ملخص
ثمة رسالة بخط كوكتو بالفرنسية مدونة على قطعة ورق مؤرّخةً في عام 1960 تقول: "إن مصاطب بعلبك الغامضة التي يُفتَرَض أنَّ الناس غادروا عبرها إلى النجوم أليست المكان المثالي لروح الشعراء كي تحلّق وتبتعد؟".
بعلبك مدينة الشمس التي حاكتها الأساطير وتناقلتها الأجيال عبر الأزمنة. المدينة الدهرية التي تُوِّجت ملكة مدن فينيقيا ورائعة الصحراء- كما وصفها الرحالة الفرنسي الفونس دو لامارتين. بعلبك التي خلبت عقول الرحالة والأدباء وعلماء الآثار والمستشرقين، واستقطبت إليها فنانين من حول العالم يخلدون بريشاتهم معابدها وبواباتها وآثارها، هي مدينة المثقفين والشعراء والفنانين، منها انطلقت الأحلام الأولى لريشة رفيق شرف تحاكي فصولها خريفها وثلجها وناسها وأبطال حكاياتها وفرسانها وخيولها. وهي النبع الأول الذي ارتشفت منه طلال حيدر أحلى صوره وأعذب قصائده ومن قبله خليل مطران.
بعلبك التي تزينت بالألوان وسطعت بالأضواء مع عروض فرقة عبد الحليم كلاكلا التي نقلت أجمل صورة عن لبنان على مسارح العالم. وبعلبك فيروز والأخوين رحباني وصباح ووديع الصافي ومواسم العز مع مهرجانات بعلبك الدولية، التي احتضنت الفولكلور اللبناني، ومن بين أضلعها ولد المسرح الحديث.
بعلبك المدرجة من قِبل منظمة اليونيسكو على لائحة التراث العالمي، هي اليوم في خطر لأنها ضمن دائرة الاستهداف الاسرائيلي، لاسيما بعدما تعّرض قسم من سورها الخارجي (الذي يعود للعصر الإسلامي) للتدمير بسبب القصف المباشر، كذلك تعرضت البلدات القريبة المحيطة بها للقصف ونيران الحرائق، بما يهدد سلامة بنيانها وحجارتها. ومن قبلها تعرضت للقصف مدن تاريخية منها النبطية وصور وصيدا بما تحفل به من آثار تعود إلى مختلف الحضارات. كل ذلك يؤكد على تعمّد التدمير الممنهج للمعالم الأثرية في محاولة لطمس الهوية والتراث المعماري والذاكرة والإرث الوطني.
تتخطى عظمة هياكل بعلبك ما رسخ عنها في أذهان الأجيال لاسيما بعد رُسمت بريشة بافل كوروليوف على أوراق العملة اللبنانية، حيث تنتصب أعمدة معبد جوبيتير الستة فوق صخور عملاقة. فقصّة بعلبك لا تنتهي ولا يمكن حصرها، لأنها ذاكرة حافلة بالتاريخ منذ القدم. كتب عنها الجغرافي والمنقب الأثري فيكتور غيران Guérin يقول: "تجمع بعلبك العظمة المهيبة المدهشة والمحيّرة إلى غنى التفاصيل وتعددها واكتمالها. وهنا يكمن سر سحرها وفتنتها. ثم إن فن النحت أبدع لا بل أفاض في إبداعه. إلا أن العبقرية الجريئة التي تميز بها الفن المعماري، ارتقت الى مستويات لم يستطع أحد بلوغها منذ ذلك الحين. يبدو أكروبول بعلبك بكُتَل منصّته الهائلة، كأن العمالقة بنَته وليس للبشر، ولا شيء في العالم يضاهي جلال معبدَيْه الخارق وجمال الساحة التي تتوجهما".
