ملخص
مع إقرار قانون قيصر الأميركي ضد سوريا باتت حركة الاستيراد والتصدير مقيدة في البلاد منذ عام 2020 مما أدى إلى انهيار الليرة السورية كثيراً أمام الدولار.
صار السوريون يشترون حاجاتهم الغذائية بالحبة (القطعة الواحدة)، مع أن الشراء بكميات محدودة هو ظاهرة لم يعتد عليها أبناء هذا البلد سابقاً، والأمر لا يقتصر اليوم على الفاكهة والخضراوات، بل مختلف السلع الاستهلاكية كالزيوت والسكر والقهوة والشاي وغيرها من المواد الغذائية، وصولاً إلى أن اقتناء بعض الكماليات يعد رفاهية مطلقة، والرفاهية هنا قد تكون قرن موز واحد.
يمكن القول إنه ثمة شريحة واسعة تشتري اليوم ليمونة واحدة مثلاً، أو خيارة واحدة، أو برتقالة واحدة، وربما قرص طماطم واحد، و"غلوة" قهوة تكفي لمرة واحدة. كل ذلك حصل بعد الارتفاع الجنوني في أسعارها مما جعلها مواد استهلاكية تتعلق بالرفاهية لكثير من الأسر التي حصرت شربها بأوقات ومناسبات محددة.
القصة كلها بدأت مع نهايات عام 2019 وبدايات عام 2020 مع إقرار قانون قيصر الأميركي ضد سوريا، الذي قيد حركة الاستيراد والتصدير فيها، فما قبل هذا العام كانت الليرة السورية لم تنهر أكثر من 10 أضعاف أمام الدولار خلال 10 أعوام من الحرب.
ثم وما بعد 2020 تباعاً وبسرعة فائقة انهارت الليرة السورية بما يعادل 300 ضعف أمام الدولار، وهنا بدأت القصة، قصة الفقر الذي أحاق بالسوريين، كلهم، أو في الأقل معظمهم الراجح بوضوح. وأقلهم هذا هو نسبة تتخطى 90 في المئة منهم صاروا تحت خط الفقر العالمي الذي أكدته منظمات الأمم المتحدة في غير مناسبة ومكان.
انعدام القدرة الشرائية
تلك الظاهرة عموماً من الشراء بالقطعة، تسببت بتراجع كميات الاستهلاك نظرياً وفعلياً، مما يعني أن التجار أصبحوا عاجزين عن تصريف بضائعهم بالشكل المعتاد، فالبضاعة التي كان تاجر الجملة أو نصف الجملة قادراً على تصريفها في يومين أصبحت تبقى في محله شهراً أو أشهراً.
ناصر ريحاني صاحب محل لبيع المواد التموينية بالجملة تحدث لـ"اندبندنت عربية" عن معاناته المتزايدة في ظل الوضع الراهن، قائلاً "صارت مصلحتنا خسارة بخسارة، كلف كهرباء وفواتير مياه وضرائب ومخالفات تموين وصحة وغيرها، وفي النهاية يدخل زبون ليطلب أوقية من البرغل أو ربع أوقية من البهارات، هذا حالنا وواقع مبيعاتنا، الناس لا تملك الأموال، كلها تعيش على أمل غد أفضل ويمنون أنفسهم بذلك يوماً تلو آخر".
ويضيف، "أنا صاحب متجر وأعرف، اليوم إذا أراد الزبون شراء مؤونة شهره كما كانت الحال في سوريا طوال تاريخها فإنه سيأتي بداية الشهر ويدفع عشرات الدولارات وهو بالكاد مرتبه 20 دولاراً، فكيف يستوي هذا مع ذاك، أنا أفهم الناس، القدرة الشرائية انعدمت لديهم، يشترون ظرف شوربة بدولار ليكون طعام غذاء اليوم".
كفاف يومنا
رفيدة إبراهيم ربة منزل من ريف دمشق متزوجة من موظف حكومي يتقاضى نحو 20 دولاراً شهرياً، وتملك أسرة مكونة من ثلاثة أطفال صغار، كانت تشتري الخضراوات بالقطعة الواحدة، "خيارة وخسة وجرزة بقدونس صغيرة وحبتي بطاطا ومثلهما من الطماطم مع ليمونة متوسطة الحجم"، وهذه المكونات كانت سعرها دولاراً أو يزيد قليلاً، وهؤلاء يكفون عملياً شخصاً واحداً، أو اثنين بكثير، وقد لا يكفي.
تقول رفيدة، "إذا أردت شراء الكمية النظامية وكيلو من كل شيء ليكفي طعام غداء جيد وكاف سيكون سعرها ثلاثة دولارات تقريباً، وهذا يعني 90 دولاراً شهرياً، ما يعني قرابة أربعة أضعاف مرتب زوجي. إذاً فماذا عن الحنطة والبرغل والرز والقهوة والشاي؟ نحن فقط نعيش خبزنا كفاف يومنا وليتنا نكتفي".
ليتنا نشبع
"مرتبي ومرتب زوجتي 45 دولاراً، مع مرتب ابنتنا وولدنا نصل جميعاً لحدود 100 دولار، وهو ما يعيننا قليلاً لنبقى على خط القفر لا دونه بكثير". يقول المهندس كريم عباس في سياق حديثه بعد أن قابلنا وهو يشتري من إحدى بسطات الخضراوات كميات ترقى لربع كيلو ونصف الكيلو لا أكثر من حاجات أسرته.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يقول عباس، "الجميع في سوريا يتدبر أمر اليوم، أما الغد فهو متروك لقضاء الله، هل أقول شيئاً لتبدو الحسرة كم هي كبيرة؟ نحن كنا نشتري تلك الخضراوات والفاكهة بالصناديق الكبيرة، كنا نشتري صندوق خضراوات وفاكهة، اليوم نشتري بالقطعة ونفاصل البائع ونبحث عن الأرخص، وابتلانا الله بحكومة ترى وتستغرب وتستعجب ولا تتصرف وفوقها تستفزنا بتصريحاتها".
