ملخص
"بابور الكاز" يغادر "غرفة الكراكيب" ليعود ويتربع داخل المطبخ السوري.
تكاد ذاكرة البيت السوري تنسى آخر مرة ظهر فيها "بابور الكاز" الذي رقد لأعوام طويلة داخل ما يعرف بـ "غرفة الكراكيب" الموجودة داخل كل منزل سوري، فهذه القطعة النحاسية القديمة رافقت أجيالاً متلاحقة لقرن من الزمن إلى أن تسللت أفران الطهي المنزلية العصرية إلى المطابخ، فأطفأت وهجه وكتمت ضجيج صوته المرتفع ووأدت دخانه الأسود المنبعث مع روائح الكاز المحروق أثناء تشغيله.
ذكريات الدار
تنفض السيدة أم رأفت البابور القديم بعدما وضعته قبل أكثر من ثلاثة عقود من الزمن في مستودع صغير يحتضن معظم الأغراض التي لا نفع لها، وتنظر إلى البابور ولوهلة تعيدها الذاكرة للحظات الطفولة في بيت والدها في حي الميدان دمشق القديمة، لتسمعها صوت البابور إلى جانب النافورة التي تتوسط أرض الدار العربية مع روائح منبعثة من شجرة النارنج ممتزجة مع ضجيج العائلة مع كل صباح، وهي صورة لا يمكن أن تمحوها كل وسائل الرفاهية التي تعيشها اليوم.
وفي حين حصلت أم رأفت على البابور النحاسي كهدية تذكارية من والدتها فإنها ترددت قبل أعوام من التفريط فيه وبيعه، وقبل عقدين من الزمن عرض عليها كثيرون من محبي اقتناء الأغراض القديمة شراء هذه القطعة لكنها رفضت التفريط فيها.
وقالت إنه "مهما بلغ ثمنه فلن أستغني عن ذكريات جميلة حملها البابور في قلبي، فلمسات والدتي لا تزال على قبضاته الحديدية، لكني لم أكن لأتصور وبأي حال من الأحوال أن أستخدمه بعد كل هذه المدة، وبالفعل أعدته للمطبخ لأصنع عليه فنجان قهوة أو كأس شاي مع شح واضح في الغاز".
وكانت الحكومة في دمشق عمدت قبل أعوام إلى إجراء تدابير جديدة لضبط توزيع المشتقات النفطية من وقود للسيارات إلى مازوت التدفئة والغاز المنزلي عبر إيجاد ما يسمى بـ "البطاقة الذكية"، وعلى أساسها تقدم لكل عائلة أسطوانة غاز منزلي كل شهرين إلى ثلاثة أشهر، بحسب وصول التوريدات الخارجية أو الكميات المنتجة مما تبقى من آبار تتموضع وسط البلاد.
وتفاقمت معاناة السوريين مع خروج مناطق شمال شرقي سوريا والجزيرة عن سيطرة النظام، وهي مليئة بآبار نفطية وحقول غاز، بينما خصصت الحكومة 50 ليتراً من مازوت التدفئة لكل عائلة خلال فصل الشتاء بالسعر المدعوم من قبل الحكومة.
لكن هذه الكميات غير كافية لتلبي حاجات العائلة المنزلية، ولهذا يندفع السوريون إلى الشراء من خارج السلع التي لا تحظى بالدعم الحكومي إلى السوق الموازية أو ما يطلق عليها "السوق السوداء"، وهنا ترتفع الأسعار إلى عشرات الأضعاف من سعرها الحقيقي علاوة على ندرة توفرها، فسعر أسطوانة الغاز المنزلي المدعومة 20 ألف ليرة (0.5 دولار أميركي) تباع في السوق السوداء أو الحرة بثمن يتخطى الـ 600 ألف ليرة (40 دولاراً) في وقت يراوح متوسط الأجور ما بين 50 و200 دولار.
طلب متزايد
ومع عودة بابور الكاز النحاسي للأسواق بحلة جديدة، شهدت حرفة النحاس طفرة نوعية كما شهدت المحال التي تعمل على ترميم وإصلاح البابور وغيره من أدوات قديمة تهافتاً من قبل المواطنين من أجل إعادته للخدمة، كنوع من العون على إيجاد بديل لأسطوانة الغاز مرتفعة الثمن، أو شراء أحد القطع الجديدة.
ومن داخل محله القديم ينكب النحاس ومصلح بابور الكاز يحيى نحاس على إصلاح أحد البوابير لأحد الزبائن، وأفاد بأن عمله الأساس ضمن صناعة النحاس، ولكنه يعكف على إصلاح تلك البوابير التي تأتيه من السكان كخدمة لهم لندرة من يعمل في هذا المجال، فمنهم من هاجر بعد الحرب وآخرون فضلوا تغيير مهنة إصلاح البوابير بعدما قل الطلب عليها قبل الحرب، واتجهوا نحو العمل في حرف أخرى لكسب العيش.
ويروي النحاس يحيى، المكنى بحرفته التي توارثها عن آبائه وأجداده، لـ "اندبندنت عربية" طريقة تشغيل البابور التي تتطلب صبراً وتريثاً عبر دق البابور ومن ثم تنفيسه وبعدها إشعاله بالنكاشة، وهي عود حديدي لإشعال النار.