مدينة من عجائب الزمن القديم
مدينةٌ فينيقيّةٌ لا تطلُّ على البحر المتوسّط، كانت عبر التّاريخ محطَّ القوافل المتّجهة من الصحراء إلى مدن الساحل السّوريّ، دخلتها الشعوب بثقافاتها وآلهتها وأفكارها التي امتزجت لتخلق هويّةً فريدة. "بعلبك تحمل علامة الروح الفينيقية في الأفنية التي تؤدي إلى مسكن الإله، لذلك كانت مكاناً وجد فيه الشرق نفسه مختلطاً بشكل وثيق مع الغرب" بحسب تعبير الشاعر فؤاد غبريال نفّاع، وذهب كذلك الشاعر شارل القرم الى اعتبارها "نتاج العبقرية المحلية لروعة التصميم الداخلي الخاص بها التي لا مثيل لها في الغرب".
إنها مدينة الشمس القائمة في سهل البقاع كأضخم مجموعة أثرية من عهد الرومان وهي تحفة معمارية ليس لها مثيل على امتداد الإمبراطورية الرومانية. يعود تاريخها إلى نهاية الألف الثالث قبل الميلاد، اسمها الآراميّ مؤلّف من مقطعين "بعل" وهو إله الكنعانيين و"بك" التي تعني واديًا أو مدينة، فيكون معنى الاسم مدينة بعل. أما "هيليوبولس" فهو اسمها اليونانيّ ومعناه الحرفيّ مدينة "إله الشمس عند الإغريق" الذي حافظ عليه الرومان. كانت في المرحلة الرومانية مستعمرة، وكان سكانها يتمتعون بحقوق السكان في روما وعليهم نفس الواجبات، وقد أهدى "يوليوس قيصر" المدينة لابنته "جوليا دومنا" وسُميت وقتها "هيليوبولس جوليا دومنا كولني"، وصكّت عملة تحت هذا الاسم. في عهد قسطنطين تمتعت المدينة بسلطات دينية، وقد حول المعبد إلى كنيسة، أما في العصر الإسلامي فقد تحولت المعابد إلى قلعة ومركز عسكري واحيطت بسور.
كثرت الأساطير عن الطريقة التي بنيت بها المدينة، وهذا يرجع لضخامة الأحجار التي استخدمت في بناء هياكلها، إذ يعتقد كثيرون أن بعلبك أول مدينة شيدت في الكون، بعقولٍ وأيادٍ غير بشرية. قيل بأنها من عهد الملك سليمان الذي سمي على اسمه المعبد الكبير- كما ورد في وصف زكريا أسقف انطاكيا- حين تحدث عن الزلزال الذي ضرب المدينة عام 552 م، وقد جاراه بذلك بعض المؤرخين العرب، نظراً إلى الإعجاز المتمثل في الحجارة الثلاثة المقصوبة والمستعملة في صدر قاعدة المعبد الكبير التي تعتبر أضخم حجارة بنائية في العالم. أما النكسة الأخيرة التي أصابت الموقع الأثري الروماني في بعلبك، فقد أحدثها الزلزال الذي وقع في شهر أكتوبر (تشرين الأول) 1759، وأطاح ثلاثة أعمدة من أصل الأعمدة التسعة الباقية من معبد جوبيتر، لتصبح ستة كما نراها اليوم (كان عدد أعمدة المعبد في الأساس 54 عموداً).
في بعلبك ثلاثة معابد تعدّ من عجائب الزمن القديم، وهي معبد "جوبيتر" أو المعبد الكبير، وهو معبد ضخم يحوي بهواً سداسي الشكل بتأثيرات شرقية واضحة، لكن لم يبق من المعبد سوى ستة أعمدة كورنثية (نسبة إلى مدينة كورنث اليونانية)، شامخة تصافح السماء. أما المعبد الثاني فهو معبد "باخوس" وهو من أكثر المعابد التي بقيت آثاره إلى يومنا هذا، كما أنه أكبر حجما من "البارثينون" في أثينا، والمعبد الأخير هو معبد "فينوس المستدير"، وهي كوكب الزهرة أو آلهة الحب والجمال، ويأتي تصميمه غاية في الروعة والتفرد.
