ملخص
يعود اسم الفيلسوف اللبناني - الفرنسي بول عودة (مواليد 1963) إلى الواجهة الأدبية من جديد مع فوز كتابه المعنون "المواجهة" الصادر حديثاً في باريس عن منشورات ستوك بجائزة فيمينا المرموقة عن فئة البحث أو المقالة الفكرية لسنة 2024. يعالج الكتاب موضوعاً راهناً يتعلق بالحرب الإسرائيلية - الفلسطينية الدائرة في غزة منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 ومشاعر معاداة السامية العائدة بقوة في أوروبا على هامش المجازر والدمار الحاصلين بين اليهود والغزاويين.
الكتاب عبارة عن مجموعة من الرسائل يتبادلها صديقان فرنسيان قديمان في الأشهر الخمسة الأولى من الحرب، أحدهما يهودي يدعى موريس عبادي، والآخر وهو ليس يهودياً يدعى توما سكور. يعبر الكاتب من خلال رسائل هاتين الشخصيتين عن قلقه إزاء المجازر وتداعياتها على اليهود الذين يواجهون عودة معاداة السامية وعلى الفلسطينيين الذين يواجهون الإبادة الجماعية. ففي حين يشير أحد الشخوص إلى أن العدمية ومعاداة السامية اللتين نشأتا في القرن الـ19، هما وجهان لنفس القبح، لا تخفي الشخصية الأخرى غضبها من الرد العسكري الإسرائيلي في غزة ولبنان. يقول لنا الكتاب إن الرجلين صدما بتفاصيل ذاك اليوم الدموي الذي بدأ مع شن حركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية هجوماً مباغتاً على المستوطنات الإسرائيلية سمته "طوفان الأقصى"، أسفر عن قتل وجرح وخطف مئات الأشخاص واحتجاز بعضهم رهائن، لكنهما ذهلا بوحشية الرد الإسرائيلي على هذا الهجوم، والذي كان أكثر عنفاً ودموية من الهجوم نفسه، إذ نفذت وحدات الجيش الإسرائيلي ضربات جوية على الطرق والمباني والمدارس والمستشفيات في غزة، ترافقت مع اجتياح بري حول القطاع إلى أنقاض، بعدما قتل معظم أهله وشرد من بقي من سكانه فيما يشبه إبادة جماعية.
أمام هول رد الجيش الإسرائيلي عبر الصديقان الفرنسيان عن قلقهما من تزايد أعمال العنف والأفعال والخطابات المعادية للسامية في كل أنحاء العالم. وها هما يحاولان في رسائلهما المتبادلة السيطرة على انفعالاتهما وعواطفهما من خلال تفكير عقلاني رصين، يشهد للتأثير الذي يمكن أن يتركه الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني على ضمائر الرجال الأحرار، غير المنحازين، الذين يتطلعون إلى السلام والعدالة، منتظرين بفارغ الصبر أن تتوقف أعمال القتل والتهجير وتدمير المدن، وأن تهدأ النفوس ويستتب الأمن والهدوء على الأرض.
يستكشف بول عودة إذاً انعكاسات الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني على الوعي، ويغامر من خلال شخوص كتابه الذي اتخذ من الرواية الرسائلية قالباً له، بلعب دور شاهد لم يتصور أبداً أن تعود في القرن الـ21 الكراهية والمشاعر المعادية لليهود بهذه القوة، وأن يسيطر العنف المحض على السلوك الإنساني. فيتفكر في جذور هذه الشرور القديمة، التي لم تختف أبداً، والتي تعود للظهور في فترة تتفاقم فيها التوترات الهوياتية.
ثقافة الكراهية
عبر الرسائل المتبادلة بين الصديقين يدين عودة العنف والقتل وكراهية اليهود ومعاداة السامية، ويود لو أن شيئاً يستطيع امتصاص أحداث هذا اليوم الدامي الذي بتر فيه "جلد العالم الهش" وفق ما يقول الفيلسوف الفرنسي جان لوك ماريون بفعل الرعب الذي أحدثه وارتداداته المخيفة المتزامنة مع بلوغ كراهية اليهود والأعمال المعادية للسامية "مستوى غير مسبوق"، مضيفاً أن هذه الأحداث العنيفة التي فاقت كل تصور، والتي تجري على مسرح الشرق الأوسط هي أشبه بثقب أسود يلتهم الإنسانية كلها، كاشفاً عن فظاعتها وضراوتها وعن إفلاس لغة العقل والحوار في العلاقة مع الآخر على حساب تنامي الأحكام المسبقة والأحقاد المتجذرة.
