ملخص
بعد تولي ترمب فترته الرئاسية الأولى عام 2017، كشف مستشار الأمن القومي جون بولتون عن مبادرة "ازدهار أفريقيا" عام 2018، وكانت تهدف إلى التنافس مع النفوذ الصيني والروسي المتزايد في المنطقة. ووعدت الخطة بمضاعفة التجارة والاستثمار المتعثرين بين الولايات المتحدة وأفريقيا والتنافس مع استثمارات مبادرة "الحزام والطريق" الصينية.
بعد أن علق البيت الأبيض رحلة الرئيس الأميركي جو بايدن إلى أنغولا التي كان مقرراً لها في الـ13 من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، أصبحت السياسة الخارجية الأميركية تجاه أفريقيا تحت عواصف من التنبؤات، فبين من يعتقد أن الولايات المتحدة لم تعر القارة السمراء الانتباه اللازم طوال السنوات الماضية، ومن يرى أن الفترة المقبلة سيكون فيها الاهتمام من نصيب أفريقيا.
منذ تولي بايدن منصبه عام 2021، شهدت أفريقيا عديداً من الاضطرابات السياسية نتيجة موجة من الانقلابات العسكرية خصوصاً في منطقة الساحل وغرب أفريقيا، وتمدد الحركات الإرهابية وانتشار التطرف. كما نشطت المنافسة المتصاعدة في أفريقيا بين الصين وروسيا مزاحمة الوجود الأميركي، بينما خفضت واشنطن مشاركتها واهتمامها بالقارة، وعلاقاتها الاستراتيجية، وقلصت مواردها التي بذلتها من أجل تعزيز الديمقراطية وحل النزاعات.
حاولت الولايات المتحدة ملء الفراغ الذي تركته، فوضعت خطتها المبنية على التنمية والدبلوماسية لتنشيط الديمقراطية، لكن إصرار القادة العسكريين في دول الساحل على عدم الاستجابة للعودة ببلدانهم إلى المسار الديمقراطي، وزيادة عنف الحركات المتمردة والإرهابيين، كشف عن ضعف سياسة واشنطن الخارجية.
كان الأفارقة يعلقون آمالهم على أن تتبع واشنطن تأكيد عزمها باستراتيجية متماسكة ومنسقة للدفاع عن الديمقراطية، من دون وضع شروط مثل المصالح الأمنية والنفوذ الجيوسياسي، مما يصعب تحققها في الظروف الأخيرة. بقليل من الإجراءات كان يمكن للولايات المتحدة أن تحافظ على ما بذلته خلال سنوات من العمل في مكافحة الإرهاب في القارة، وعلى وضعها الذي أوشك أن يزاح نهائياً بفعل التنافس الدولي.
تجنب الالتزامات
استناداً إلى التجارب المستخلصة من علاقات الولايات المتحدة مع أفريقيا خلال الحرب الباردة، فإن أفريقيا لم تمثل أهمية استراتيجية إلا ضمن أقاليم أخرى، إذ لم تنشئ لها وزارة الخارجية الأميركية مكتباً إقليمياً منفصلاً، ومع ذلك لم يفارق الحديث عن أهمية أفريقيا الإعلام الأميركي. فبتجنبها الالتزامات الكبرى في القارة، استطاعت واشنطن الحفاظ على التزامات اقتصادية ضئيلة تتعلق بالمساعدات التي سرعان ما تتحول إلى عقوبات، أو مساعدات عسكرية تتعلق بمكافحة الإرهاب للحفاظ على مصالحها في المنطقة.
في أوج الصراع مع الاتحاد السوفياتي على النفوذ ومحاولتها احتواء التمدد الشيوعي، وإفراز فترة ما بعد الاستقلال زعامات قومية اشتراكية معادية للغرب، حاولت الولايات المتحدة الحصول على مكانة خاصة لدى هذه الدول. وحصرت اهتمامها في شمال أفريقيا خصوصاً مصر التي بذلت لها دعماً متواصلاً، لمكانتها في الشرق الأوسط وقربها من إسرائيل، حتى توصلت معها إلى توقيع اتفاقية "كامب ديفيد" عام 1979. ونقيض ذلك، لم تحصل أفريقيا جنوب الصحراء على الأهمية اللازمة على رغم ولاء بعض دولها لواشنطن، وذلك لأن المصالح الأمنية الأميركية في أفريقيا جنوب الصحراء كانت محدودة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
عند اندلاع حرب أوغادين في الفترة من 1977-1978 بين إثيوبيا والصومال، دعم الاتحاد السوفياتي نظام الدرغ بقيادة منغستو هايلي ماريام بعد انقلابه على الإمبراطور هيلاسيلاسي وإعلان إثيوبيا دولة اشتراكية ولاؤها للاتحاد السوفياتي، بالدبابات والأسلحة، ونقل وحدات مدربة من القوات الكوبية قدرت بنحو 9 آلاف جندي من أنغولا إلى خطوط القتال، في المقابل دعمت الولايات المتحدة الصومال. وفي عام 1990 لعبت الدبلوماسية الأميركية دوراً آخر إذ دعمت جنوب أفريقيا لإنهاء نظام الفصل العنصري، أما في منتصف التسعينيات فلم يكن لها أي دور في إنهاء الحرب الأهلية في رواندا.
