ملخص
تقول روثفيلد "في المقال الثالث، وهو أطول المقالات، يذهب كوتس إلى أن الإسرائيليين وقعوا أخيراً فريسة لمثل هذا التفكير فنجمت عن ذلك نتائج مريعة. لقد أنشأ الإسرائيليون أيضاً -بحسب ما يكتب كوتس- ماضياً زائفاً، غايته تبرير جرائم الحاضر".
عدته توني موريسون وهي من هي في تمثيل قضية الأميركيين ذوي الأصل الأفريقي وريثاً لجيمس بولدوين وهو من هو أيضاً في تمثيلهم. وعدته مجلة "فانيتي فير"، "أهم مفكرينا". ذلك هو الكاتب الأميركي تانهاسي كوتس الذي صدر له أخيراً كتابه "الرسالة" عن دار نشر "وان وورلد".
قبل أن يتحول تانهاسي كوتس إلى تأليف الكتب وتدريس الكتابة والمفكر المرموق كان محرراً في مجلة "ذي أتلنتيك" ومؤلفاً لسيرة عن طفولته بعنوان "الكفاح الجميل" (2008)، ثم اجتاح المجال العام بمقالة في تلك المجلة عنوانها "قضية التعويضات" عام 2014، وثق فيها التاريخ الطويل لسياسات الإسكان العنصرية وطبيعتها التدميرية وذهب فيها إلى ضرورة تعويض نسل الأميركيين السود المستعبدين.
أتبع كوتس ذلك بكتاب أشد انتقاداً للعنصرية عنوانه "بين العالم وبيني" (2015) مخاطباً فيه ابنه البالغ من العمر 15 سنة، وصار ذلك من أكثر الكتب مبيعاً. فليس بغريب أن يلقى كتاب كوتس الأحدث كثيراً من الاهتمام وليس غريباً أيضاً أن يثير الجدل، وبخاصة أن جزءاً كبيراً من "الرسالة" مبعوث من فلسطين.
الاتهام والتجاوز
اتهم مقدم برنامج (سي بي أس مورنينغز) توني دوكوبيل مؤلف الكتاب بـ"التطرف"، منتهكاً بذلك عرفاً غير مكتوب يمنع مقدمي البرامج من التجاوز في حق الضيوف، وتعدى دوكوبيل ذلك إلى ما وصفته ريبيكا روثفيلد (واشنطن بوست، الخامس من أكتوبر ’تشرين الأول‘ 2024) بـ"استجواب" لضيفه "دفاعاً عن إسرائيل". وفي إصداره "فري بريس" كتب كولمان هيوز أن رغبة كوتس في تلويث سمعة أميركا لم تتضاءل إلا لأن رغبته في تلويث سمعة إسرائيل طغت عليها. وفي مقدمة حوار طويل مع الكاتب بدت نعومي كلاين أرق انتقاداً لكوتس إذ قالت (نيويورك تايمز، الـ11 من أكتوبر 2024) إن الانتقادات الموجهة للكتاب تعده "صورة غير مكتملة، وهو صورة غير مكتملة. والناقص، حتى في ما يتعلق بالجانب الفلسطيني كثير، وأعتقد أنه كان يمكن إدراجه، بل كان ينبغي إدراجه".
غير أننا يجب ألا نتصور من ذلك أن "الرسالة" كتاب عن فلسطين، لأنه في الحقيقة ليس كذلك بالضبط.
تكتب بيكا روثفيلد أن الكتاب يأخذ صورة رسالة موجهة إلى الطلبة الذين يدرس لهم كوتس الكتابة في جامعة هوارد (وهي من أهم المؤسسات التعليمية الأفروأميركية)، والكتاب ليس بحثاً عن الفلسطينيين لكنه تأمل للعلاقة بين الأستطيقا [أي الجماليات aesthetics] والسياسة، وقد يعد أيضاً من قبيل أدب الرحلات، وكثير من الكتاب يتعرض لافتتان كوتس الشخصي بالأدب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويكتب بارول سيجال (ذي نيويوركر، الـ14 من أكتوبر 2024) أن الكتاب يأخذ صورة محاضرة طويلة حول استعمال السرد وإساءة استعماله، من خلال ثلاث سفرات إلى السنغال وكارولاينا الجنوبية وفلسطين، لكن الكتاب في جوهره اعتراف بالذنب، "ففي مقالة ’قضية التعويضات‘ كان كوتس استشهد بالتعويضات الألمانية لإسرائيل بعد الهولوكوست معتبراً ذلك نموذجاً يحتذى به، مغفلاً ما ساعدت هذه التعويضات عليه، فهو الآن يعترف بأنها أتاحت للصهاينة أن يشردوا قرابة 700 ألف فلسطيني ثم يمنعوهم من العودة إلى أرضهم وأملاكهم".
