Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ليست "الحرية" مثلما نتصورها

سطر تيموثي سنايدر كتابه من وسط القصف في أوكرانيا وسعى لأن يحول المفهوم من غاية إلى وسيلة

عاد سكان مدينة خيرسون الأوكرانية ليعيشوا في أنقاض منازلهم   (أ ف ب)

ملخص

يكتب سنايدر أنه لكي تبقى أميركا أرض الأحرار بعد نصف قرن من الزمن فـ"لا بد أن تنتصر أوكرانيا في حرب روسيا"، فهل تراه يصدق أن هذا ممكن بالفعل؟ هل يعني "الانتصار" شيئاً مماثلاً لاستسلام الجنرالات الألمان غير المشروط في مايو 1945؟

بينما كان أستاذ التاريخ بجامعة ييل الأميركية تيموثي سنايدر يتحدث إلى إذاعة أميركا الوطنية قال، "آسف إذا كان صوتي يرتعش. آسف إذا كان صوتي يرتعش قليلاً، لكن هناك في الحقيقة صاروخاً، وأنا في الحقيقة" وانقطع صوته. قال المذيع، "بروفيسور سنايدر، بروفيسور سنايدر، ألا تزال تسمعنا؟".

كان سنايدر في ذلك اليوم، الـ14 من سبتمبر (أيلول) الماضي، يتحدث إلى إذاعة بلده من أوكرانيا، ومرت دقائق متوترة قبل أن يرجع صوت سنايدر، ويوضح أن ذلك كان صاروخاً أطلقه الروس على كييف وأن قوات الدفاع الجوي الأوكرانية اعترضته وأسقطته. قال إن الصواريخ تكون سريعة للغاية ولا يجب أن يهدر المرء الوقت، فكان لا بد أن يسارع بالخروج من نطاق الـ"واي فاي".

لم يكن وجود سنايدر في أوكرانيا غريباً على رغم ما فيه من خطورة، فأوكرانيا توشك أن تسيطر على كتابه الصادر حديثاً بعنوان "عن الحرية"، وهو كتاب يجمع ما بين السيرة والتأمل وألمانيفستو. إذ يمزج سنايدر بين حكايات الفترات التي قضاها في أوروبا الشرقية وتأملاته لما وقع هناك من أحداث خلال العقود الأخيرة، مستحضراً أبطاله الشخصيين، من المفكرين الأوروبيين الذين عاشوا وماتوا في منتصف القرن الـ20 حينما شهدت المنطقة أهوال الحرب العالمية الثانية وما سبقها وأعقبها.

بلدان ولغات

يكتب جيفري ويتكروفت في "نيويورك تايمز" بتاريخ الـ18 من سبتمبر الماضي، أن سنايدر "قبل أن يصبح أستاذاً في جامعة ييل ومؤرخاً مرموقاً، قضى أعواماً عديدة في وسط أوروبا وشرقها فعرفها بلداً بلداً، وتعلم لغاتها لغة تلو الأخرى، وقابل كثيراً من الناس منهم من كانوا معارضين شجعاناً للحكم الشيوعي في مرحلة انحطاطه. وتتضمن أعماله البحثية كتابه الهائل المفزع "أراضي الدم" الذي يصف فيه فترة الثلاثينيات والأربعينيات البشعة من القرن الـ20 حينما مات 14 مليون شخص بطريقة أو بأخرى على يدي هتلر وستالين، إذ كانت أوكرانيا مقبرة جماعية شنيعة. ولا بد أنه كان يرجو حينما نشر ذلك الكتاب قبل 14 سنة، ألا تقع هذه المجزرة الدموية واسعة النطاق مرة أخرى".

إثر فوز دونالد ترمب برئاسة الولايات المتحدة في عام 2016، انتاب الرعب سنايدر شأن كثير من الأميركيين، فأصدر في عام 2017 كتابه "عن الطغيان" متأملاً فيه بأثر رجعي "النجاح المدوي الذي حققته الفاشية في أوروبا خلال القرن الـ20، وكيف أنها استعملت الديمقراطية في تدمير الديمقراطية. بحث سنايدر عن دروس قد تساعد في وقاية أميركا من أي كارثة مماثلة".

وبطريقة ما، يبدو طبيعياً بعد كتابة "عن الطغيان" أن يأتي سنايدر بكتاب "عن الحرية". يقول تيموثي سنايدر في الحوار الذي أجري معه من كييف تحت القصف الصاروخي، "إننا في بلدنا نفكر في الحرية تفكيراً محدوداً للغاية. فغاية فكرتنا هي أننا نكون أحراراً عندما تتركنا الحكومة وشأننا، ومن أسف أن هذه الفكرة ترجع مباشرة إلى العبودية. فهي فكرة من عهد كانت الحكومة فيه هي الوحيدة القادرة على تحرير العبيد، وليس هذا بخطأ فكري فقط، ولكنه وصمة تاريخية، فلا يمكنك أن تكون حراً وحدك، عليك أن تشرك آخرين، وعليك أن تعترف أن غيرك من البشر هم بشر مثلك".

