Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

حين تصبح الحروف لعلاج الكاتب وإمتاع القارئ

سطر حنيف قريشي ضمن "المحطم" جانباً من سيرته وسقوطه رهينة للمرض في إيطاليا

صور خاصة لقريشي على هامش مشاركته في أحد المهرجانات عام 2006 (أ ف ب)

ملخص

حنيف قريشي كاتب بريطاني باكستاني الأصل تخصص على مدى مسيرته المهنية في القسوة فأغضبت روايته الأولى "بوذا الضواحي" أسرته بسردها الصريح لمغامرات الجنس والمخدرات التي خاضها مراهق مختلط الأعراق.

ما إن حل "بوكسنغ داي" من عام 2022، وهو اليوم التالي للـ"كريسماس" المخصص قديماً في ما يبدو لإخراج الصدقات، كان الكاتب البريطاني الباكستاني الأصل حنيف قريشي في روما حين وقعت له حادثة أدت إلى نتائج مأسوية. كان صاحب "بوذا الضواحي" و"الجسد" و"حميمية"، وكلها روايات ترجمت إلى العربية ولقيت صدى طيباً لدى القراء، في العاصمة الإيطالية مع صديقته إيزابيلا، ووقع، وقع لا أكثر.

كان قريشي جالساً في شقة صديقته، يشاهد مباراة لكرة القدم، حين شعر بدوار، فانكفأ رأسه بين ركبتيه، وإذا بتلك الوقعة البسيطة تصبح نقطة تحول رهيبة في حياته، أثمرت أخيراً كتاباً عنوانه "المحطم" صدر في أكثر من 330 صفحة عن دار نشر "هاميش هاملتن".

يكتب قريشي في "المحطم"، "في اليوم التالي للـ’كريسماس‘، في روما، وبعد تمشية إلى ساحة بياتزا ديل بوبولو أعقبتها جولة في فيلا بورجيري، ثم العودة إلى الشقة، تعرضت للسقوط. جالساً إلى طاولة في غرفة المعيشة بشقة إيزابيلا والـ’آيباد‘ أمامي، كنت قد رأيت للتو مو صلاح يحرز هدفاً في أستون فيلا. وكنت أرشف البيرة حينما بدأت أشعر بدوار. ملت إلى الأمام واضعاً رأسي بين رجلي، وأفقت بعد دقائق قليلة في بركة من الدم، ورقبتي ملتوية التواء غريباً، وإيزابيلا جاثية بجواري".

ويمضي في تسطير كلماته، "ثم تراءى لي ما لا يمكن وصفه إلا بشيء أجوف شبه كروي تندفع منه مخالب باتجاهي. وأعملت ما بقي لي من عقل فرأيت أن هذا الشيء يد من يدَيّ، وقد بدت لي غريبة ليس لي عليها سلطان. خطر لي أنه لم يبقَ من تنسيق بين عقلي وما بقي من جسمي. بتّ منفصلاً عن نفسي. ووقع في نفسي أني أموت، ولم يبقَ لي غير أنفاس ثلاث. ورأيتها ميتة بائسة حقيرة. يقول الناس إن المرء حينما يشرف على الموت تمر حياته أمام عينيه، أما أنا فلم يكُن الماضي وإنما الحاضر هو الذي فكرت فيه، فكرت في كل ما انتزع مني، في كل ما أردت أن أفعله".

 

 

وفي مقطع آخر من "المحطم" يكتب قريشي، "مستشفى جيميلي ـ روما... السادس من يناير (كانون الثاني) 2023... أعيش أنا وإيزابيلا في لندن، لكننا كنا نقيم في شقتها بروما لقضاء ’كريسماس‘، وهناك تعرضت للسقوط وأنا جالس إلى طاولة مستديرة، مغطاة بالكتب والجرائد، كنت أنا وهي نعمل عليها في الصباح. كانت في الحمام حينما سمعت صرختي الملتاعة، فجاءت واتصلت بالإسعاف. أنقذت حياتي وحافظت على هدوئي وهي جاثية بجواري. قلت لها إنني أريد أن أحادث أبنائي الثلاثة عبر ’فيس تايم‘ لأودعهم، لكن إيزابيلا قالت إنها ليست بالفكرة الجيدة، وإن ذلك سيخيفهم ويفزعهم".

