ملخص
ينسب الأكاديمي السوري الألباني الأصل محمد الأرناؤوط في كتابه "إسماعيل كاداريه - مجاورة الديكتاتورية والعالمية" إلى كاداريه، في مقدمة الكتاب، تضليل القارئ وتقديم صورة لألبانيا غير مطابقة للواقع لأسباب سياسية، إضافة إلى انتهازيته، وتلفيق التهم لمنافسيه من الكتاب، والتبرؤ من أخته المثقفة المعارضة ونسبة الجنون إليها، إضافة إلى الندامة على قصيدة كتبها واشتم منها تعريضه بالنظام، وزيارته إسرائيل مرات عدة.
يعزى إلى الكاتب الألباني إسماعيل كاداريه الذي غادرنا العام الحالي عن 88 سنة فضل نقل الأدب الألباني إلى رحاب العالمية خلال الربع الأخير من القرن الـ20 عبر رواياته التي ترجم بعضها إلى أكثر من 45 لغة.
وشكلت روايته الأولى "جنرال الجيش الميت"، المترجمة إلى الفرنسية عام 1970 نافذته الأولى على العالمية لتعقبها نوافذ أخرى طوال نصف قرن من النتاج الروائي أصدر خلاله عشرات الروايات والكتب، مما جعله المرشح الدائم طوال 40 عاماً للحصول على جائزة نوبل للآداب. غير أن رحيله العام الحالي يشكل سبباً قاهراً حائلاً دون الحصول عليها، ناهيك بأسباب أخرى مختلفة.
شخصية مركبة
من هذه الشرفة نطل على كتاب الأكاديمي السوري الألباني الأصل محمد الأرناؤوط، الصادر عن دار مرفأ للثقافة والنشر في بيروت، بعنوان "إسماعيل كاداريه - مجاورة الديكتاتورية والعالمية". وهو الثاني لصاحبه، في هذه الموضوع، بعد كتابه الصادر في عام 2005، بعنوان "إسماعيل كاداريه بين الأدب والسياسة".
وإذا كان الأول يشتمل على مقالات ومتابعات نقدية لروايات كاداريه المترجمة إلى العربية والصادرة عن دار الآداب اللبنانية، فإن الأخير، موضوع هذه القراءة، يجاور بين الترجمة والنقد والبيبلوغرافيا، ويتناول شخصية كاداريه المركبة في أربعة من أبعادها، الروائي والسياسي والطامح إلى نوبل والمترجم إلى العربية. على أن مادة الكتاب تراوح ما بين المقال الصحافي والدراسة الأكاديمية والورقة البحثية، وتتمحور حول الشخصية المدروسة بأبعادها الأربعة.
كفة السلبيات
يتناول الأرناؤوط في كتابه شخصية كاداريه بإيجابياتها وسلبياتها، سواء في المقدمة أو الفصول، والمفارق أن كفة السلبيات ترجح على كفة الإيجابيات في المقدمة، بينما تتوازن الكفتان في الفصول، مع ترجيح الأخيرة على الأولى.
من هنا، ينسب المؤلف إلى كاداريه، في مقدمة الكتاب، تضليل القارئ وتقديم صورة لألبانيا غير مطابقة للواقع لأسباب سياسية إضافة إلى انتهازيته، وتلفيق التهم لمنافسيه من الكتاب، والتبرؤ من أخته المثقفة المعارضة ونسبة الجنون إليها، إضافة إلى الندامة على قصيدة كتبها واشتم منها تعريضه بالنظام، وزيارته إسرائيل مرات عدة وعدم زيارة أي دولة عربية، واتخاذه موقفاً سلبياً من الحضارة العربية الإسلامية، وصمته المريب عن القمع الذي حدث لابنة مدينته محسنة كوكالاري من اعتقال ونفي وإهمال حتى الموت، وهي التي يهدي الأرناؤوط كتابه إلى روحها، باعتبارها ضحية الغولاغ الألباني، في تعريض واضح بصمت كاداريه عما حصل لها، على يد النظام الذي كان جزءاً منه.
بهذه الوقائع وغيرها يرسم الأرناؤوط صورة قاتمة لكاداريه تتعلق بسلوكياته ومواقفه السياسية، لكنها على قتامتها، لا تحول دون الاعتراف بمكانته الأدبية العالمية، وهو ما يفعله في فصول الكتاب التي يوازن فيها بين السلبيات والإيجابيات، مع ميل لترجيح الثانية على الأولى.
