ملخص
في الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي أطلق "حزب الله" من جنوب لبنان باكورة صواريخه في جبهة الإسناد التي أعلن بدءها دعماً لقطاع غزة، بعد ساعات من تنفيذ حركة "حماس" ما سمته عملية "طوفان الأقصى"، وما بين الثامن من أكتوبر واليوم متغيرات كثيرة بدلت من سياق هذه الحرب، التي نعلم جيداً كيف بدأت، لكن نهايتها لا تزال عصية على الجميع.
لوهلة صدق اللبنانيون قبل أيام أن وقف إطلاق النار جنوب لبنان بات قاب قوسين، وأن الأمر رهن إشارة من موفد سيد البيت الأبيض إلى المنطقة، لكن إسرائيل كان لها كلام آخر ورغبة أخرى.
في الحروب لا شيء ثابت، لا الميدان ومعاركه ولا المواقف وزواريب السياسة، وما قد يبدو ثابتاً اليوم قد يتحول في الغد القريب ورقة تفاوضية في مساعي وقف إطلاق النار بين المتحاربين.
في الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي أطلق "حزب الله" من جنوب لبنان باكورة صواريخه في جبهة الإسناد التي أعلن بدءها دعماً لقطاع غزة، بعد ساعات من تنفيذ حركة "حماس" ما سمته عملية "طوفان الأقصى". وما بين الثامن من أكتوبر واليوم متغيرات كثيرة بدلت من سياق هذه الحرب، التي نعلم جيداً كيف بدأت، لكن نهايتها لا تزال عصية على الجميع.
لنعد أشهراً قليلة للوراء.
في الأسابيع الأخيرة من العام الماضي، كانت قواعد الاشتباك كما نعرفها لا تزال قائمة إلى حد كبير والضربات بين "حزب الله" وإسرائيل متوازنة.
الحزب كان مصراً على أن لا فصل بين جبهتي غزة ولبنان، وإسرائيل كانت مصرة على وقف استهداف المستوطنات الشمالية وأن يستتب الأمن تمهيداً لعودة عشرات آلاف المستوطنين لمنازلهم، وحينها لم يكن هناك أي حديث جدي أو مساعٍ حثيثة إلى وقف إطلاق النار ولا تطبيق القرار 1701، فالوضع لم يكن بعد خرج عن السيطرة.
تطورت الأمور ميدانياً تدريجاً في بداية العام الحالي والأشهر الأولى منه، وبدأت إسرائيل توسع دائرة استهدافاتها نحو البقاع شرقاً أو صيدا جنوباً وحتى الضاحية الجنوبية لبيروت عبر عمليات محددة مثل اغتيال نائب رئيس حركة "حماس" صالح العاروري. ثم اشتدت المعارك والاستهدافات وبدأت تل أبيب تغتال بصورة متتالية قيادات الصف الثاني في الحزب، الذي بقي مصراً على موقفه: لا إنهاء لجبهة الإسناد قبل وقف الحرب في غزة.
في الـ17 من سبتمر (أيلول) الماضي، هبت رياح قوية ومغايرة، على رغم أن الطقس كان صيفياً، قلبت المواجهة بين الطرفين. يتذكر اللبنانيون جيداً هذا اليوم بأنه يوم تفجير آلاف أجهزة البيجر التي كان يحملها عناصر ومنتمون لـ"حزب الله"، ثم بعد ساعات فجرت إسرائيل أجهزة اتصال أخرى للحزب، وبعدها كرت سبحة الاغتيالات الكبرى غير المسبوقة في تاريخه، التي استهدفت القيادييين فؤاد شكر وإبراهيم عقيل، وغالبية قيادات قوة الرضوان، وبعدها أمينه العام حسن نصرالله، ثم رئيس مجلسه التنفيذي هاشم صفي الدين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلى وقع تنفيذ هذه الاغتيالات "القاسية"، أعلنت إسرائيل، التي لم تعد منهمكة بصورة كبيرة في معركة غزة، الشروع في عمليات برية في الجنوب اللبناني. في المقابل استمر "حزب الله" بإطلاق الصواريخ على مناطق قريبة وبعيدة في الداخل الإسرائيلي، بعضها كان دموياً، مثل استهداف قاعدة تدريب قرب بنيامينا جنوب مدينة حيفا، الذي أسقط قتلى بين الجنود الإسرائيليين.
متغيراتت جوهرية
في مكيال الحروب، تختلف تصنيفات الربح والخسارة، والنصر والهزيمة كلمتان مطاطيتان لا تحسبان بالطريقة نفسها عند إطلاق الرصاصة الأخيرة وانتهاء المعارك.