الفضيلة والجمال
غير أن روثفيلد تصر أن "الرسالة" كتاب غير سياسي ومن الواضح "أنه يطالبنا بتقييمه بوصفه نصاً كتابياً، وسوف أقيمه وفقاً للمعايير التي يضعها لنفسه. وهو في مسعاه الجمالي لم يحقق النجاح الكامل، وليس ذلك لأنه متطرف وإنما لأسباب أبسط وأقل دراماتيكية وهي أنه مفكك، وثقيل وكثير الكليشيهات. وقد لا يكون كوتس صاحب الأسلوب الذي يصوره المعجبون به لكنه يقيناً ليس المتعصب الشرير الذي يصوره منتقدوه، وذلك لسبب واحد هو أنه لا يرى أن الكتابة كلها إنما هي في خدمة السياسة. إنما يؤكد أنه قادر على رؤية الجمال لدى إزرا باوند على رغم تعاطف الأخير مع الفاشية".
وتكتب روثفيلد أن الأطروحة الأساس في "الرسالة" أهم كثيراً من الزعم الذي بات مبتذلاً الآن بأن الكتابة لا تكون جميلة إلا بقدر نصيبها من الفضيلة أو الفاعلية السياسية، إذ "لا يزعم كوتس أن النص لا بد أن ينجح سياسياً لكي ينجح جمالياً وإنما العكس، وهو أنه لا يمكن أن ينجح سياسياً إلا في حدود نجاحه جمالياً"، وذلك لأسباب عدة "أولاً، يذهب كوتس إلى أن الفنون تعلمنا الممكن وغير الممكن، لأنها تعلمنا ضمن ما تعلمنا إياه ما الإنساني وما غير الإنساني، فلكي نكتب مثل كتابة فريدريك دوغلاس [صاحب "مذكرات عبد أميركي" التي ترجمها إلى العربية الروائي المصري إبراهيم عبدالمجيد] من الضروري أن نتخيل المستعبدين والمستعمرين والمهزومين بشراً". وثانياً لأنه إذا كانت العنصرية والتمييز على أساس الجنس وغيرهما من أنظمة القهر تقوم على أساطير الهيراركية، فالكتابة قادرة على محاربة هذا التعصب بمعارضة "القصص التي سعت إلى تطبيع التعصب". والسبب الثالث والأخير أن الكتابة الجيدة تقتضي من أصحابها الفضول ورفض الرومانتيكية السطحية بالنظر إلى العالم في عينيه".
ويحاول كوتس في كتابه أن يعلم طلبته "لماذا" يكتبون وليس "كيف" يكتبون، ويقف بوضوح في خندق المقهورين ويفترض أنه يوجه كتابته لهم، أو بالأحرى للكتاب الناشئين منهم. وينبه إلى فخ كثيراً ما يقع فيه المقهورون، إذ تكتب روثفيلد أن كوتس يشير إلى إغراء قلب سرديات المتعصبين رأساً على عقب. ويقول إن دعاة "التقليد التبريري" (ناسباً هذه العبارة إلى مؤرخ القرن الـ20 سان كلير دريك) يسعون إلى "استرداد التاريخ الذي استُعمل سلاحاً عليهم ليقلبوه على جلاديهم" وذلك بأن يكتب المقهورون "تاريخاً بديلاً يكونون فيه هم الذين ولدوا ملوكاً لا عبيداً". ويحذر كوتس طلبته من هذه النزعة إلى توظيف "أسطورة الأصل الأفريقي الطوباوي" فيكتب "إنني أحاول أن أحرضكم على شيء جديد ليس بالمناهضة البسيطة لأساطير الغزو، وإنما أحرضكم ضد الرغبة في اختلاق أساطير لأنفسكم".