 

يفصل سنايدر هذه الفكرة كتابة، فيقول إن "الحرية ليست محض غياب الشر. إنما الحرية هي حضور الخير. هي قيمة القيم، وهي الظرف الذي نختار فيه الخيرات ونجمعها، ونجلبها إلى العالم، تاركين من ورائنا أثرنا الفريد. الحرية إيجابية. وما دام الأميركيون يتخيلون الحرية بالسلب، باعتبارها التخلص من قبضة السلطة، فما نحن بـ’أرض للأحرار’ [كما يرد في نشيد أميركا الوطني]".

الحرية واللاحرية

يكتب جيفري ويتكروفت أن الفلاسفة منذ أمد بعيد، بدءاً بأرسطو وكانط وحتى جون ستيوارت ميل وإيزايا برلين، يناقشون مسألة الحرية واللاحرية وأن كتاب سنايدر "لا ينتمي إلى هذه الفئة طبعاً أو يطرح حجة قوية تطاول حججها، لكنه يتتبع إيزايا برلين في كتابه (مفهومان للحرية)، ويوشك أن يكون أشد منه انتقاداً لـ(الحرية السلبية) التي تعني غياب التقييد أو القهر، لكنها قد تعني أيضاً التحرر من الموت جوعاً أو الموت بمرض لا يلقى علاجاً".

فيكتب سنايدر أن الحرية السلبية "شرط لازم للحرية، لكنها ليست الحرية نفسها". فالحرية الإيجابية أو الجوهرية التي يمكن أن تعاش فيها حياة كريمة هي بحسب ما يكتب سنايدر "الحرية التي تستوجب عملاً جماعياً".

يكتب سنايدر أن "الحرية تساعدنا على أن نعرف كيف نحكم. وللحرية في رأيي خمسة أشكال تربط بين الفلسفة والسياسة. أولها، السيادة، وتعني قدرة الأطفال على أن يفهموا أنفسهم والعالم، فنحن نتصور الدول ذات سيادة، ولكن السياسة التي تحقق الحرية تستوجب لوناً من الحكم يساعد الناس على أن يكونوا هم أنفسهم ذوي سيادة". "والشكل الثاني هو عدم القدرة على التنبؤ، وهو ما يضفي علينا الانفلات والحيوية. والثالث هو الحركة، أي تعدد المسارات التي تنفتح أمامنا في المكان والزمان. والرابع هو الوقائعية، أي القبضة المحكمة على العالم بما يتيح لنا تغييره. والخامس التضامن أي إدراك وجوب الحرية للجميع".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

"من الجبن أن نفكر في الحرية سلباً. فحينما نفكر في الحرية على هذا النحو، نترك جميع الأسئلة الصعبة معلقة: من نحن، ما الذي نهتم لأمره، ومن أجل أي شيء قد نخاطر؟ وما نقوله عندئذ هو جوهرياً أن شخصاً آخر أو شيئاً آخر سيملأ الفراغ وينوب عنا في القيام بالعمل. فثمة زعيم لينبئنا بما يجب أن نفكر فيه أو سوق أو آلة لتفكر بالنيابة عنا أو الآباء المؤسسون الذين بطريقة ما فكروا في كل شيء قبل أمد بعيد. والحق أننا لسنا في حاجة إلى الحكم إلا ليحل مشكلات معينة فيتسنى لنا أن نكون أحراراً. حكم هو الذي يصد غازياً أو يمنع احتكاراً. ولكن ما هذه إلا البداية. فحينما تتوافر للناس رعاية صحية، يكونون أقل قلقاً على المستقبل وتتوافر لهم حرية تبديل الوظائف. وحينما يتاح للأطفال سبل المدارس يكون الكبار أحراراً لتنظيم الحياة. والأطفال الذين يتعلمون هم القادرون على الدفاع عن أنفسهم ضد أكاذيب الطامحين إلى الطغيان".

يعلق ويتكروفت بأن استغراق سنايدر العميق في أوروبا الشرقية، لم يحل بينه وبين رؤية مشكلة الحرية في بلده بوضوح، فسنايدر إلى جانب عمله الجامعي يقوم بالتدريس للسجناء، وذلك ما منحه تقديراً أكثر حدة لأهوال السجن الجماعي في أميركا، كما أن سنايدر عانى في عام 2019 من مضاعفات شبه مميتة بسبب استئصال الزائدة الدودية فجعله هذا أشد وعياً بعيوب نظام الرعاية الصحية في أميركا فيكتب أن "الأميركيين يعيشون عمراً أقصر، والمرضى منهم يعيشون وهم ينفقون على الرعاية الصحية أكثر مما ينفق غيرهم في البلاد الثرية".

