ملخص
الحكاية التي يرويها كتاب "باراكون، حكاية الشحنة السوداء الأخيرة"، وهو ليس في الحقيقة سوى إعادة طباعة لكتاب كان قد صدر في الولايات المتحدة للمرة الأولى في أواسط العشرينيات من القرن الماضي، تروي سيرة "بطل"، لكن الكتاب يحمل توقيع باحثة عالمة – زورا نيل هرستون – هي التي تولت جمع مادته وتحريرها
لن يكون من المنطقي إزاء التاريخ الراهن للولايات المتحدة، وهو تاريخ هيمنت عليه داخل المجتمع الأميركي على الأقل، فكرة أساسية تتحدث عن العبودية والتمييز العنصري، تصديق أن سنوات الـ20 من القرن الماضي قد شهدت نهاية ما لعبودية طاولت عصوراً وبدأت قبل ذلك بزمن طويل هي عبودية الإنسان لأخيه الإنسان. فإذا نظرنا ملياً في تاريخ القرن الـ20 نفسه، لن يفوتنا أن نرى آثار ما لا يمكن تفريقه عن العبودية في الحياة اليومية للأميركيين وليس فقط تجاه الأفارقة السود المقيمين في تلك الديار الشائعة إلى درجة تضيق هذه الأخيرة بهم بصورة مدهشة، بل تجاه كل ذي لون يختلف عن لون الأميركيين الخُلَّص أنفسهم. ومع ذلك لا بد من أن ننطلق في حديثنا هنا من ذلك الواقع القانوني الذي بعد عقود من اغتيال الرئيس أبراهام لنكولن المعروف بكونه "محرر العبيد" بات ساري المفعول وأقله على الورق. ومن هنا يتخذ أهميته ذلك النص الذي أعيد نشره بعد ثلثي قرن مرت على صدوره للمرة الأولى متناولاً تلك المسألة نفسها: تحرير العبيد.
الحكاية نفسها
والحكاية التي يرويها هذا النص المعنون "باراكون، حكاية الشحنة السوداء الأخيرة" وهو ليس في الحقيقة سوى إعادة طباعة لكتاب كان قد صدر في الولايات المتحدة للمرة الأولى في أواسط العشرينيات من القرن الماضي كما أشرنا. صحيح أن للحكاية التي تروى لنا في الكتاب "بطل"، لكنه يحمل توقيع باحثة عالمة – زورا نيل هرستون – هي التي تولت جمع مادته وتحريرها، بالتالي نقل حكاية تلك الشخصية المحورية التي أتت بها من عالم الحثالة إلى عالم الأدب التاريخي في وقت كان من الصعوبة بمكان أن يشغل ولو حيزاً بسيطاً مما نقله إلينا التاريخ والمجتمع عبر شخص من الحثالة ليس له من سمات البطولة ولو قبس يسير. وما ذلك الشخص سوى أولوالي كوسولا. ولعل في مقدورنا هنا أن ننصح القارئ بألا يبحث في المراجع التاريخية عن أي أثر لهذا الاسم، فهو في الحقيقة لن يعثر عليه إلا هنا في هذا الكتاب كما لو أنه بطل رواية خيالية ابتكرتها مخيلة أديب ما واحتفظت حصرياً بكل حقوقها فيه. ومع ذلك فهو كائن حقيقي من لحم ودم عاش طوال سنوات طويلة وكان من حظه، المعنوي لا أكثر، أن قيض له أن يكون بصورة رسمية، العبد الأخير الذي طاوله قانون إلغاء العبودية.
عشرات السنين في الأسر
في الحقيقة أن كوسولا حين رحل عن عالمنا في عام 1935 في ولاية ألاباما، حيث كان يعيش لم يكن يعرف عمره الحقيقي. كل ما كان يمكنه أن يعرفه كان سنوات أسره في أميركا منذ وصل إليها في عام 1860 تحديداً كي يصبح رهن العبودية في "وطنه" الجديد وقد انتزع من أفريقيا، وطنه القديم، قسراً على أيدي عصابات كان تهريب البشر إلى العالم الجديد ميدان نشاطاتها، وتحديداً على متن السفينة كلوتيلدا التي يروي الكتاب حكايتها من خلال روايته حكاية ذلك العبد السابق في ذلك الحين، والذي كان قد بلغ من الشهرة إلى درجة بات من الطبيعي معها لكل المهتمين في ذلك الحين بما ترتب على استعباد دام قروناً عدة أن يسعوا إلى لقائه متحرين من خلال حكايته حول تاريخ الملايين من أمثاله من معذبي الأرض. وهو اشتهر على أية حال حينها بذاكرته التي لا تنضب وقدرته كحكواتي، ولكن خاصة بصدق ما يرويه، بل حتى بالبساطة المطلقة لحكاياته. وكان من بين الأمور التي ميزت حكايته كما أشرنا أول هذا الكلام أنه هو نفسه الذي يحمل لقب لا يشارك فيه أحد، وهو: آخر العبيد.
