ملخص
إيران دعمت حزب العمال الكردستاني واغتالت شخصيات تركية، وعلى رغم ذلك لم تنفذ أنقرة أية عمليات انتقامية، وسوريا رعت الحزب ذاته لأعوام طويلة، وبعد الحرب السورية فضّلت تركيا التعامل مع العنصر العربي ودربت فصائل المعارضة من المكون العربي، ولم تهتم بما يكفي بالتركمان السوريين، أما في العراق فلم تحقق تركيا إنجازات تفيد مصالحها الوطنية، على رغم أنه كان بالإمكان إنشاء منطقة تركمانية عازلة.
عندما أعلن مصطفى كمال أتاتورك تأسيس جمهورية تركيا الجديدة، وضع لها شعاراً مشهوراً بين الأتراك يقول "سلام في الداخل، سلام في العالم"، وبمعنى آخر فالمبدأ الذي قامت عليه تركيا الحديثة هو أن تنصب جهودها في الاهتمام بأراضيها داخل حدودها، من دون أن تضع أنظارها على أراضي أية دولة أخرى، أو تعبث بالشؤون الداخلية للدول المجاورة، وخصوصاً الجيران العرب.
نسبياً التزمت السياسة التركية بهذا المبدأ، لكن مع مطلع القرن الحالي تبين أن هذه السياسة ربما تكون غير صحيحة، والسبب في ذلك هو وجود بعض الدول التي هي أضعف من تركيا عسكرياً وسياسياً، واتخذت سياسة معادية، وبالفعل عانت تركيا من جيرانها الغربيين قبل الشرقيين خلال ثمانينيات القرن الماضي، إذ تعرضت الأقلية التركية في بلغاريا لأعمال عنف ولم تفعل السلطات هناك ما يكفي لحمايتها، وفي الوقت نفسه أعلنت أرمينيا اعتبار جبل أرارات ضمن أراضيها، وكلا الحادثين، في الشرق والغرب، هما تصرف غير مقبول بالنسبة إلى تركيا.
كيف دعمت إيران وسوريا الإرهاب ضد تركيا؟
إيران التي تربطها مع تركيا حدود طويلة وعلاقات دبلوماسية وتجارية، دعمت وحمت تنظيم حزب العمال الكردستاني على مدى ثلاثة عقود، وهو التنظيم الذي تصنفه أنقرة وواشنطن ودول أخرى على أنه تنظيم إرهابي، ونفذ كثيراً من العمليات ضد تركيا، وإيران أيضاً متورطة في عمليات اغتيال شخصيات تركية عدة، وعلى رغم كل ذلك بقيت أنقرة صامتة ولم تنفذ أية عمليات انتقامية ضد إيران.
وفتحت سوريا أراضيها لحزب العمال الكردستاني قبل "اتفاق أضنة" عام 1998، وكانت سوريا هي المقر الرئيس لزعيم التنظيم عبدالله أوجلان، واليوم تسيطر قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، التي تعتبرها تركيا الذراع السورية لحزب العمال الكردستاني، على نحو ثلث سوريا من دون أن ينفذ الجيش السوري عمليات جدية ضده.
كما أضحى شمال العراق اليوم القاعدة الثانية لحزب العمال الكردستاني، وعلى رغم الاتفاقات الأمنية بين تركيا والعراق، والتعاون بين أنقرة وأربيل، لكن بعض الأطراف الكردية العراقية لا تزال بالفعل تدعم حزب العمال الكردستاني، وهناك جهات عراقية تؤيد بشدة قيام دولة كردية مستقلة تجمع كل أكراد المنطقة، أما اليونان فحدث ولا حرج، فقد سحلت كثيراً من الجزر أمام أعين تركيا، وحولت بعض المناطق الحدودية مع تركيا إلى قواعد أميركية.
ضياع الفرص الذهبية
وعلى رغم كل ما ذكر أعلاه لم تتخذ تركيا سوى خطوات ضيقة محدودة للغاية، مع أنها حظيت بفرص ذهبية خلال الأعوام الـ30 الماضية، وعلى سبيل المثال لا الحصر، كانت إحدى تلك الفرص بعد حربي الخليج الأولى والثانية، حيث دخل العراق في عملية التفكك وأُضعفت السلطة المركزية بصورة كبيرة، وفي مثل هذه الفترة كان بإمكان تركيا ضمان تشكيل منطقة تركمانية تتمتع بالحكم الذاتي وتتكون من كركوك والموصل، وبالتالي كان من الممكن إنشاء منطقة عازلة إلى جوار تركيا، ولو تم إنشاء هذه المنطقة لكانت هي العازل بين تركيا وحزب العمال الكردستاني.