يقول الأمين العام الجديد لـ"حزب الله" نعيم قاسم، في آخر خطاب له بعد اختياره خلفاً لنصرالله، إنهم مستمرون في القتال وإن إسرائيل ستدفع ثمناً غير مسبوق، لكن بالتوازي يخوض رئيس مجلس النواب نبيه بري، حليف الحزب وشريكه في الثنائية الشيعية، معركة دبلوماسية للوصول إلى وقف إطلاق النار بين الطرفين، فيما يغتنم رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي كل فرصة إعلامية للتأكيد على أنهم موافقون على تطبيق قرار مجلس الأمن 1701، الذي يعني عملياً تراجع "حزب الله" إلى شمال نهر الليطاني وتسلم الجيش اللبناني أمن الجنوب بالتوازي مع وجود قوات "يونيفيل" على الشريط الحدودي.
وإلى جانب المتغير المذكور أعلاه، ورغبة الحزب في إنهاء الحرب بمسعى من حليفه الأكبر، يبقى المتغير الأهم والجوهري هو تخليه عن مبدأ ربط الساحات بين لبنان وغزة، وهو السبب الذي أطلق شرارة هذه الحرب من الأساس قبل عام ونيف.
بدورها يبدو أن إسرائيل باتت أكثر "طمعاً" في ما تريده من هذه الحرب، وما كانت تطالب به بالأمس القريب لم يعد مرضياً لها اليوم.
ترى الحكومة الإسرائيلية اليوم في ضرباتها المتتالية لـ"حزب الله" فرصتها "الذهبية" لتقويض قدراته لأبعد حد، أو حتى إنهاء وجوده ككيان مسلح في لبنان يهدد مناطقها الشمالية، وبالتالي انسحاب العناصر العسكرية إلى شمال الليطاني ووقف العمليات العسكرية، أو تحويل منطقة جنوب النهر إلى منطقة منزوعة السلاح، لم يشجع أخيراً تل أبيب على قبول صفقة وقف إطلاق النار.
ناهيك عن أن دعوات الجانب الإسرائيلي لأبناء الجنوب تركزت في الفترة الماضية على الطلب بأن يخرجوا إلى حدود نهر الأولي، وليس الليطاني. ونهر الأولي هو محاذ لمدينة صيدا ويبعد بشكل كبير عن الحدود الجنوبية، مما يؤكد نظرية أن حدود نهر الليطاني كمنطقة عازلة لم تعد كافية بالنسبة إلى الجانب الإسرائيلي.
درس حرب 2006
إسرائيل تعلمت بلا شك درساً من حرب يوليو (تموز) عام 2006 التي استمرت لأكثر من شهر، وانتهت بصدور القرار 1701 عن مجلس الأمن الدولي بموافقة الطرفين. فيما نص في أبرز بنوده على الانسحاب الإسرائيلي الكامل من جنوب لبنان، في مقابل حصر الوجود العسكري بالمنطقة الحدودية بقوات "يونيفيل" والجيش اللبناني ومنع أي وجود أو نشاط للحزب جنوب نهر الليطاني.
لكن السنوات التي تلت انتهاء الحرب، أظهرت أن الحزب استطاع "التحايل" على القرار وتوسيع قدراته العسكرية البرية والصاروخية في الجنوب، بمعزل عن وجود قوات حفظ السلام الدولية أو حتى الجيش اللبناني، ناهيك بأن إسرائيل بدورها لم تلتزم بما يفرضها عليها الاتفاق.
بالمحصلة انتقل "حزب الله" خلال أسابيع قليلة من موقع مطلق جبهة الإسناد إلى موقع المطالب بإنهائها والساعي إلى وقف إطلاق النار والقبول ضمنياً بالقرار الأممي 1701 ضمن معركة وجودية قد تحدد مصير سلاحه ومستقبله، فيما إسرائيل تحولت من قواعد اشتباك محدودة ومحددة، إلى تصعيد غير مسبوق وضعت في نهايته هدفاً جديداً، ألا وهو التخلص من سلاح الحزب عبر حرب إلغاء واضحة المعالم، نفذت خلالها أخيراً استهدافات قاسية لبنيته التحتية العسكرية والمالية وتسعى إلى قطع شراين إمداداته البرية، وقيادة الحزب تعي جيداً تبدل أهداف خصمها في الحرب الأن.
وما بين الهدفين الحرب لن تتوقف، ولبنان الرسمي والشعبي يجلس في مقعد الجمهور، متفرجاً لا فاعلاً في معركة قد تحدد مصيره الأخير.