كانت زيارة الامبراطور الألماني غليوم الثاني وزوجته لهياكل بعلبك في نوفمبر 1898، إشعاراً ببدء الاكتشافات العلمية لآثار بعلبك، التي حطت رحالها منذ العام 1899 مع البعثة الألمانية في استكشاف معبد هيكل باخوس، الذي وصفه المؤرخ الألماني فريدريش راغيت بالقول: "جدرانه المتأججة احمراراً وأعمدته الضخمة، وتيجانه الكورنثية المزهرة وأفريزه الناتئ والتناقض البديع بين أبدان أعمدته المتخطط منها والبسيط والتنوع الكبير في النحت، الذي يَظهر لطيفاً عند قربه من النظر عنيفاً كما يبدو محلقاً فوق رؤوسنا. هذا كله يجعل من معبد باخوس سمفونية من الألوان والأشكال والمواد الأولية. إنها هندسة خلقت لتُدرك بالحواس لا بالفكر. فهو يمثل القمة في الهندسة الكلاسيكية حيث تتوازن أهمية الخارج مع الداخل. هذ الشرط الذي لم يتوفر لا في الجدارن الخارجية الرائعة التي شيدها بريكلس في أثينا ولا في الدواخل الشهيرة كما هو الحال في البانثيون في روما".
بعلبك عاصمة المهرجانات الدولية
شكلت مهرجانات بعلبك الدولية جزءا من ذاكرة لبنان الحديث. وإذا عدنا إلى مطبوعات مهرجانات بعلبك في الستينيات والأعداد القديمة من المجلات التي كانت تصدرها وزارة السياحة، ينتابنا الحنين للبنان بلد الفن والجمال والاصطياف والسياحة، لاسيما السياح القادمين خصيصاً لحضور مواسم مهرجانات بعلبك. بدأت فكرة المهرجانات في مدينة بعلبك مع الانتداب الفرنسي، وبعد استقلال لبنان ظهر أول مهرجان في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي على أدراج بعلبك، تلاه الموسم الثاني في عام 1956، دشّنه الشاعر جان كوكتو الذي جاء شخصياً لتقديم مسرحية "الآلة الجهنمية". ما يختصُّ به كوكتو هو كثرة الآثار التي تركها في فندق بالميرا الشهير، الذي بناهُ اليونانيّ ميمكاليس باركلي لزوّار آثار بعلبك في أواسط القرن الـ19، ورمّمه ووسّعه ميخائيل ألّوف في عشرينات القرن الماضي، وفيه نزل عبد الوهاب وأم كلثوم والرحابنة وفيروز، وكوكتو الذي ترك فيه رسائل ولوحات خلال زياراته المتكررة (من 1956 إلى 1962)، منها رسوم على جدران بعض الغرف، ورسائل تركها لمالكيه في ذلك الوقت، بعضها معلق على جدران بهو الاستقبال الواسع، إلى جانب أعمال فنيّة وتذكارات كثيرة في الفندق الذي يشعرك حين تدخله أنك دخلت متحفًا أو كتاب تاريخ تسكنه الذكريات، في كل طابق من طوابقه وصولًا إلى السطح المطلِّ على أعمدة جوبيتر وصرح باخوس وبساتين بعلبك. ثمة رسالة بخط كوكتو بالفرنسية مدونة على قطعة ورق مؤرّخةً في عام 1960 تقول: "إن مصاطب بعلبك الغامضة التي يُفتَرَض أنَّ الناس غادروا عبرها إلى النجوم أليست المكان المثالي لروح الشعراء كي تحلّق وتبتعد؟".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
عام 1957 ظهرت أول فرقة للفولكلور اللبناني على مسارح مهرجانات بعلبك مع فيروز والأخوين رحباني "في أيام الحصاد"، أحرزت نجاحاً فائقاً، تبعها مسرحيات غنائية كثيرة منها عام 1961 "البعلبكية" وفيها غنت فيروز أغنيتها الشهيرة "بعلبك أنا شمعة على دراجك وردة على سياجك أنا نقطة زيت بسراجك"، استمر هذا الإنتاج للمسرح الغنائي في بعلبك حتى العام 1973 مع "قصيدة حب" قبيل الحرب الأهلية اللبنانية. وكانت من بين محطاتها المضيئة "أيام فخر الدين" 1966 و"جبال الصوان" 1969 وناطورة المفاتيح 1972. لاقى المسرح اللبناني الحديث النجاح نفسه وكانت انطلاقته مع مسرحيتين للكاتب المسرحي والشاعر جورج شحادة، عرضتا في بعلبك وهما: "حكاية فاسكو" عام 1957، و"مهاجر بريسبان" العام 1966. وقد شجعت لجنة المهرجانات في الوقت نفسه الممثلين والمخرجين الجدد، على إنشاء المعهد اللبناني الأول للفن المسرحي الذي العام 1960، على رأسهم منير أبو دبس على تقديم العروض المسرحية طوال فترة الستينيات.