حكاية فريدة
إذاً هذا اللقب هو السلاح الأول الذي ساعد كوسولا على دخول درب الخلود من باب عريض فليس بالشيء القليل أن يكون أمرؤ ما آخراً في مجال ما. لكن الأهم من ذلك هو بالتأكيد ذاكرة كوسولا التي التقطت الحوار البديع والمؤسي الذي أجرته معه مؤلفة الكتاب ومن خلاله تعرفت إلى حكاية كانت هي أول الذين اندهشوا في إزائها. فذاكرة الرجل وعلى رغم أنه كان يروي في جلساته المتعددة مع محاورته حكايات تعود إلى عشرات العقود التي سبقت استعباده وانعتاقه وتحرره كانت تلح عليه أن يروي ما حدث له في الصباح الباكر من اليوم الذي كان لا يزال في دياره الأفريقية، حراً كالريح والنور والهواء متنقلاً على رغم بؤسه المطلق بين مرابع صباح، بيد أن علينا أن نتذكر هنا أن وجهه ونظراته لم تكن لتعبر عن أي حنين إلى ملاعب الصبا، ولا عن أي نفور مما حدث له بعد ذلك. فهو في نهاية الأمر بدا متقبلاً لما كتب له لا ينظر إلى عقود عبوديته الطويلة بكونها زمناً ما كان ينبغي قط أن يعيشه. بالنسبة إليه يعادل البؤس هنا بؤسه هناك. أما الآن وقد حصل على تلك الحرية التي من الواضح أنها قد باغتته، يبدو كالمتسائل عما يمكنه أن يفعل بها وكأن لسان حاله في وضعه الجديد ما يقوله زعيم الخدم السود في فيلم "ماندرلاي" لغريس وقد حررتهم من عبوديتهم فتسأله عن أحوالهم الجديدة وما الذي تغير اليوم عن زمن عبوديتهم ليجيبها: في الماضي كنا نحصل على عشائنا في السابعة، أما اليوم فلا ندري أبداً متى يحصل ذلك. واضح أنك أن تكون مرة عبداً فإن ذلك لا يمحى أبداً!
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
حكاية كتاب
والحقيقة أن ما سبق يمكن أن يقول لنا إن الحكاية هنا انتقلت من كونها حكاية عبودية إلى كونها حكاية كتاب. وناشرو هذا الأخير اليوم لا يفوتهم تأكيد هذا، حيث نراهم يفردون حيزاً كبيراً ليس لموضوع الكتاب حتى ولو أنه عن العبودية نفسها وعما يمكن أن يكون من بعدها، بل لنوع من لا تفاهم يمكن استغرابه بين "بطل" الحكاية ومدونتها. فهذه الأخيرة وانطلاقاً من كونها في الأصل مناضلة جعلت من كوسولا نموذجاً لبحثها في هذا المجال، تنطلق من قدر كبير من الغضب يستبد بها إزاء المصير الذي كان من نصيب كوسولا، فيما هو يتعجب إزاء غضبها إلى درجة أنه يعتقدها غاضبة من حصوله على حريته!
يبقى أن ننقل عمن علقوا على هذا الكتاب حين عاد إلى الصدور بعد غياب طويل قبل أعوام قليلة من الآن الاهتمام إلى جانب من مسألة التمييز العنصري كان غائباً عن الأذهان وهو الجانب المتعلق بتاريخ ما قبل العبودية كما بتاريخ ما بعدها. ننقل عنهم كيف أن واضعة الكتاب زورا نيل هرستون قد محت نفسها تماماً أمام شخصية محاورها الذي تفرد لحكي تاريخه بلسانه عدداً كبيراً من صفحات تشتغل عليها بقدر كبير من التبجيل وقد بدت مصرة على تنقل عنه حكايته بلغته التي يتكلم بها عادة وبالكاد تبدو مفهومة لغيره. وهي على أية حال تفيدنا في هذا المجال أن "حرمان كوسولا من النطق بأي لغة مفهومة معناه وأد تاريخه نفسه بالنظر إلى أنه تاريخ لا يمكن لأحد غيره أن يعبر عنه"، فإن عجزت اللغة التي ينطق بها عن مساعدته على رواية ذلك التاريخ فمعنى ذلك أن التاريخ قد فقد إلى الأبد واكتمال عبوديته حتى وإن كانت القوانين قد ألغتها. ويقيناً أن ثمة في ذلك التاريخ جانباً يتمثل في ما قبل تاريخ العبودية يمكننا أن نختتم الحكاية به، وهو على أية حال أمر يرويه صاحب الشأن بلغة تبدو وحدها مفهومة: لقد كان في الـ18 حين غزت منطقة قبيلته قوات ملك أبوني في بنين الأفريقية لتأسره مثل مئات من أبناء قبيلته وتسلمه إلى عصابات المهربين التي، ومن دون أن يدري كيف، نقلته إلى العالم الجديد عبر المحيط الأطلسي، حيث تحول إلى عبد وعاش حياته على ذلك النحو.