الرواية التكسبية
في معرض الكلام على البعد الروائي في شخصية كاداريه، يرصد الأرناؤوط مسيرته الروائية التي بدأت في الستينيات من القرن الماضي برواية "جنرال الجيش الميت" التي صدرت في عام 1963، وترجمت إلى الفرنسية في عام 1970، وشكلت نافذته الأولى على العالمية. ويقوم بتأريخ صدور رواياته الأخرى باللغة الألبانية وتأريخ ترجمتها إلى مختلف اللغات الأجنبية، في نوع من بيبلوغرافيا روائية تواكب المسيرة في محطاتها المختلفة.
والملاحظ أن المؤلف يربط بين القيمة الفنية للرواية المترجمة وعدد اللغات التي ترجمت إليها، وهو معيار لا يستقيم في الدرس النقدي، لا سيما أنه يذكر أن عملية الترجمة كثيراً ما كانت تتم بطلب من السفارات الألبانية حول العالم، ضارباً المثل على ذلك بطلب السفارة لدى القاهرة من بعض الأدباء ترجمة أعمال كاداريه.
ومن الواضح أن الترجمة، هنا، تتم لأسباب سياسية تتعلق بالترويج لنظام أنور خوجة الذي كان كاداريه جزءاً منه وتلميع صورته حول العالم، مما يدخل في باب تسييس الرواية وأدلجتها. وهو ما يظهر بوضوح في رواية "الشتاء القاسي" التي كتبها في تمجيد خوجة واستدرار رضاه. وبذلك يكون كاداريه قد أدخل الرواية التكسبية إلى الأدب الألماني، وهو ما لا نجد مثيلاً له في الآداب الأخرى. على أنه، لا بد من الإشارة، في هذا السياق، إلى أن الروايات المترجمة التي شكلت جسر عبوره إلى العالمية هي تلك التي تستلهم التاريخ وتخلو من الأيديولوجيا والتي ترجمت لروائيتها، وليست تلك المشحونة بالأيديولوجيا، والتي ترجمت لأسباب سياسية تتعلق بالترويج للنظام الحاكم.
الأدب الشعبي
ثمة فئة أخرى من الروايات أسهمت في عبور كاداريه إلى العالمية هي تلك المستلهمة من الأدب الشعبي الألباني بشعره ونثره. في هذا السياق، يشير الدارس إلى أن كاداريه يستلهم في رواية "من أعاد دوزنتين؟" قصيدة قصصية شعبية تدور حول أخ يعود من القبر ليفي بعهد قطعه لأخته قبل وفاته، ما يعلي قيمة الوفاء بالعهد في سلم القيم الألباني. وأنه يستلهم في رواية "جسر بثلاث قناطر" أسطورة ألبانية تتناول "التجدير"، وهو دفن أحد الأفراد الأحياء في جدار عام ليصمد بناؤه، على الزمن، مما يعلي قيمة التضحية بالفرد في سبيل الجماعة.
على أن الأرناؤوط يقتفي آلية تعاطي كاداريه مع المادة المستلهمة، فهو قد يحذف بعض العناصر الميثيولوجية، ويضيف أخرى واقعية، في محاولة منه للإيهام بواقعية المروي. وقد يقوم بتحديث الأسطورة بإضافة عناصر جديدة إليها، أو بتسييسها من خلال الإسقاط على الواقع القائم، بما يجعل الرواية المستلهمة تعبر عن موقف النظام الرسمي من قضية معينة. وهنا، تصبح الرواية وسيلة سياسية وليست غاية أدبية بحد ذاتها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
غير أن كاداريه يبلغ ذروة التسييس في رواية "الشتاء القاسي" التي كتبها في تمجيد زعيم النظام واستدرار رضاه، إلى حد أنه رضخ لإرادته في تهميش شخصية منافس سياسي كي يرضى عن الرواية. ولا تخرج عن هذا السياق رواية "الظل" التي كتبها، في أواخر عهد خوجة، تعبيراً عن تحوله الجذري من الالتصاق بالنظام الحاكم إلى الانشقاق عنه، وتمهيداً للقفز من سفينة النظام الموشكة على الغرق، وقام بتهريبها لتصدر في باريس بالفرنسية عام 1994، مما يتكشف عن سلوك انتهازي واضح. وعليه، تتعدد مصادر الاستلهام في روايات كاداريه، وتراوح ما بين الثنائيات الآتية: الواقعي والغرائبي، التاريخي والأسطوري، السياسي والاجتماعي، وغيرها.