"لكن المشكلة تظهر عندما ينتقل سنايدر من التشخيص إلى العلاج". فهو يكتب أن (توفير الرعاية الصحية للجميع أمر ممكن، ومرغوب في ذاته، ولازم من أجل مستقبل الحرية). فحظ سعيد له في هذا. لكنه لا بد أن يعرف أنه ما من احتمال في المستقبل المنظور لأن تقيم الولايات المتحدة نظام رعاية صحية للجميع كالذي ينعم به كل بلد في غرب أوروبا، وما من احتمال، فازت القاضية هاريس أم لم تفز بالانتخابات الرئاسية، في إصلاح نظام العقوبات الأميركي الشرس".

يكتب جيفري ويتكروفت أن "سنايدر يرجع المرة تلو الأخرى في كتابه إلى أوكرانيا، إذ يرى أن الصراع الجاري هناك إنما هو صراع بين الحرية واللاحرية على نحو مشهود القسوة. يبدأ سنايدر من قرية بوساد بوكروفسكي في جنوبي أوكرانيا التي تدمرت بالكامل بسبب التقدم الروسي ثم رجع أهلها للإقامة فيها وسط أطلال بيوتهم. وابتداء من هنا، يسيطر العنف الروسي والمعاناة الأوكرانية على الكتاب".

يكتب سنايدر، "أعرف بلدة في أوكرانيا تهدم كل منزل فيها بالقصف أو بالقنابل، فحتى الركام فيها مليء بثقوب طلقات الرصاص، تلك هي بلدة بوساد بوكروفسكي في منطقة خيرسون وقد احتلها الروس لغالب عام 2022 قبل أن يخرجهم الجيش الأوكراني منها. زرتها قبل عام فالتقيت ماريا. وكانت تعيش في كوخ من الصفيح وراء أنقاض بيتها، موزعة أغراضها بانتظام، فزجاجات المياه مصفوفة، والكوابل المتصلة بالمولد مخفية بإحكام. وجدتها فخورة بحكومتها الأوكرانية وتبكي متعاطفة مع رئيسها فولوديمير زيلينسكي الذي بدا بالنسبة لها صغيراً، فهي في الـ86 من العمر. وبينما كنا نتحدث بالأوكرانية وجدتها تستعمل كلمة (إنهاء الاحتلال) بدلاً من (التحرير)، وكان معي في حقيبتي مسودة كتاب عن الحرية، فأخرجته ودونت ملاحظة".

"يحلو لنا الظن بأن الناس يستردون الحرية حينما يصل الجيش الصحيح، ويحدث التحرير. ولكن إزالة الشر غير كافية. فقد كانت ماريا لتنعم بقدر أقل من الحرية دون مسكنها الموقت الذي وفرته لها منظمة دولية. وستنعم بقدر أكبر من الحرية عندما يتسع الممر الممتد وسط الأنقاض فيتسع أكثر للمشاية التي تستعين بها على السير، وحينما تعود الحافلات للانتظام من جديد".

"والأوكرانيون لا ينتظرون منا أن نجلب إليهم الحرية. فقد طلب مني جندي أن أذكر الأميركيين بأن الأوكرانيين لا يحتاجون إلى قواتنا. إنما هم في حاجة إلى أسلحتنا، لتكون وسيلة من وسائل كثيرة تجعل مستقبلهم مفتوحاً أمامهم. فليس بوسع أحد أن يجلب لغيره الحرية. لكن الحرية تنشأ من التعاون".

 

"ينبغي على الأوكرانيين أن يواصلوا قتالهم لأنهم يعلمون ما الذي يعنيه الاحتلال الروسي. وعندهم كل الأسباب التي تدعوهم إلى التفكير في الحرية تفكيراً سلبياً باعتبارها محض إزالة للخطأ. ولكنني عبر مئات الحوارات التي أجريتها حتى الآن مع أوكرانيين حول الحرية لم أسمع قط من يقول إن الحرية تتعلق بالتزامات أخلاقية وإمكانات عديدة. والأوكرانيون الذين يسوقون الشاحنات إلى الجبهة ويعيدون بناء البيوت يتكلمون أيضاً عن أفعالهم هذه في سياق الحرية".

