ملخص
مجرد ذلك الصدور كان كافياً للبرهنة على أن فكر سان سيمون لا يزال حياً. فكيف إذا انتقلنا هنا إلى تأكيد آخر يفيدنا بأن الطبعة الأولى من تلك الأعمال الكاملة قد نفدت خلال أقل من عام، كما أنها نالت ترحيباً ليس فقط من قبل الباحثين والجامعيين، بل من قبل كثر من قراء عاديين كانت تعليقاتهم على تلك الأعمال، وقد عادت للتداول مدهشة للغاية؟
أكثر من 3500 صفحة موزعة على أربعة مجلدات صدرت في فرنسا عن المنشورات الجامعية الفرنسية في احتفال جديد بذكرى المئوية الثانية لولادة المفكر الفرنسي الاشتراكي – لكن اليوتوبي أيضاً – هنري دي سان سيمون، اشتغل عليها فريق بكامله تحت إشراف أربعة من كبار الجامعيين الفرنسيين على رأسهم بيار موسو، طوال ما يصل إلى نحو عقد من السنين لكي يسفر ذلك عن صدور ما يمكن وصفه، وربما للمرة الأولى "الأعمال الكاملة" لهذا المفكر الذي يقال إنه كان إلى جانب مواطنه شارل فورييه والإنجليزي ريتشارد أوين في جذور الفكر الماركسي، وفي الأقل في أسس الجانب الاقتصادي – الاجتماعي منه.
وهي لفتة نادرة في تاريخ الفكر في القرن الـ20، إذ يعود آخر اهتمام قبل ذلك بسان سيمون إلى عام 1968، وسبقه اهتمام من النوع نفسه يعود إلى عام 1929. وهو ما ينبهنا إلى واقع أنه إذا كان ذكر سان سيمون يبقى دائماً على كل شفة ولسان فإن هذا المفكر لم يحضر على ذلك النحو من تلقاء ذاته، بل لمناسبات أخرى. ونذكر هذه المرة أن الاهتمام المتجدد، والذي أسفر عن صدور الأعمال الكاملة كان على رغم أن كثراً كان قد أشاروا إلى أن الوقت قد حان لانتهاء الزمن الذي يبقى فيه سان سيمون في البال.
نهاية فكر أم مفكر؟
مع ذلك لا بد هنا من التنبيه إلى أن ثمة إشارات كثيرة تفيد بأن سان سيمون كان ينبغي أن يعتبر كمفكر منتهياً منذ زمن، غير أن اهتمام دار النشر الكبيرة تلك بإعادة إصدار أعماله يقول لنا شيئاً آخر تماماً. ففي نهاية الأمر لا يمكن أن يكون منطقياً أن تكرس كل تلك المجلدات والصفحات والباحثين والسنوات والجهود في سبيل بعث مفكر يقال إن مكانته ومكانة فكره قد ارتبطتا بعصر صناعي انتهى بدوره وعرف في زمنه بعدم قدرته على توقع حلول الزمن المعلوماتي الذي يجعله يبدو وكأنه ينتمي إلى زمن ما قبل تاريخ ما وبات في أحسن أحواله مجرد زينة متحفية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الحقيقة أن مجرد ذلك الصدور كان كافياً للبرهنة على أن فكر سان سيمون لا يزال حيا. فكيف إذا انتقلنا هنا إلى تأكيد آخر يفيدنا بأن الطبعة الأولى من تلك الأعمال الكاملة قد نفدت خلال أقل من عام. كما أنها نالت ترحيباً ليس فقط من قبل الباحثين والجامعيين، بل من قبل كثر من قراء عاديين كانت تعليقاتهم على تلك الأعمال وقد عادت للتداول مدهشة للغاية؟
كما في الماضي
إذاً هذه المرة أيضاً وكما في الماضي، أي قبل قرنين من الزمن تقريباً، ها هو سان سيمون (1760- 1825) يعود إلى الواجهة تماماً كما كان قد فعل، لكن هذه المرة بوصفه صاحب فكر لا يمكن أن يكون قد انتهى. وهو أمر حدث خلال الربع الثاني من القرن قبل الماضي، إذ بعد سنوات من رحيل سان سيمون، رأيناه يعود، ولا سيما إلى مصر وتحديداً من خلال مريديه "السان سيمونيين" ومن بينهم طالب الهندسة في فرنسا محمد مظهر، لكن تحت زعامة الباحث السان سيموني إنفانتان الذي قاد مجموعة منهم وتبعاً لتعليمات سابقة تلقاها من سان سيمون نفسه، وكان هذا على فراش الموت تقضي بتوجههم إلى مصر، حيث ينبغي أن ينشروا فيها أفكارهم الاشتراكية السان سيمونية وصولاً إلى العمل على شق قناة السويس المشروع الذي ربما يكون ورثه من الفيلسوف الألماني ليبنتز.