لكن بعد الهجمات "الإرهابية" في السابع من أغسطس (آب) 1998، على سفارتي الولايات المتحدة في كينيا وتنزانيا، بدأت تتبلور خطتها لمكافحة الإرهاب، ثم زاد من تصميمها وقوع الهجمات الإرهابية في الـ11 من سبتمبر (أيلول) 2001 بأن تحولت أفريقيا إلى مسرح للصراع العالمي. وفي عام 2002 حصلت الولايات المتحدة على أول قاعدة عسكرية دائمة لها في أفريقيا مقرها بجيبوتي، وفي عام 2007 أنشأت الولايات المتحدة القيادة الأفريقية، وهي أول قيادة قتالية جغرافية منذ إنشاء القيادة المركزية في الثمانينيات.
تفعيل الاستراتيجية
في أغسطس 2022، نشرت إدارة بايدن "استراتيجية الولايات المتحدة تجاه أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى"، بغرض إعادة صياغة القارة لتتوافق مع مصالح الأمن القومي الأميركي، متزامنة مع اكتساب أفريقيا أهمية متزايدة باستقطاب الصين وروسيا لدولها لتحدي "النظام الدولي القائم على القواعد".
وإزاء محاولات القوتين ضم بعض الدول الأفريقية ذات الاقتصادات القوية إلى تكتلات تنتمي إلى الجنوب العالمي، ركزت الاستراتيجية الأميركية على المصالح الاقتصادية المتنامية بالاعتماد على الموارد الطبيعية التي تزخر بها القارة، إذ كان من المقرر أن تؤهل منطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية، لتجعل منها واحدة من كبرى مناطق التجارة الحرة في العالم، لتكون أفريقيا خامس أكبر اقتصاد في العالم. وتضمنت الاستراتيجية أهدافاً عدة، هي تعزيز الانفتاح وتقديم عوائد ديمقراطية وأمنية وتعزيز الفرص الاقتصادية ودعم الحفاظ على البيئة والتكيف مع المناخ والتحول في مجال الطاقة.
كانت الولايات المتحدة تتمتع بعدد من الفرص لتحقيق أهداف حاسمة في الجهود المبذولة للدفاع عن الديمقراطية ومواجهة الحكومات العسكرية خصوصاً في غرب أفريقيا. دافعت عن هذه الأهداف نظرياً، ففي الخطاب الذي ألقاه بايدن في الجمعية العامة للأمم المتحدة، في سبتمبر 2023، تحدث عن الحاجة إلى الدفاع عن الديمقراطية في جميع أنحاء العالم، وبخاصة في غرب أفريقيا، وأن الولايات المتحدة تقف مع الاتحاد الأفريقي والمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس) وغيرها من الهيئات الإقليمية لدعم الحكم الدستوري.
لكن عملياً، أثبتت تجربة الحكم العسكري في السنوات الأخيرة أن التزام إدارة بايدن المعلن القيم الديمقراطية في أفريقيا يتعارض مع أهداف سياستها الخارجية القائمة على المصالح، بما في ذلك وسائل مكافحة الإرهاب. ففي الشهر نفسه الذي وقف فيه بايدن في الأمم المتحدة عقدت واشنطن صفقة مع المجلس العسكري في النيجر بقيادة الجنرال عبدالرحمن تياني، الذي نفذ انقلاباً على الرئيس المنتخب محمد بازوم في يوليو (تموز) 2023، لاستئناف العمليات من القاعدة الجوية 201، وهي قاعدة للطائرات من دون طيار قرب أغاديز وسط النيجر، وأنشئت بكلفة 100 مليون دولار، وقدمت معلومات استخباراتية مهمة حول الجماعات الإرهابية قبل الانقلاب. ولم تعترف واشنطن بوقوع انقلاب في النيجر حتى أكتوبر من العام نفسه. وانسحبت القوات الأميركية من القاعدة الجوية في سبتمبر الماضي إثر مخاوف من تقارب نيامي مع موسكو وتوقع وصول قوات روسية، إضافة إلى ما تردد عن سعي إيران إلى الحصول على اليورانيوم من النيجر.
دبلوماسية القمم
عندما تقرر الولايات المتحدة تحسين علاقاتها بأفريقيا، فإن الأمر لا يتعلق بدبلوماسية القمم فحسب، إذ استضاف الرئيس باراك أوباما القمة الأولى في عام 2014، وعقد الرئيس جو بايدن القمة الثانية في عام 2022، وزارت نائبة الرئيس كامالا هاريس غانا وتنزانيا وزامبيا في مارس (آذار) 2023 لمناقشة القضايا الأمنية والاقتصادية مع قادة تلك البلدان. وخلال ولايتي أوباما وبايدن لم يكفا عن التذكير بماضي العبودية و"جلب الأفارقة مقيدين بالسلاسل إلى الشواطئ الأميركية"، ومع ذلك لم يسفر اجترار ماضي القارة عن تقدم يذكر، ولا يبدو أنه أعجب القادة الأفارقة الذين كانوا ينتظرون علاقات أعمق تصل إلى الشراكة أو تقديم المساعدات.