الكتاب عبارة عن سرد متماسك وعن مواجهة للآراء المختلفة تبين التعقيد الشديد الذي يتخبط فيه الشرق الأوسط. وعلى رغم ذلك يحاول الصديقان دعم بعضهما بعضاً، وتصويب ما ورد في رسائلهما، من خلال توضيح متبادل للمسائل السياسية والأخلاقية، في بحث عن التوازن والاستمرار في الحياة والإيمان. ويبدو أن عودة في مقاربته الفلسفية لأحداث السابع من أكتوبر وما نتج منها يحاول معالجة سؤالين مهمين: هل يمكننا إعطاء معنى موضوعي لمرحلة تاريخية لم تنته بعد؟ وكيف يمكننا، من منظور شخصي أن نصمد عندما تتجاوزنا مسار الأحداث وعندما يعاد النظر في كل ما نؤمن به من يوم لآخر؟ ذلك أنه في الظلمة، "لا يرى الناس بوضوح"، لكن "شيئاً ما ينتظرنا في أفق إنسانيتنا"، ما يعني أنه لا يزال بإمكان البشر إنارة هذا الظلام بعيداً من اللجوء إلى نيران الحرب، بغية تغيير مصيرهم دون الاستيلاء على مصائر الآخرين، مذكراً إيانا بقدسية كل حياة بشرية في مواجهة الكراهية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لا يناقش كتاب بول عودة الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين في سياقه التاريخي والسياسي والعسكري، ولا يعرض آراءً وحججاً مضادة تتناوله، بل يقارب من منظور فلسفي أحداثاً حقيقية، عارضاً القلق والأفكار التي شغلته منذ اندلاع الحرب المقيتة، مستعيناً بالتحليل النفسي وعلم اللاهوت. ففي الأوقات التي يسيطر فيها الخوف والقلق ويسود العنف على الأفعال والكلمات، ويرتفع منسوب نهر الكراهية والموت ومعاداة السامية، فائضاً عن مجراه، غامراً كل ما حوله لا يبقى للإنسان إلا الصداقة ولو كان الصديق من عرق ودين آخر. تستكشف هذه الرسائل إذا مفاهيم الدين في بعده الروحي والعدمية والانتماء والصداقة التي يقاربها عودة كالبهلواني السائر على الحبل، محاولاً قدر الإمكان الحفاظ على توازنه بين خيبة الأمل والأمل في الإنسانية إزاء هذا الصراع التراجيدي. فيركز رهانه على عدم رواية التاريخ من منظور واحد قد يطغى على منظور آخر، قائلاً لنا أن الذين "يلجأون بصورة منهجية إلى تمجيد البعض وتوبيخ الآخرين، أو اتهام البعض والدفاع عن الآخرين، يبدو أنهم لم يفهموا بعدما هذا الموقف لا يؤدي إلى شيء"، مؤكداً لنا أننا نعيش "ليلة حالكة جداً، يغمر سوادها كل نور". فيفترض أن "الوعي" يحثنا على رغم الغضب والتدمير الذاتي، على الإسراع في حل الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني لمصلحة الجميع، متشبثاً بضرورة الحفاظ على الحوار بين الصوتين، كما لو أنه لا يملك إلا "الأمل المستحيل" يعارض به الكارثة الدافقة، لعلها تشكل صدمة مزدوجة، تحث الجميع على التعرف على الآخر، بغية إنهاء هذه التراجيديا المقيتة.
أشاد عدد كبير من النقاد بكتاب بول عودة مشددين على توازنه بين من يكافحون معاداة السامية وهم غير يهود و"ليسوا ضحايا مباشرين لها" ومن يعارضون موت المدنيين الأبرياء، لا سيما الفلسطينيون.
باختصار، بول عودة جريء في طرحه وصادق في دعوته التي تتموضع على أشد خطوط القمة حدة. يجسد كتابه مقولة خطها قديماً سوفوكليس على لسان بطلته أنتيغونا، "لست مخلوقة لأعيش مع كراهيتك، بل لأكون مع من أحب".