وخلال فترة الرئيس السابق تورغوت أوزال تعاونت أنقرة وواشنطن لإنشاء إدارة كردية شمال العراق، وبالفعل أسهمت الشركات التركية في بناء البنية التحتية من مطارات ومدارس ومشافي، كما دربت المؤسسات التركية آلاف البيشمركة كشرطة وقوات كوماندوز، واستضيف ممثلون عن منظمتين كرديتين على مستوى السفراء في أنقرة، وبالمقابل تُرك التركمان العراقيون وعوملوا مثل "معاملة المرأة لأبناء زوجها من امرأة أخرى"، كما صمتت تركيا أيضاً حيال إحداث عمليات تغيير ديمغرافي في كركوك والموصل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تركيا تفضل العرب على التركمان
في عام 2011 اندلعت الاحتجاجات الواسعة في سوريا ضد النظام وتحولت بعد ذلك إلى نزاع مسلح، وتفككت المؤسسات السورية ولم يعد لدى حكومة دمشق القدرة على حماية السيادة السورية، ومع وصول سوريا إلى ما وصلت إليه كان فرصة سانحة لتركيا لإنشاء منطقة تركمانية عازلة من التركمان السوريين، إلا أن أنقرة فضلت التعامل مع العنصر العربي، فدربت فصائل المعارضة السورية من المكون العربي وصنعت منها جيشاً قوياً لا يزال يسيطر على مساحات واسعة من الشمال السوري.
لكن تعاون تركيا مع العرب شمال سوريا ومع الأكراد شمال العراق يبقى في إطار التعاون الأمني والتحالف والمصالح المشتركة، لكن لو كانت تركيا قد أنشأت مناطق تركمانية شمال العراق وسوريا لتمكنت هذه المناطق في وقت لاحق من الانضمام رسمياً إلى الخريطة التركية، وفي هذه الحال تكون الفوضى داخل المنطقة فرصة مفيدة لتركيا إلا أنها أضاعتها، واليوم نرى أن ما جنته تركيا هو عبء ملايين اللاجئين في الداخل وخطر أمني على طول الشريط الحدودي مع سوريا والعراق.
وفي أفغانستان البعيدة، حيث لا عمق لتركيا هناك، وليس لها النفوذ الكافي في كابول، وعلى رغم ذلك وافقت على استقبال اللاجئين الأفغان ومنحت بعضهم جنسية، بغض النظر عما إذا كانوا متورطين في أعمال عنف داخل بلادهم أو لا، وفي المقابل لم تمنح ميزات جيدة للمهاجرين التركمان والأوزبك الذين هم في الأصل أتراك، وهذا الموقف الذي اتخذته الحكومة التركية يتعارض مع المصالح الوطنية للدولة التركية.
آثرت تركيا الالتزام بالاتفاقات الموقعة مع الاتحاد الأوروبي بخصوص الهجرة ومنعت المهاجرين الأفغان من العبور إلى أوروبا، مما فتح لهم المجال للاستقرار في الأراضي التركية، كما عاملت السلطات الأوزبك والتركمان معاملة باقي المهاجرين، على رغم أن هؤلاء أتراك الأصل، وهذا أيضاً يتعارض مع المصالح الوطنية التركية وفق بعض وجهات النظر، إذ كان ينبغي على أنقرة جعل أولوية للمهاجرين من أصل تركي، وتوطينهم سواء في تركيا أو على الشريط الحدودي.
انتظار البيضة
خلاصة القول هو إن تركيا كانت لديها فرص لتحقيق أقصى قدر ممكن من الاستفادة من البيئة الفوضوية واللا استقرار اللذين حصلا في الشرق الأوسط وجنوب آسيا خلال الأعوام الـ30 الماضية، لكنها لم تحقق كثيراً من الإنجازات في هذا الشأن، واليوم يتحدث المسؤولون الأتراك عن خطر إسرائيلي بتوسع الصراع تدريجياً، وتركيا ليست بعيدة من أي صراع يشتعل داخل الإقليم، وعلى رغم ذلك لم تتخذ أنقرة إجراءات ملموسة لمصالحها الوطنية ولم تحاول الاستفادة من حال الفوضى، لكن حتى الآن لم يفت الأوان، وبمعنى آخر لا تزال سوريا في حرب والعراق لم يستقر بعد، ولا يزال بإمكان تركيا دعم إنشاء منطقة تركمانية عازلة شمال سوريا والعراق عبر توطين التركمان فيها، وبذلك يمكن لتركيا حماية حدودها من خطر حزب العمال الكردستاني وأي خطر مستقبلي آخر، وهو خيار لدى تركيا القدرة على تنفيذه، والخيار الأخير هو الانتظار حتى تصل البيضة إلى الباب، تماماً كما تفعل تركيا الآن.
نقلا عن "اندبندنت التركية"
الأفكار الواردة في هذه المقالة تحمل رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر "اندبندنت عربية"
© The Independent