بعد تولي ترمب فترته الرئاسية الأولى عام 2017، كشف مستشار الأمن القومي جون بولتون عن مبادرة "ازدهار أفريقيا" عام 2018، وكانت تهدف إلى التنافس مع النفوذ الصيني والروسي المتزايد في المنطقة. ووعدت الخطة بمضاعفة التجارة والاستثمار المتعثرين بين الولايات المتحدة وأفريقيا والتنافس مع استثمارات مبادرة "الحزام والطريق" الصينية.
وفي عام 2019 أنشئ التعاون الدولي لتمويل التنمية لدفع الاستثمار الخاص في العالم النامي، بخاصة أفريقيا، لكن ما لبثت سياسة ترمب الخارجية أن شهدت ركوداً وشملت العلاقات مع أفريقيا، وقبل نهاية ولايته قلص الدعم المادي والعسكري لا سيما الجهود لمحاربة الجماعات المتشددة، وفي ديسمبر (كانون الأول) 2020 أمر القوات الأميركية بالانسحاب من الصومال.
ونسبة لاعتبارات كثيرة تحيط بالاقتصاد الأميركي والتزامات واشنطن تجاه حلفائها، يتوقع أن يحاول ترمب في ولايته الثانية أن يولي مصالح واشنطن مع القارة السمراء أهمية في جانبها الاقتصادي بالتركيز على الموارد ومحاولة الحد من نفوذ الصين، بطرح برامج وشراكات للتنمية البديلة بالاستفادة من قطاعات الطاقة والتعدين. أما عسكرياً فيتوقع ألا يتضارب أي وجود عسكري أميركي قادم عاجلاً أم آجلاً، مع الوجود الروسي المتمثل في شركات الأمن الروسية إلا في إطار منافستها لا سيما مع سيطرتها على مناطق الإنتاج، وستنحصر المساعدات والتعاون في البرامج التي تتوافق مع شعاره الانتخابي "أميركا أولاً".
وفي حين لم يستطع بايدن إعطاء الأولوية لمزيد من العلاقات الدبلوماسية والتنمية مع أفريقيا، فإن الرئيس ترمب ربما لن ينجح في منع عسكرة السياسة الأميركية في أفريقيا لما يعتمل داخلها من أحداث، أو نتيجة لتأثرها بالصراع من حولها، لكن ما هو أكثر ترجيحاً أن ترمب من خلال استعادته الزعامة العالمية للولايات المتحدة سيؤثر بطريقة ما في المنافسة بين القوى العظمى على أفريقيا.
تحديات العلاقة
يعد الافتقار إلى الديمقراطية في أفريقيا وعدم الاستعداد الدائم لها من أكبر تحديات العلاقة بين أميركا ودول القارة، ومع ذلك يمكن لعلاقاتهما أن تنافس نظيرتها مع أوروبا، لأن دول القارة العجوز باتت تعاني عدم الاستقرار السياسي الذي طغى عليه صعود القومية والشعبوية المناهضة للمهاجرين، كما أن الدول الأفريقية نفسها ظلت تطعن في السياسات الأوروبية المركزية في ما يتعلق بقضايا مثل سياسات الهجرة الأوروبية ومعايير النوع الاجتماعي وقضايا المناخ والماضي الاستعماري.
في الاتجاه الآخر ستكون هناك منافسة مع الصين، فالعلاقات الدبلوماسية والاقتصادية للدول الأفريقية، وبخاصة مع الصين، تتطور بسرعة الآن. كما أن مشاركة بكين في أفريقيا زادت بصورة كبيرة على مدى العقد الماضي في إطار مبادرة "الحزام والطريق"، ويمتلك الصينيون نحو 23 ميناءً في أفريقيا، ومعظمها يستضيف السفن البحرية. وإضافة إلى تعزيز بكين نفوذها على سلاسل التعدين والمعالجة وتوريد المعادن، تستثمر أيضاً في خدمات الإنترنت، كما يبلغ حجم التجارة الأميركية الحالية مع الدول الأفريقية خمس حجم التجارة فقط بين الصين وأفريقيا.
لو كان لدى بكين طموح سياسي في أفريقيا، لقاد إليه تأثيرها الاقتصادي، لكن تركيزها على الاقتصاد فقط سيمكن واشنطن بمجهودات موازية أن تحصل على وضع يسمح لها بممارسة النفوذ السياسي على الدول الأفريقية، وتطوير وجود عسكري في القارة، وتعزيز أهدافها الدبلوماسية على الساحة العالمية خصوصاً مع تخفيض القروض الصينية للدول الأفريقية نتيجة لبطء النمو الصيني.