ويروي، "عشت لأيام في صدمة عميقة، تبدلت فيها حالي، ولم أعُد قادراً أن أتعرف على نفسي. أنا الآن في مستشفى جيميلي بروما. لا أستطيع أن أحرك ذراعي وساقي. لا أستطيع أن أحك أنفي، أو أجري اتصالاً هاتفياً، أو أطعم نفسي. وبوسعكم أن تتخيلوا ما في هذا من مذلة ومهانة، وكيف أنه جعلني عبئاً على الآخرين. بحسب تقرير المستشفى عن حالي، فإن وقوعي أدى إلى إفراط في تمدد العنق وشلل رباعي فوري. وأظهر فحص الرنين المغنطيسي ضيقاً شديداً في القناة الفقرية مع علامات إصابة في النخاع الشوكي من ثلاثة سنتيمترات إلى خمسة سنتيمترات. وهذا بلغة الرجل العادي يعني أن الفقرات العليا من عمودي الفقري أصيبت بارتجاح. أجريت لي عملية في الرقبة لتخفيف الضغط عن عمودي الفقري المصاب، وأدت إلى تحسن طفيف".

ثم يسطر، "عندي إحساس، وشيء من الحركة في جميع أطرافي، فلم أتعرض لما يسمونه ’الكسر الكامل‘. سأبدأ العلاج الطبيعي وإعادة التأهيل بأسرع ما يمكن. في الوقت الراهن، ليس من الواضح هل سأتمكن مرة أخرى من المشي، أو هل سأقدر أن أمسك قلماً. وهذه الكلمات أمليها على إيزابيلا لتجمعها ببطء على الـ’آيباد‘ الخاص بها. وأنا عازم على الاستمرار في الكتابة، فلم تكُن الكتابة قط أهم عندي مما هي الآن".

 

 

في استعراضه للكتاب نشرته صحيفة "ديلي تلغراف" في الـ31 من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، يكتب جيمس ويلتن أن "حنيف قريشي تخصص على مدى مسيرته المهنية في القسوة، فقد أغضبت روايته الأولى ’بوذا الضواحي‘ (الصادرة عام 1990) أسرته بسردها الصريح لمغامرات الجنس والمخدرات التي خاضها مراهق مختلط الأعراق، وبسبب طابعها السيري الواضح، بخاصة في ما يتعلق برغبة ذلك المراهق في الفرار من منزله القمعي".

وفي رواية "حميمية" الصادرة عام 1999، يتهيأ الراوي صاحب العلاقات الجنسية المنفلتة للرحيل عن زوجته وابنيه، وذلك ما فعله قريشي نفسه، بعدما انتهى إلى أن "ثمة أهوالاً ترغم المرء أن يترك أبناءه وزوجته يغرقون في بحر متجمد". "والآن في سيرته المحتدمة، يطبق النهج القاسي نفسه على حاله الجديدة باعتباره ’شبه مشلول‘".

في القلب من كتاب "المحطم"، سؤال يطرحه جهاز الـ"آيباد" الخاص بقريشي خلال مشاهدته حلقة من مسلسل "يستحسن أن تتصل بسول" إذ "اسودت الشاشة وظهر السؤال، ألا تزال موجوداً؟". يعلق قريشي على ذلك السؤال بقوله إنه "مثير للاهتمام". وهنا يكتب جيمس ويلتن أن "الجزء الأكبر من كتاب ’المحطم‘ محاولة قلقة، وناجحة في نهاية المطاف، لإثبات أن الإجابة هي نعم. فبعد قضائه سنة في مستشفيات عدة في إيطاليا وبريطانيا، يدرك قريشي أن هويته كلها معرضة لخطر أن يختزل في محض ’مريض‘، فيقرر أن يكتب استرداداً لذاته".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لا يقتصر استرداد الذات من خلال الكتابة على تدوين مستجدات العلاقة مع الشلل يوماً بيوم ولكن "جزءاً من هذه العملية هو تجميع ذكريات طفولته في بروملي، إذ قام والده بدور بطولي بوصفه الرجل الذي عرف حنيف الصغير إلى الكتب والنكات (ولا يتورع قريشي عن الإشارة العابرة والقاسية، قائلاً إن أمي كانت أكثر من عرفتهم من الناس إضجاراً)". ويحرص قريشي أيضاً على أن يذكّرنا ويذكّر نفسه بأنه "كان رجلاً في ذروته، عليه طلب كبير في هوليوود، غير غريب على الجنس الثلاثي في أمستردام، وينعم بوفرة من العلاقات مع مشاهير من بينهم سكير مرح له نظرة في الشابات الجميلات يدعى صمويل بيكيت".