ويتابع، "زاد الطلب على اقتناء البابور الحديث الذي يصنع حالياً ويستخدم لإشعاله الكاز أو المازوت أو أية مادة قابلة للاشتعال، فلقد عاد الناس للوراء 50 عاماً، ويأتيني كل يوم ما بين أربع إلى خمسة أشخاص من أجل إصلاح البوابير القديمة التي يمتلكونها".
وعن ذكرياته مع البابور يسرد أنه "في كل بيت عربي يجب أن تعثر على اثنين أو ثلاثة منه، والبابور القديم أفضل وتقنيته أفضل".
أحلاهما مرّ
أبو أحمد الذي يمتلك بابور كاز حديث يرى أن الظروف المعيشية تضعه أمام معادلة صعبة الحل، لكن لا بد من التحايل من أجل العيش، وهو هنا يقارن بين شراء الكاز، والليتر بـ 20 ألف ليرة (1.5 دولار) أو شراء جرة غاز غير مدعومة بـ 550 ألف ليرة (39 دولاراً) من السوق السوداء، وبالتالي رجح كفة "البابور" بكل سلبياته، ويقول "أنا مجبر على اختيار بابور الكاز على رغم أنه يملأ البيت روائح وغباراً أسود، ولا ينصح باستخدامه من قبل الشخص المصاب بمرض الربو، لكن جرة الغاز المنزلي تصلني كل ثلاثة أشهر، وهي لا تكفي عائلتي المؤلفة من 10 أشخاص، لذا لابد من تدبر الأمر وقضاء الحاجة على رغم كل الصعوبات".
وإزاء ذلك يتدبر الناس وسائل الطبخ والتدفئة عبر إيجاد بدائل بشق الأنفس، فالمواد المشغلة للفران ووسائل التدفئة شحيحة وغير متوافرة، وفي حال توافرها فهي غالية ومرتفعة الثمن وليس بمقدور السوري شراؤها، وهذا ينسحب على وقود السيارات ومواد المازوت التي تشغل حافلات النقل الجماعي والعامة، وقد ذهب كثر إلى أبعد من بابور الكاز عبر اقتطاع جذوع الأشجار أو حرق القمشة والمواد البلاستيكية للطبخ أو التدفئة مع دخول فصل الشتاء القارس.
دخان الكاز الأسود
واخترع بابور الكاز الذي يطلق عليه "بريموس" في السويد، المخترع السويدي فرانس فيلهلم ليندكفيست عام 1888، وفي ما بعد عرف بابور الكاز في الدول العربية خلال الأربعينيات وبخاصة في المدن، بينما ظلت القرى تستخدم الحطب لفترة طويلة قبل أن يصل إليها.
وتحكي الروايات أنه يعد بمثابة هدية نفيسة يقدمها رب الأسرة لزوجته ليخفف عنها عبء إشعال النار بالطريقة اليدوية.
ولا يزال البابور يصنع إلى اليوم ولا سيما من قبل الشركات المنتجة لأغراض التخييم، ويقول عضو جمعية الحياة البرية والجبلية سامر بالي الذي لم يفارق "البابور" جعبته أثناء التخييم والسفر والتنقل مع أصدقاء له من الناشطين البيئيين، "أنا ضد استخدام البابور في الأماكن المغلقة وداخل البيوت أو غيرها من الأماكن صغيرة الحجم، لأنه بالفعل يسبب أمراضاً تنفسية مع الوقت، وأنا أشعر بذلك حين أكون في أرجاء الطبيعة، هو حل بديل وإسعافي، ويجب أن يكون خارج المطبخ بكل حال من الأحوال، أي على الشرفة أو في ردهات البيوت العربية المكشوفة، لأنه يبعث روائح ودخاناً أسود يجب تجنب استنشاقه".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
القديم والجديد
وبصوت أجش مع ابتسامة ترتسم على وجنتيه، يهز أبو خلدون رأسه ويحرك قبعته البيضاء قائلاً إنه "من ليس له قديم فليس له جديد"، وهو مثل شعبي يردده السوريون للتحبب بأسلوب الحياة القديمة أو الشخصيات أو الأغراض، فهذا الرجل السبعيني لطالما كان يسعى إلى اقتناء كل ما هو قديم، لكن الحرب بددت مشروعه التراثي بإيجاد متحف لكل الأغراض التراثية القديمة التي يطلق عليها "الأنتيكات".
ويردف أبو خلدون، "أحاول منذ زمن أن أقول إن التراث مهم، صحيح أننا لم نكن بحاجة إليها في وقت ما، لكننا اليوم نحتمي بأصغر قطعة كانت في المطبخ وهو البابور، وأذكر أن من كان يمتلكه في الأرياف فهو من علية القوم، في حين كان الناس يحتطبون لجلب الخشب وإشعال النار، بينما كان البابور يلبي الحاجة وبسرعة".
ولا يزال الشارع السوري يعيش صدمات متتالية، فمع توقف الحرب في مناطق واشتعالها في مناطق أخرى يظل المواطن السوري غارقاً في الأزمات المعيشية والحياتية، ومعها عاد لقديمه بغية سد ما يمكن من حاجاته اليومية على رغم دخانها الأسود.