صحيح أنهم لم يكونوا هم الذين قاموا بالمشروع، لكنهم هم الذين أيقظوه من سباته في الأقل. ومن هنا كانت مصر واحدة من البلدان التي احتفلت قبل سنوات بذكرى سان سيمون معترفة له بفضله في تحريك مشروع شق القناة، وكان كاتب هذه السطور في القاهرة واحداً من المشاركين في ندوات الاحتفال.
العودة كما رآها العائدون
لكن إذا كانت العودة قد بررت نفسها باقتراب ذكرى سان سيمون، وقد نفت الذكرى ما قيل من انتفاء الحاجة في عصر المعلوماتية إلى فكر سان سيمون وتنظيره للعصر الصناعي، فإن الحاجة الدائمة والمتجددة إلى هذا المفكر وجدت تبريرها الأساسي من ناحية في كون إنسانية الفكر السان سيموني تبرر دائماً الحاجة إليه، ولكن من ناحية أقل عاطفية وأكثر أكاديمية، في واقع أنه وبعد ما يقرب من قرنين مضيا على رحيل سان سيمون بات لا بد من العودة إلى فكره، لكن انطلاقاً من اكتشاف كميات هائلة من مخطوطات خلفها عند رحيله لتغيب تماماً عن المشهد ومعظمها لم يكن قد عرف له وجود من قبل.
ومن هذه المكتشفات، وكما يحكي اليوم بيار موسو، حقيبة مليئة بالأوراق كان سان سيمون قد أودعها لدى صاحب نزل، إذ عجز عن دفع فاتورة يتوجب عليه دفعها، إذ تبين له أنه خالي الوفاء وليس لديه ما يسدد به ثمناً كان يتوجب عليه دفعه. صحيح أن سان سيمون ينتمي إلى أسرة أرستقراطية ثرية، لكنه حين بلغ الـ42 من عمره تخلى من مكانته العائلية وعن ثروته مؤثراً أن يكرس حياته مذاك وصاعداً للفكر والكتابة والنضال وبات مفلساً في معظم الوقت.
وإذا كان قد ترك تلك الحقيبة التي تحتوي مخطوطاته في النزل فإن تلك الحقيبة وصلت بعد زمن طويل إلى دار مزادات دروو في باريس، لكن موظفة في المكتبة الوطنية في فرنسا كانت قد تمكنت من تصوير ما في الحقيبة عبر ميكرو فيلم بات يومها من ممتلكات الدولة، لكنه لم ينشر أبداً وهكذا، كما يروي موسو، "ضممنا ما صور على تلك الأفلام إلى ما وجدنا من محفوظات في الأرشيف الوطني الفرنسي كانت الشرطة الفرنسية قد صادرتها حين اكتشفت وجودها عند زمن عودة الملكية فاحتفظت بها".
أعمال اكتملت
ويتابع موسو في هذا السياق نفسه راوياً كيف اكتملت أعمال سان سيمون هذه المرة حقاً فيخبرنا بأن طبعات لكتب من سان سيمون كانت قد صدرت آخر سنوات حياته مثل "السياسة" الصادر عام 1818 و"الصناعة" (1817-1818)، لكنها نفدت من المكتبات حينها، ولم تطبع بعد ذلك أبداً وضمت الآن إلى طبعة الأعمال الكاملة الجديدة.
والطريف أن موسو لا يفوته أن يذكر لنا هنا بأن ثمة من بين كتب سان سيمون التي يمكننا العثور عليها في الطبعة الجديدة نصوصاً تنشر باسمه للمرة الأولى بعدما كانت قد عزيت في الماضي إلى المفكر أوغست كونت، ومنها على سبيل المثال المجلدان الثالث والرابع من كتاب "الصناعة" (1816-1818).
وقد يكون من الضروري أخيراً أن يسأل بيار موسو لمناسبة عن السبب الذي جعل السلطات تصادر أعمالاً لسان سيمون زمن عودة الملكية من طريق أجهزة الشرطة فكان جوابه نوعاً من إلقاء ضوء ما على مرحلة مجهولة من تاريخ فرنسا، إذ قال "بالنسبة إلى سان سيمون، كانت الثورة الفرنسية قد فشلت في أن تكتمل في ذلك الحين لأنها لم تتمكن من إبداع نظام جديد يحل فيه العلم محل الإيمان وضروب الصناعات محل النبالة والموظفين البيروقراطيين، ولقد تلاقى هذا لديه مع مثال النحل والزنابير، حيث العمال يعملون كالنحل، ورجال الدين والنبلاء والبيروقراطيون يعيشون عالة على الآخرين".
وما كان من شأن مثل هذا الكلام أن يكون مقبولاً فصودر النص وأحيل صاحبه إلى القضاء.