جاءت المهرجانات التالية لتشهد توالي حشد من الفنانين ذوي الشهرة العالمية من عازفين وموسيقيين، ولتشهد كذلك على مجيء مشاهير أفراد أوبرا باريس وميلانو ونيويورك، وفرق الباليه العالمية منها باليه القرن العشرين لموريس بيجار وباليه رامبير، فضلاً عن فرق الأوركسترا السمفونية حول العالم. في الذاكرة زيارة الشاعر الفرنسي لوي اراغون لحضور عرض مسرحية "مجنون إلسا" المقتبسة من ديوانه ضمن مهرجانات بعلبك الدولية العام 1974، والحفل الذي قدمته مغينة الجاز الشهيرة ايللا فيتزجيرالد، وحفلات كوكب الشرق أم كلثوم التي لا تنسى على مدارج بعلبك أعوام 1966 و1968 و1970. ومنذ ذلك الوقت أصبحت مواسم صيف بعلبك مقصدا لمحبي الموسيقى والفن بأشكاله المتعددة، ورغم صولات وجولات الحروب المتتالية ورغم التوقف القسريّ استمرت لجنة مهرجانات بعلبك بتنظيم العروض وإقامة الحفلات وزرع الفرح والتفاؤل وإحياء الذاكرة.
بعلبك في عيون المستشرقين
دخل اسم بعلبك في ذاكرة الشعر العربي، وزارها ما لا يحصى من الرحالة والمستشرقين. في الفترة الواقعة ما بين القرنين السابع عشر والتاسع عشر، ظهرت العديد من اللوحات التي رسُمت فيها هياكل بعلبك، وكانت لها شهرة واسعة في أوروبا وخاصة بين الطبقات الأرستقراطية، في ظل موجة الافتتنان بالشرق وصعود تيار الرومانسية على إثر الثورة الصناعية. فقد رسمها المستشرقون أثناء رحلاتهم إلى الأراضي المقدسة في أعمالٍ انتشرت على الطباعة الحجرية (ريتشارد سبيرز ودايتون ولويس فرانسوا كاساس وفرنسيس نيسبيت...)، أكثرهم شهرة البريطاني دايفيد روبرتس، الذي توقف طويلاً أمام هياكل بعلبك فوضع ما يقرب من 18 رسماً لمعابدها وخرائبها وأعمدتها التي درسها هندسياً وجمالياً من مختلف الزوايا، أجملها رسوم معبد باخوس.
استطاع روبرتس بقدرته المذهلة أن يصف الانطباع بالانسحاق أما عظمة الهياكل التي يصورها مع جماعات البشر الضئيلة الحجم لإبراز التناظر بينها وبين محيطها الخارق، بحيث يبدو المشهد مشغولاً بطريقة السينوغرافيا المسرحية مع المؤثرات الضوئية والظلال. قام على نشرها في كتاب "مناظر من الأراضي المقدسة" صدر في بريطانيا العام 1849، كتب في مذكراته "نحن أمة من الأقزام نزور أمة من العمالقة" ألمح فيها إلى التغيّرات التي أحدثتها رحلته إلى الشرق، في قناعاته ونمط حياته، لاسيما شغفه باللباس العربي إلى درجةٍ عجزت أمّه عن التعرف إليه.