ملخص
يضم لبنان خمسة مواقع مدرجة على لائحة التراث العالمي التابعة لمنظمة "اليونيسكو"، وهي معرضة للخطر بفعل الغارات الإسرائيلية غير المسبوقة على بعلبك وصور. فهل ستصمد كما صمدت عبر آلاف السنين؟
أربعة آلاف سنة من الحضارة يختزنها لبنان باتت مهددة بفعل الهجمات الإسرائيلية التي تعتمد استراتيجية الأرض المحروقة، وتهدد الغارات الكثيفة التي تستهدف مدن بعلبك (شرق) وصور والنبطية وصيدا (جنوب)، وقرى الشريط الحدودي بين لبنان وإسرائيل الهوية الحضارية والتاريخية للبنان، وتسود مخاوف جدية في أوساط المهتمين بالآثار والتراث من تعرض أجزاء من سور قلعة بعلبك ومحيط قلعة صور لأضرار بفعل الغارات.
أضرار كبيرة
ويحول الوضع الأمني الشديد الخطورة والغارات الإسرائيلية دون تمكن المتخصصين من الكشف عما يمكن أن يكون قد لحق مدينة الشمس بعلبك، وعروسة البحر صور من أضرار. ويقول أحد الأدلاء السياحيين إن قلعة بعلبك مغلقة، ولا يمكن الدخول إليها وإجراء كشف إلا من قبل المديرية العامة للآثار، من دون استبعاد إصابتها بأضرار نظراً إلى هول الغارات التي استهدفت المناطق المحيطة بقلعة بعلبك.
ويقول أستاذ في كلية الفنون الجميلة والعمارة الدكتور خالد تدمري إن "المشهد مبهم بالنسبة إلى القلاع الأثرية، لكن تدمير قرى الشريط الحدودي، بالكامل، على غرار ما جرى في محيبيب (جنوب)، يشي بأن المواقع والمقامات داخلها تضررت أو دمرت".
ويخشى تدمري من آثار الصواريخ التي تستهدف محيط القلاع وقلب الأسواق، و"تضرر كثير من المعالم غير المدرجة على لائحة اليونيسكو، التي تقتصر فقط على مواقع مدينة صور الرومانية، ومدينة جبيل - بيبلوس، ومدينة عنجر الأموية، وقلعة بعلبك الرومانية".
في بعلبك تضرر السور الخارجي للقلعة التاريخية، حيث أضيف إلى مجمع المعابد الرومانية من أجل مزيد من الحماية ومواجهة الغزاة، إضافة إلى الجامع الأموي الكبير وهو أقدم مساجد لبنان. أما في النبطية الفوقا (جنوب)، فقد دُمر مسجد ينتمي إلى الحقبة المملوكية، إضافة إلى السوق التجارية المنتمية للمرحلة نفسها والامتداد العثماني المتجسد في مبنى السرايا، فضلاً عن استهداف ضريح المخترع اللبناني محمد كامل الصباح. وأيضاً تدمير مسجد كفرتبنيت (جنوب) التاريخي.
ولم تسلم صور، التي تحوي كنوزاً تاريخية قيمة، من الاستهداف الإسرائيلي، وهي تعد من أغنى مدن المتوسط في تاريخها، بدءاً بالحقبة الفينيقية، مروراً بالحضارة اليونانية، وصولاً إلى الرومان، والبيزنطيين، والحكم العربي - الإسلامي، وما تبعها من حقبات.
ومن بين المواقع التاريخية التي استُهدفت في المدينة، قلعة "شمع"، وفيها مقام النبي شمعون، في بلدة شمع - قضاء صور، وأيضاً، حي شرحبيل (صيدا) الذي تعرض للقصف وفيه مقام الصحابي شرحبيل ابن حسنة.
الأضرحة في خطر
ولا تقتصر الأضرار على القلاع إنما لحقت بالأضرحة بصورة كبيرة، ويلفت تدمري إلى أن الضرر لا يقتصر على داخل القلعة وحسب إنما على محيطها أيضاً "حيث تمتلئ المدينة بالمواقع العائدة إلى العصرين المملوكي والأيوبي، على غرار المدارس والأضرحة ومقابر الصحابة الكرام، ومن ضمنهم مقام مالك بن الأشتر الواقع في أرض زراعية خلف القلعة. كما استهدفت الغارات بلدة كرك نوح التي تضم آثاراً رومانية، ومسجداً مملوكياً نادراً، وفي داخله مقام منسوب إلى النبي نوح والبالغ طوله أكثر من 15 متراً، كما يحيط الخطر مقام النبي شيت في البلدة المنسوبة إليه. ناهيك بالمقامات الموزعة في مدينة الصرفند الساحلية، إذ يوجد مقام النبي يونس وخان ومسجد تابع له، وضريح الصحابي أبي ذر الغفاري"، ويتابع أن الأضرار على المدن الساحلية، إذ تعرضت بعض المعالم المسيحية القديمة في قرى الجنوب للخطر، على غرار ما تعرضت له كنيسة رميش التي تعود إلى نهاية القرن الـ19، من أضرار، بسبب القصف الإسرائيلي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
القنابل الخطرة
ويستخدم الجيش الإسرائيلي قنابل ارتجاجية وخارقة للتحصينات، لا يقتصر ضررها على المواقع المستهدفة وإنما يتجاوزها إلى البيئة المحيطة.
وتنبه الأستاذة في "الجامعة اللبنانية" المتخصصة في الآثار خولا الخوري من استخدام قنابل محرمة دولياً "تؤدي الانفجارات إلى خلخلة أصول المباني التراثية، وحتى لو لم تسقط فهي تصبح أضعف"، مشيرة إلى أن "قبة دورس (البقاع) لم تستهدف مباشرة، وإنما سقطت بعض الحجارة والأجزاء منها بفعل قصف مناطق قريبة".