وفي استعراضه للكتاب ينتبه بارول سيجال إلى هذه النقطة فيكتب أن "بوسع قصة أن تفسر العالم وبوسعها بالمثل أن تشوهه وتحجبه، ويبرز كوتس لطلبته أخطار السرد وإغراءاته. ففي المقالة الثانية من كتابه التي تتناول السنغال، يتأمل منشأ أساطير الكولونيالية فيكتب أن ’هذا النظام الكبير كان لا بد له من اختلاق نظرية كبيرة... فتجذرت في تأكيد حقيقة بسيطة هي أن الأفريقي لم يكن إنساناً أصلا‘".
غير أن كوتس -في ما تلاحظ روثفيلد- يضرب بنفسه مثالاً مؤثراً لغواية التبرير "فحينما سافر إلى دكار بالسنغال كان عاقداً العزم على رؤية واقع هذا الوطن الذي لم يعرفه، غير أنه وجد نفسه على غير انتظار مستسلماً لغواية أن يرى دكار باعتبارها (منشأ أميركا السوداء) وهذه في حد ذاتها قصة مختلقة، وعلى رغم أنه كان يعلم أن جزيرة غوري الواقعة قبالة ساحل السنغال لم تكن أكثر من (موقع أسطوري للرحيل) وليست المكان الحقيقي الذي استعبد فيه كثر أو اختطفوا، لم يتمالك دموعه حينما زارها".
وتقول روثفيلد "في المقال الثالث وهو أطول المقالات يذهب كوتس إلى أن الإسرائيليين وقعوا أخيراً فريسة لمثل هذا التفكير فنجمت عن ذلك نتائج مريعة. لقد أنشأ الإسرائيليون أيضاً -بحسب ما يكتب كوتس- ماضياً زائفاً غايته تبرير جرائم الحاضر".
القانون والعنصرية
وتكتب روثفيلد أن للعنصرية ضد العرب تاريخاً مديداً في إسرائيل وأن كوتس شهد في زيارته اتباع قانونين بدلاً من قانون واحد على الجميع، ورأى أن البلد يكرم العنصريين اليهود دعاة ضم الضفة وغزة واستعباد الفلسطينيين بإطلاق أسماء بعضهم على الحدائق، وشهد عياناً المشردين في الضفة الغربية، فخصص أطول مقالات كتابه لمحنة الشعب الفلسطيني "وهذا خيار يستوجب قدراً عظيماً من الشجاعة في زمن بات فيه منتقدو إسرائيل يوصمون عادة بمعاداة السامية"، لكن "’الرسالة‘ في النهاية ليس كتاباً عن فلسطين ولا هو عمل صحافي معلوماتي، فهو لا يكشف معلومات جديدة أو يرسم صورة للأماكن التي يزورها كوتس. إنما هو بحث جمالي وجمع لتأملات شخصية واستبطان من الكاتب لنفسه".
وهذا ما يأخذه جاي كاسبيان كانغ على كوتس في مراجعته للرسالة (نيويوركر، الرابع من أكتوبر 2024)، إذ يقو، "يبدو لي أن الكتاب بميلهم إلى الدراما ونزوعهم الطبيعي إلى الاعتزاز بذواتهم غير مؤهلين لتقديم الحكمة. قد يكون بالإمكان استخلاص دروس بعد قضاء عمر في القراءة والكتابة، لكن لو أن هذه الدروس موجودة فإن معظمها خفي علي... إن وظيفتنا (نحن الكتاب) هي أن نكتب، وليس أن نغير مسار التاريخ".
وتكتب روثفيلد "على رغم إعجابي بكانغ فإنني لا أتفق مع سخريته من مهنتنا المشتركة. وأفضل ما في كتاب كوتس إيمانه الراسخ بالقوة السحرية التي تحظى بها الكلمة المكتوبة". ومثلما أدرك كوتس من زيارته لبلدة في كارولاينا الجنوبية سعى فيها المحافظون إلى حظر كتبه، فإن الذعر الرجعي هناك من الكتب التي تنتقد العنصرية شهادة لقوة الأدب وقدرته على التحفيز.