"ولكن ما يريدنا قريشي حقاً أن نعرفه، وما يريد أن يعرفه هو نفسه، هو أنه في المقام الأول والأكبر كاتب. وفي قراءة ’المحطم‘، كثيراً ما فكرت في أن المقاطع الأكثر حيوية تلك التي يناقش فيها الكتابة فيبدو أشد ما يكون حيوية. ومن المؤثر أنه مبتهج بأنه لا يزال قادراً على ذلك. وبسبب عجز يديه، فإنه يملي الكلمات، لتنشر في الأصل على منصة ’سبستاك‘، من سريره في المستشفى، وكان يمليها على صديقته الإيطالية إيزابيلا أو أحد أبنائه الثلاثة. وهذا الأسلوب المتبع في الكتابة هو الذي يفسر طغيان التعليق على الأحداث المباشرة لأن قريشي يتكلم عن كل شيء فور وقوعه، مقتنصاً إحساس اللحظة الخام، وقابضاً على الارتياع الدقيق الذي يشعر به، من دون إمهال نفسه فرصة للتأمل".

يقارن جيمس ويلتن "المحطم" بكتابين صدرا في الآونة الأخيرة وكانا أشبه بتقريرين عن تجربتي كاتبيهما في مشارفة الموت، وهما "السكين" لسلمان رشدي و"أنا، أنا، أنا" لماغي أوفاريس، فيكتب أنه في حالتي كتابي رشدي وأوفاريس "كان قد مر وقت كافٍ لمعالجة التجربة. أما قريشي، فصبها من دون مرشحات" إلى حد أن يكتب في موضع ما "أستأذنكم للحظة، فهذا موعد الحقنة الشرجية". ولهذا السبب كما يكتب ويلتن "يمكن أن تكون أفكاره عشوائية، إذ يأخذه التداعي الحر فينتقل مثلاً من الحديث عن أهمية الحواجب إلى الحديث عن تطور صناعة الإباحية في ستينيات القرن الـ20".

"غير أن هناك طوال الوقت اعترافاً قاسياً بأن هذا كله، بخاصة ذكريات أمجاد الماضي، لا يحدث فارقاً في حاله أو واقعه (وكلمة الواقع تتردد كثيراً في الكتاب). فقريشي يتوق إلى ملذات الماضي التي كان يُعدّها من جملة المسلمات، من قبيل مشاهدة مباراة اليوم وهو يشرب كأس نبيذ، أو الذهاب إلى الحمام من دون حاجة إلى عون من أحد. وعلى رغم أن جزءاً من كيانه يصدق أنه سيسترد هذه الملذات مرة أخرى، فثمة جزء آخر يعي وعياً مريراً بأن هذه الملذات رحلت إلى الأبد. وبعد ’القطيعة‘ النهائية بين حياتيه القديمة والجديدة ’لا أزال في عقلي أعيش حياتي الأولى، بينما في جسدي، لسوء الحظ، أنا في الثانية‘".

 

 

يلتفت بيتر كارتي ضمن استعراضه المنشور في "آينيوز" أمس السبت إلى أن الكتاب الذي بدأ على هيئة سلسلة تقارير كان قريشي يمليها عن حاله في المستشفيات بروما ثم في لندن وينشرها لأهله عبر موقع على الإنترنت، لا يخلو من طرافة، ولا يخلو من تغيرات إيجابية منها تحسن علاقاته الاجتماعية. يكتب قريشي "يجب أن أقول إن الإصابة بالشلل طريقة عظيمة لمقابلة أشخاص جدد"، ولا يخفى ما في العبارة من طرافة، لكن المرارة واضحة فيها أيضاً. وهي على أي حال تكشف عن اتساع دائرة علاقاته لتشمل الفرق الطبية المختلفة والزوار والزملاء من المرضى، فضلاً عن أن معاونة الآخرين له لاعتماده شبه التام عليهم لا تخلو من تجربة ثرية، إذ يكتب قريشي قائلاً إن "مرضي في الغالب يستنفر في الآخرين أفضل ما فيهم ويبدو أنه يفعل مثل هذا بي أنا الآخر".

غير أن هذا لا يعني بحسب ما يكتب بيتر كارتي أن المرض لم يؤدِّ إلى توتر في بعض العلاقات ومن ذلك أن "صديقته إيزابيلا تسأله عن رعايتها له بما فيها من مشقة واستمرارية ’هل كنت لتفعل لي مثل ما أفعله لك؟‘"، فيكتب "لم أستطِع أن أجيب. لأنني لا أعرف".