من هنا، تأتي المطالبة بالكشف على المواقع الأثرية التي يستهدف محيطها، وتقترح الخوري إنشاء فرق محلية متخصصة جاهزة للحالات الطارئة، وتقع على عاتقها "الإسعافات الأولية للمواقع" وأعمال الكشف والتوثيق، والتدعيم الموقت بالتعاون مع الجيش اللبناني والقوى الأمنية وإشراف المديرية العامة للآثار، وبالتعاون مع "اليونيسكو" المسؤولة عن حفظ التراث العالمي. كما تسلط الضوء إثر سياسة التدمير الشامل للقرى، كما حصل في بلدة محيبيب، إضافة إلى غيرها من القرى وإحالتها إلى رماد، ومن ثم تجريفها، وهنا تبرز استحالة الترميم بسبب فداحة الخسائر.
كما تتطرق الخوري إلى ضرورة المطالبة بتطبيق "إجراءات الحماية المعززة" نظراً إلى أهمية المواقع الأثرية، وتعهد الأطراف بعدم استخدامها أو التعرض لتلك المواقع أو محيطها، مشددة على أن "الحماية التي تبدأ بنشر الوعي على أهمية حفظها هي أهم بكثير من عمليات الترميم المكلفة وغير المأمونة، من دون أن ننسى أن كثيراً من المواقع الأثرية في لبنان راحت ضحية قلة الوعي وسوء التنظيم كما حدث مع الآثار المنتشرة على حافتي أوتوستراد صيدا وبيروت، التي أزيلت إبان عملية التوسيع".
استهداف الهوية الجماعية
ينظر إلى استهداف المواقع الأثرية خلال الحروب بوصفه فعلاً في غاية الخطورة. ويرى المدير العام السابق للآثار أسعد سيف أنه "يستهدف قتل الآخر جسدياً، والقضاء على تراثه، ومحوه من الوجود، لأنه مع تقدم الأجيال تلعب المواقع الأثرية دور الشاهد على تاريخ وذاكرة الجماعة". وفيما يتصل بالقدرة على ترميمها لاحقاً يلفت سيف إلى أن "ما يجري من استهداف هو أمر في غاية الخطورة ويعد خرقاً للاتفاقات الدولية، كما أن إعادة الترميم ليست مضمونة، فهي عملية شائكة وخاضعة لنقاشات في العمق". ويعتقد سيف أن قلعتي بعلبك وصور هما من المواقع المدرجة على لائحة التراث العالمي، لذا فإن "حمايتهما ليست من مسؤولية الدولة اللبنانية فحسب، وإنما هي مسؤولية عالمية، وهنا يبرز دور المجتمع الدولي العلمي والتراثي في التحرك من أجل حمايتهما".
تحرك طارئ
وبدأت الحكومة اللبنانية تحركاً طارئاً مع "اليونيسكو" من أجل الحفاظ على الآثار المهددة بالقصف.
ولفت وزير الثقافة محمد وسام مرتضى في حوار صحافي إلى أن هناك جهداً بدأ مع "اليونيسكو" في باريس من أجل حماية المواقع الأثرية في لبنان، مضيفاً أن السفير لدى المنظمة مصطفى أديب يكرر الشكاوى والدعاوى من أجل حفظ المواقع المدرجة على التراث العالمي، "لأنه موروث ثقافي إنساني، ولا بد من تحرك دولي لحمايته والقيام بواجباتهم".
كذلك برزت الدعوات لوزير الثقافة من أجل إعادة "الدرع الأزرق" blue Shield إلى قلعة بعلبك، بعد أن طلب مرتضى إزالته في وقت سابق بحجة "أن الدرع لا تحمي شيئاً، وما يحمي لبنان وشعبه والأملاك الخاصة والعامة فيه هو جيشنا الباسل والمقاومة المقتدرة".
وفي سياق متصل، جزم خبير القانون الدولي المحامي فاروق المغربي بتمتع المواقع المصنفة أثرية ومجالها الحيوي بالحماية خلال النزاعات المسلحة، مشيراً إلى ضرورة توسيع نطاق التصنيف من أجل حماية مزيد من المواقع، والتزام إجراءات وضع "الدرع الأزرق" لعدم تعرضها للقصف.
من جهتها، تطرقت الناشطة في حماية التراث جوان فرشخ بجالي إلى دور الجمعيات الأهلية في مساندة جهود الدولة من أجل حماية التراث والآثار من خلال الإجراءات الاحترازية، والتوثيق المنهجي لما تتعرض له المواقع التاريخية، وصولاً إلى إمكانية تقديم شكوى جنائية في لاهاي ضد التدمير الممنهج للهوية و"محو الذاكرة"، وهو ما يعد جنحة وفق توصيف القانون الدولي. ولفتت إلى دور آخر تلعبه الجمعيات من خلال الترميم والتجميل بغية حماية التراث، منوهة بـ"تجاوز التهديد لمواقع تراثية وأثرية إلى تدمير النسيج الاجتماعي أي الإطار الأوسع الذي يعد التراث جزءاً منه"، إذ تتبع إسرائيل سياسة التدمير الشامل التي لا تعفي المواقع الأثرية المنتمية إلى مختلف الحقب التاريخية والحضارية والدينية.
وشددت الناشطة بجالي على أن "حملات المناصرة الدولية تنتظر مبادرة الحكومة اللبنانية للمطالبة بجهد جماعي أوسع، وعدم اقتصارها على الطلب من اليونيسكو التحرك".