"في أطلال ضواحي خاركيف خلال الآونة الأخيرة، وفي أطلال منطقة خيرسون في العام الماضي، تذكرت ممرضة ألمانية وصلت إلى معسكر اعتقال نازي سنة 1945 بعد (التحرير). فكتبت في يومياتها أن هذه الكلمة ليست الكلمة الصحيحة. إذ رأت أنه لا يمكن اعتبار المعتقلين أحراراً ما لم يستردوا صحتهم ويعالجوا من صدماتهم".

"من المؤكد أن إزالة القوة الروسية من أوكرانيا أمر له شأنه. كما كان هرب القوات النازية من معسكرات الاعتقال أمراً له شأنه بطبيعة الحال. فما من حرية لأحد وراء أسلاك شائكة أو تحت القصف، سواء أكنا نتحدث عن الماضي أم عن شينجيانغ أم عن غزة أم عن أي مكان آخر".

لا بد من التنازل

يعلق جيفري ويتكروفت قائلاً، "إننا نتفق جميعاً أن فلاديمير بوتين متوحش متعطش للدماء، وأن غزوه لأوكرانيا عمل عدواني مخز، لكنني شخصياً أتمنى أن تنتهي هذه الحرب الشنيعة بأسرع ما يمكن، ولعل نهايتها تعني بصورة شبه مؤكدة تنازلاً بدرجة أو بأخرى. لكن حينما يكتب سنايدر أنه لكي تبقى أميركا أرض الأحرار بعد نصف قرن من الزمن فـ(لا بد أن تنتصر أوكرانيا في حرب روسيا)، فهل تراه يصدق أن هذا ممكن بالفعل؟ هل يعني (الانتصار) شيئاً مماثلاً لاستسلام الجنرالات الألمان غير المشروط في مايو (أيار) 1945؟ السبيل الوحيد لحدوث مثل هذا هو أن يعقب انقلاب يطيح بوتين، وهي أشهى النتائج الآن، وأبعدها احتمالاً في الآن نفسه".

"وحينما يكتب سنايدر أنه في حال (خذلان حلفاء أوكرانيا لها، سيكون ذلك تشجيعاً للطغاة في أرجاء العالم، وستلي هذه الحرب حروب أخرى)، ولقد بلغ البعض منا من العمر ما يجعلنا نشعر أننا شاهدنا هذا الفيلم من قبل. كان يطلق عليه نظرية الدومينو، وكانت تثار لتبرير حرب فيتنام التي خيضت باسم الحرية، فلم تجلب في غداتها إلا غياب الحرية".

يدرك جيفري ويتكروفت أن رؤيته هذه قد تبدو مقبضة خصوصاً حينما ترد في ثنايا كتابته "عن كتاب محفز حسن النية"، ويضيف أن "سنايدر محق بالطبع، بمعنى أن مشاعره موجهة الوجهة الصحيحة. وأنا أشاركه خوفه من الجرائم ماضيها وحاضرها، لولا أنني لا أشاركه تفاؤله حيال المستقبل".

لكن على رغم سيطرة أوكرانيا على كتاب سنايدر، وعلى مقالة ويتكروفت أيضاً، فإن "عن الحرية" ليس كتاب دعاية إلى تحرير أوكرانيا، وحثاً لإدارة الولايات المتحدة على مزيد من الالتزام تجاه أوكرانيا وضد روسيا. وقد لا يضع الكتاب مؤلفه في مقام عتاة الفلاسفة الذين كتبوا في الموضوع، لكنه يظهره قارئاً جيداً لهم. لعل التفاؤل الذي يأخذه ويتكروفت على سنايدر ليس إلا تفكيراً عملياً في الحرية يحولها من "غاية" في ذاتها، إلى "وسيلة". فليست الحرية مثلما يرسم سنايدر ملامحها تلك الحالة التي ينعم بمثلها أو بشيء قريب منها الحيوانات في البرية، ولكنها أداة لإصلاح العالم لكل من فيه. يكتب سنايدر:

"فيما كنت أنهي كتابي (عن الحرية)، حاولت أن أنصت إلى الناس الذين تختلف مآزقهم عن مأزقي وكانت منهم ماريا. لقد حملتني على التفكير. لكي نكون أحراراً ينبغي أن نرى الآخرين، وينبغي بالمثل أن نرى أنفسنا. وحينما نفهم الحرية الفهم الصحيح، وحينما نستخلص الدروس الصحيحة من أصعب المواقف، يمكن أن نربط بين الحرية والحكم. وحينئذ يكون بانتظارنا ذلك المستقبل الأفضل، ذلك النطاق الجميل من القدرات المتاحة لأشخاص منفلتين لا يمكن التنبؤ بما سيفعلون".

العنوان: ON FREEDOM 

تأليف: Timothy Snyder 

الناشر: Crown 

اقرأ المزيد

المزيد من كتب