ولعل هذا التوتر الذي يستشعره بيتر كارتي في علاقة حنيف بإيزابيلا يفقد بعضاً من حدته في ضوء ملاحظة جيمس ويلتن أن القطيعة الكبرى التي أحدثها المرض في حياة قريشي قد تتعلق بالجنس. "ففي ذروة حياته، بحسب ما توحي رواية ’حميمية‘، كانت روايات قريشي ملتزمة اقتفاء أثر الرغبة الجنسية أينما مضت، وبغض النظر عما تتسبب فيه من أضرار، ولكنه الآن لا يرى علامَ كانت هذه الضجة كلها ويتساءل لماذا يكون الجنس ’مهماً، وشاغلاً، لكثير من الناس‘. في الوقت نفسه ثمة علامات رقة جديدة يمكن استشعارها بتغني قريشي كثيراً بطيبة الأصدقاء والأهل، ومن هؤلاء صديقته السابقة وأبناؤه الذين هجرهم، وفي تعهده بأن يكون هو نفسه أرق وأطيب".

يبدو أن كتاب "المحطم" لا يخلو من شبه مع كتاب "المفكرة" للبرتغالي الراحل خوسيه ساراماغو، فالكتاب الأخير أيضاً بدأ بوصفه منشورات على مدونة شخصية تنوعت فيها الاهتمامات تنوعاً كبيراً، واتسعت لملاحظات شديدة العمق مثلما اتسعت لتعليقات على الأحداث اليومية العابرة. ولعل طبيعة الوسيط الأول هذه هي السبب في ما يلاحظه جيمس ويلتن من تفكك في كتاب "المحطم"، إذ يكتب أنه "بطبيعته ليس كتاباً متماسكاً. وفيه قدر غير قليل من التكرار وبعض التناقضات الصريحة".

يرى جيمس ويلتن أن التكرار والتناقض لا ينجمان عن طبيعة النشر على الإنترنت الذي لا يتيح فرصة للمراجعة أو التنقيح أو التعمق كلما وجب التعمق ولكنه يعدّهما "تصويراً صادقاً لدوامة قريشي العقلية، بخاصة في التناوب الدائم ما بين الرجاء واليأس".

ويمضي ويلتن فيقول إن "الشيء الوحيد تقريباً الذي لا يتحرى فيه قريشي الصراحة هو الحقيقة، المزعجة له قطعاً، والقائلة إنه بعد 40 عاماً من العمل لا يزال مشهوراً بسيناريو ’غسالتي الجميلة‘ (1985) ورواية ’بوذا الضواحي‘ (1990). ولي نظرية غير شديدة التعقيد لتفسير هذا وهو أنه لم يكتب أي شيء بجودتهما منذ أن كتبهما، ولكن ’المحطم‘ ينبغي، إذا ما توافر الإنصاف، أن يمثل لمحاوري قريشي وكاتب سيرته المثبتة في منصة ’إكس‘ عملاً ثالثاً جديراً بتقديمه للقراء".

 

 

يرى روب دويل في استعراضه ضمن صحيفة "ذا غارديان" المنشور في الـ28 من أكتوبر الماضي، أن الكتاب يمثل "في آن واحد أصعب وأسهل كتاب كتبه قريشي على الإطلاق، فالصعوبة تنجم عن ظروف كتابته المريعة التي لا تراجع عنها، والسهولة تأتي من مادته المثيرة للاهتمام بطبيعتها، أي ذلك الانقلاب المصيري شديد الدراماتيكية والبشاعة، فهذه مادة يستطيع أي كاتب عادي الموهبة أن يجعل منها شيئاً قابلاً للقراءة، ولا شك في أن ’المحطم‘ تقرير ساحر عن الطريقة التي يمكن لشخص أن يتعامل فيها مع تغيير مفاجئ وصادم وقاهر".

ولكن قابلية "المادة" لإثارة القراء هي ما يجعل جيمس ويلتن يشير إلى "شك دائم" بأن السير المكتوبة عن الصدمات ما هي إلا "محاولات انتهازية بل صفيقة، لإثارة المشاعر، لكن ’المحطم‘ أشد تأثيراً في النفس من ذلك. فقريشي يكتبه حرفياً لكي يسترد به حياته. ومع أنه في موضع ما، يعلن بصرامة أن الكتابة ’ليست علاجاً للكاتب ولكنها إمتاع للقارئ‘، فإن الإمتاع في ‘المحطم‘ له طبيعة خاصة معقدة، إذ إن الكتاب يوضح بلا شك أن من الممكن الجمع بين علاج الكاتب وإمتاع القارئ".

العنوان: Shattered

تأليف: Hanif Kureishi

الناشر: Hamish Hamilton

اقرأ المزيد

المزيد من كتب