علاقة ملتبسة
البعد الثاني الذي يحظى باهتمام الدارس في الشخصية المدروسة هو البعد السياسي الذي تطفو فيه سلبيات على سطح الأحداث، على المستويين الداخلي والخارجي، فعلى المستوى الأول، ثمة علاقة ملتبسة بين كاداريه وأنور خوجة، يستنتجها الأرناؤوط من مراجعته كتاب "إسماعيل كاداريه: الكاتب والديكتاتورية" لبيتر مورغن، الذي يشبهها بالعلاقة بين لاعبي شطرنج يتربص كل منها بشريكه، وتعكس العلاقة بين الأدب والسياسة في الأنظمة الشمولية، ويصفها بـ"لعبة القط والفأر".
من هنا، لجوء كاداريه إلى الكتابة المزدوجة حمالة الأوجه في بعض رواياته، لكن هذين التشبيه والوصف لا يحجبان ما يمكن استنتاجه من كتاب الأرناؤوط من أن التصاق الروائي بزعيم النظام، ابن بلدته، قد عاد عليه بفوائد كثيرة وربما ساعده في العبور إلى العالمية، حتى إذا ما أوشكت سفينة النظام على الغرق قفز منها وأعلن انشقاقه عن النظام.
ارتداد جماعي
وعلى المستوى الخارجي، يتخذ كاداريه المتحدر من أسرة مسلمة موقفاً سلبياً من الإسلام، ويعده حادثاً عابراً في الثقافة الألبانية، داعياً إلى نوع من "الارتداد الجماعي" عنه، والعودة إلى الثقافة المسيحية ببعدها الكاثوليكي.
ولعله يتخذ هذا الموقف لاعتبارات قومية تتعلق بموقع ألبانيا الجغرافي وضرورة انتظامها في المجتمع الأوروبي وديناميات التقدم الغربي. وفي السياق نفسه، يصدر كاداريه عن منظور استشراقي في النظرة إلى الشرق، ويعلن عداءه له باسم المركزية الأوروبية، لكنه يستثني من هذا المنظور إسرائيل التي يخصها بعدة زيارات، ويتسلم جائزة أورشليم منها في 8 فبراير 2015. ولعله بذلك يقدم أوراق اعتماده إلى جائزة نوبل التي بقي مرشحاً لها 40 عاماً، ورحل وفي نفسه غصة عدم الفوز بها. ويعزو الأرناؤوط ذلك إلى كونه جزءاً من النظام الشمولي الذي صمت عن ارتكاباته بحق الكتاب، وأسهم في تشويه سمعة بعضهم وتلفيق الاتهامات لهم. لذلك، فإن محاولة كامل لامه كبير المحققين في عهد خوجة، تنظيف تاريخ كاداريه في كتاب أصدره عنه، تفشل في تقريبه من الجائزة، لا سيما أن المحقق كان يرمي إلى تبييض صفحته أيضاً، في الوقت نفسه. وهو ما يشكل البعد الثالث في الشخصية المدروسة.
أما البعد الرابع والأخير فيها الذي يوليه الدارس بعض الاهتمام، فيتعلق بكاداريه المترجم إلى العربية. وفي هذا السياق، يتناول أعطاب الترجمة، إلى حد أن رواية "القلعة" جرت ترجمتها عن ثلاث لغات هي الألبانية والفرنسية والإنجليزية، وصدرت في ثلاثة عناوين مختلفة، على سبيل المثال. ولا يفوت المؤلف أن يدلي بدلوه، فيترجم بنفسه قصيدتي "حصان طروادة" و"بم تفكر هذه الجبال؟" ويذيل كتابه بهما.
وعود على بدء، إن نشأة كاداريه في كنف الديكتاتورية لم تحل دون عبوره بالأدب الألباني إلى العالمية، غير أن هذه الأخيرة لم تغفر له تلك النشأة، واستطراداً، لم تحول حلمه التاريخي من مرحلة الوجود بالقوة إلى مرحلة الوجود بالفعل، على حد تعبير المصطلح الفلسفي.