ويكتب جاي كاسبيان كانغ "خلال نوفمبر الماضي وبعد أقل من شهر على بدء حرب غزة، ظهر كوتس في برنامج ’الديمقراطية الآن‘ ليتكلم عن تجربة زيارته الضفة الغربية التي كانت مادة مقالة كتابه الأخيرة. وأعجبتني شجاعته، فليس كوتس من المثقفين الذين يزنون كل كلمة في كل موضوع، لكنه أراد بوضوح أن ينبئ العالم بالفترة التي قضاها في الشرق الأوسط وأن يوضح الصلة بين ما رآه هناك وما عاشه في أميركا بوصفه رجلاً أسود في لحظة خشي كثير من الكتاب فيها أن يتفوهوا بكلمة".
ويقول كوتس "إننا نتعرض لطاعون من اللغة الميتة والقصص الميتة التي تخدم أشخاصاً غرضهم لا يقل عن عالم ميت". وينبه كوتس طلبته إلى أنه "لا يكفي أن نقف في وجه أولئك الأفاقين. لا بد أن يكون فيكم شيء، شيء نهم إلى الوضوح. ولسوف تحتاجون إلى هذا النهم لأنكم إن مضيتم في هذا الطريق فعما قريب ستجدون أنفسكم لا في مواجهة أساطير الأفاقين فحسب، ولا في مواجهة قصصهم فحسب، وإنما في مواجهة أساطيركم أنتم وقصصكم".
ويشير كوتس إلى أن الكتاب السود في أميركا لا ينبغي أن يتبعوا معايير "تجار العبيد والكولونياليين والأشرار" وإنما عليهم أن يتبعوا معياراً "يساوي بين صقل الكتابة وصقل ما لدينا من نور. وفي ذلك النور نحن مكلفون بفحص القصص التي حكيت لنا وكيف تأسست عليها سياسات قبلناها، ثم نحكي من بعد ذلك بأنفسنا قصصاً جديدة".
ويكتب كانغ "أتصور أن الفحص الذي يشير إليه كوتس هنا هو صحوته الشخصية في ما يتعلق بالضفة الغربية وغزة وإسرائيل. ففي فصل الكتاب المخصص لمحنة الفلسطينيين يكتب عن مشاهدته لخزانات جمع مياه الأمطار فوق بيوت الفلسطينيين، "وفي مستوطنات الضفة الغربية التي كنت يوماً أعدها محض مساكن، ثمة أندية ريفية مجهزة بمسابح ضخمة. عندما رأيت خزانات البيوت الفلسطينية خطر لي أن إسرائيل تجاوزت قوانين جيم كرو (العنصرية في الولايات المتحدة)، فلم تكتف بالفصل العنصري في المسابح والحمامات وإنما طبقت الفصل العنصري على الماء نفسه. وخطر لي فوق ذلك أنه لم يزل على وجه الأرض مكان يشبه -برعاية أميركية - العالم (العنصري) الذي ولد فيه أبواي". وعلى مدار الصفحات المئة التالية يظل كوتس يرجع إلى مقالة "قضية التعويضات" وإحساسه بالذنب لقوله في فقرة فيها إنه "مثلما حصلت إسرائيل على تعويضات من الألمان فلا بد للأميركيين السود أن يحصلوا على تعويضات من البلد الذي استعبدهم".
يكتب جاي كاسبيان كانغ أن كوتس يرى أن واجب الكتاب وبخاصة الكتاب السود أن ينقلوا إلى العالم ما يرونه نقلاً واضحاً وأخلاقيا، وبخاصة خلال الأوقات التي يدفعهم المجتمع فيها إلى التشكك في قناعتهم. وفي تقديري أن تانهاسي كوتس بـ"الرسالة" أدى واجبه هذا، لكن الأهم أنه أوضح عملياً لماذا نحن في حاجة إلى مزيد من "الكتاب السود" بل لماذا ينبغي علينا جميعاً اليوم أن نكون أولئك "الكتاب السود".
العنوان: The Message
تأليف: Ta-Nehisi Coates
الناشر: One World