؤولة عنها ومديرية الصحة، ورفضت أن تخالف قسمها الطبي، أو أن تكون سبباً في وفاة قاصر في عملية ليست سهلة مطلقة، على رغم أن المسبب بالحمل عرض عليها مبلغاً قيمته 2500 دولار، أي ما يوازي عملها لعام كامل في عيادتها.
الطفل الخامس
خلال الأسابيع الماضية، كانت أم محمد تدور مع زوجها على مستشفيات لإجراء عملية إجهاض آمنة، خصوصاً أنها ما زالت في الثلث الأول من الحمل (الأشهر الثلاثة الأولى)، فقوبلت بأسعار صادمة تراوح ما بين 400 دولار وألف دولار، لن تتمكن من دفعها.
أم محمد تصف حملها أنه جاء كخطأ غير متوقع وهي التي لديها أربعة أولاد، وتعمل في مجال الحياكة فيما يعمل زوجها مساعد مهندس، وبالكاد، لا بل إنها لا تستطيع إعانة أولادها، فكيف بولد جديد ومصاريف هائلة لطفل رضيع.
وفي نهاية المطاف، استدلت على طبيبة حديثة العهد في المهنة وتمتلك عيادة في ريف دمشق، وافقت على مساعدتها مقابل 150 دولاراً وتم الأمر، وترى أم محمد أن 150 دولاراً أمّنتها بصعوبة خير من آلاف الدولارات التي ستتكلف بها لتربية طفل وليد.
انخفاض في معدل الولادات
وكان مدير مكتب الإحصاء المركزي السوري عدنان حميدان أشار في حديث له هذا العام إلى انخفاض نسبة الولادات في عموم المحافظات السورية خلال الأعوام الأخيرة، وأرجع ذلك إلى تردي الأوضاع المعيشية والاقتصادية، مضيفاً أن "نسبة الولادات تنخفض في كل عام مقارنة بالعام السابق نتيجة لأسباب عدة، وكان العامل الحاسم فيها هو الوضع الاقتصادي وارتفاع كلف الحمل والفحوص الطبية وكلف ما بعد الولادة".
يتفق عدد من الأطباء الذين تواصلنا معهم أن حالة إلى ثلاث من كل خمس حالات تزورهم في العيادة تكون بقصد الإجهاض، عدا عشرات الاستفسارات الأسبوعية عبر الهاتف أو وسائل التواصل، وإذا كان كل شيء سليماً وتحت مظلة الزواج بالنسبة إلى الطب "النظيف"، يجري التعامل معه بحسب مرحلة الحمل.
ففي الأسابيع الأولى، يكفي وصف أدوية مسهلة للإجهاض تصل نسبة نجاحها حتى 70 في المئة إذا ما كانت تحت إشراف طبيب متخصص وبصورة مباشرة وتكلف بضعة دولارات، عوضاً عن مئات الدولارات في المراحل المتقدمة.
فيما أرجع أولئك الأطباء معظم حالات الإجهاض الشرعية إلى الظروف الاقتصادية ذاتها التي تؤدي إلى ازدياد حالات الطلاق في سوريا، وعلى رغم ذلك فهي ممنوعة ولكن يجري التعامل معها بهدوء وحذر وأول ضامن لها هو شرعية الحمل وحضور الزوج والمبررات ومدة الحمل.
في الداخل
تقول سكرتيرة طبيب نسائية، رفضت الكشف عن هويتها للحفاظ على عملها، وشرحت بدورها كيف يجري الطبيب عمليات الإجهاض لمرضاه في ساعات متأخرة من الليل بمساعدة ممرضة متخصصة داخل عيادته من دون أن يسمح لها بالدخول أو أخذ بيانات المرضى.
وتقدّر السكرتيرة بأن الطبيب يجري ما لا يقل عن عمليتين في الأسبوع، وأحياناً أكثر من ذلك، وعلمت من خلال عملها الطويل في العيادة بأنه يقوم بالتسعير بناء على نوعية "الزبائن" وطبيعة العلاقة بينهم.
وتضيف أن "متوسط كلفة الإجهاض لديه 2000 دولار، وترميم البكارة بين 200 و500 دولار، وحتى اليوم لم تسجل أية حالة وفاة لديه، ولكن كانت أحياناً تحصل مضاعفات ويحتاج إلى دم وخلافه ولكنه كان يرتب كل شيء مسبقاً".
حظر رسمي
رسمياً، تحظر سوريا الإجهاض مهما كان نوع الحمل أو طريقته ولو كان عبر الاغتصاب أو الأقارب أو سفاح القربى، إلا في حال تهديد حياة الأم وصحتها.
يخبرنا مصدر في نقابة الأطباء بأنه بين كل ألف امرأة يراجعن المستشفيات وأعمارهن بين 20 و40 سنة، هناك أكثر من 30 حالة ناتجة من الإجهاض الذي تصل مضاعفاته إلى النزف، ويشير إلى أن طرائق الإجهاض تشمل شرب السوائل السامة، أو إلحاق الأذية بالمهبل أو عنق الرحم أو المستقيم، أو إلحاق إصابات خارجية بالبطن، ولتلك الأسباب يبدو من المستحيل معرفة المرأة التي توفيت نتيجة الإجهاض في سوريا، إذ هناك تكتم شديد طبي وعائلي على الأمر وتُعدّ الوفاة طبيعية.
في القانون
بحسب حزمة القوانين السورية، فإن "قانون العقوبات السوري يقف موقفاً حاسماً من موضوع الإجهاض ولا يفرق بين الشروع بالإجهاض وبين إنجازه ولا يفرق بين الإجهاض في بدء الحمل أو نهايته، بل أكثر من ذلك فقد عاقب على اقتناء أو ترويج أو تسهيل استعمال وسائل إجهاض أو بيع أو حتى عرض مواد معدة لإحداث الإجهاض للبيع".
كما يعاقب القانون المرأة التي تجهض نفسها بما استعملته من الوسائل أو استعمله غيرها برضاها بالحبس من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات، وتشدد في عقوبته إذا أفضى إلى الموت حتى تصل العقوبة إلى الأشغال الشاقة من أربع إلى سبع سنوات وفقاً لأحكام المادة (528)، من قانون العقوبات السوري الفقرة الثانية.
وجاء في الفقرة الثالثة منها، تكون العقوبة من خمس إلى 10 سنوات إذا تسبب بالموت عن وسائل أشد خطراً من الوسائل التي رضيت بها المرأة"، علماً أن القانون "منح المرأة التي تجهض نفسها للحفاظ على شرفها عذراً مخففاً وفقاً لأحكام المادة 531 من القانون ذاته، لتصبح العقوبة الحبس من ستة أشهر إلى سنتين".