ويكمل، "لا أحد يريد النظر في القهر البادي على وجوهنا ونحن نكاد نتسول الطعام، منذ سنين لم أعد أشعر أنني مهندس، يا ليتني كنت مياوماً (عامل بأجر يومي) لربما كانت الحال أفضل بكثير، أنا أقابل أسرتي بخجل وأنا عائد بكيس أسود صغير فيه قطعة أو اثنتين من كل شيء، ومن ثم صحن سلطة يتم توزيعه علينا بالتساوي وليتنا نشبع، ثم نقلي بطاطا محمرة وننظر لبعضنا بخجل لئلا يقوم أحد غير شبع عن الطعام، وهذا يحصل كل يوم".
القمامة بديلاً
يخجل الموظف في القطاع العام مؤيد حرشى كلما فتح باب براد منزله أمام أطفاله لقلة حيلته وفراغ محتوى براده إلا من القليل اليسير، الرجل الذي نسي طعم المعلبات واللحوم والأطعمة البروتينية المهمة صارت وجبة طعامهم الرئيسة زيتاً وزعتراً وقرصاً من الطماطم وخيارة وربما كأساً من الشاي إن كانت الأمور بأفضل حال.
يروي مؤيد حول ذلك بقوله، "نحن جوعى، لم نلجأ لطعام الحاويات بعد، لكننا شاهدنا ونشاهد من يأكل من القمامة، هل هذه سوريا بحق الله؟ بلد الخير والعطاء وأم الفقير وملجأ الجوار لرخص الأثمان فيها، اليوم صار هذا البلد عزيزاً علينا بكل ما فيه، ويا خجلي من أولادي وزوجتي وقد بات يكاد يكون لون وجوهنا من لون الزعتر لفرط ما تناولناه كخيار شبه وحيد".
كماليات وأساسات
لم يعد مستهجناً ارتفاع أسعار الخضراوات والفاكهة والمواد الأساسية في سوريا أمام المواطنين فإن ذلك يطرح جملة أسئلة حول السبب، السبب الذي أجبر الناس أن تشتري بالحبة، وأصبحت تلك الأمور بالنسبة لهم مقسمة بين كماليات وأساسيات.
ويتساءل الموظف سائر نصر، كيف يمكن اعتبار الشاي كماليات ورفاهية، هل يمكن ألا يحتوي منزل على الشاي، كما الحال في منزله منذ أشهر. يقول، "أسعار الشاي بين ظروف وعادية تراوح بحسب الحجم ما بين دولار ونصف الدولار و10 دولارات. وبطبيعة الحال فإن استهلاكها قد ينجم عنه انتهاؤها في أسبوع أو شهر، وفي الحالين لا يمكن صرف المرتب كاملاً على الشاي، لذلك استغنيت عنه بعد أن حاولت التقنين فيه قدر المستطاع، ولكن في النهاية فشلت ووجدت أنه فعلاً من الكماليات وعلي أن التفت لما يجب أن آكله لا ما يجب أن أشربه".
إدمان القهوة
اعتادت الشابة سما البدوي شرب القهوة حتى درجة الإدمان، لم تستطع تقبل مشروبات أخرى في سياق حياتها العامة، إذ إنها تستيقظ لتشرب قهوة فوراً، ثم تحتسيها أكثر من مرة خلال النهار، ولكن سعر كيلوغرام القهوة المتوسط الجودة صار يعادل ثمنه 15 دولاراً في السوق، وهو ما يشكل قرابة نصف راتبها من وظيفتها في القطاع الخاص.
تقول، "لم يمر يوم في حياتي من دون أن أشرب فنجان قهوة بداية استيقاظي، ثم أقضي بقية يومي أشرب القهوة، لم أستطع الاعتياد أو محبة المشروبات الأخرى من نسكافيه وشاي والمتة (شاي الأعشاب) وغيرها، وبعد أن فشلت في ضبط موازنتي كان خياري الوحيد هو أن أشرب القهوة بقدر ما أريد ومجاناً حيث أنا موظفة".
وتتابع، "أما عن صباحي فصرت أشرب فيه الزهورات (الأعشاب البرية) ولا أصدق أن أصل إلى العمل لأحتسي قهوتي، الزهورات ليست أفضل خيار، ولكنها أوفرها على الإطلاق، مجرد أعشاب تباع لدى العطارين بأسعار بخسة لا تعادل إلا أجزاء من الدولار، وقد تكفي لشهرين، ويمكن خلطها بالمتة أحياناً فتعتدل الطعمة. والمتة مشروب شعبي رائج في سوريا ومكون من الأعشاب أيضاً، ولكن سعره أصبح باهظاً على الأسر كذلك".
سياسيات فاشلة
يرجح المتخصص في الشأن الاقتصادي عزام السيد أن تسوء الأمور الاقتصادية أكثر في سوريا، واصفاً الوضع الإقليمي الآن بأنه على "كف عفريت" مع وصول دونالد ترمب إلى سدة الحكم في الولايات المتحدة مما يعني فرضيات أكثر تشدداً اتجاه الواقع السياسي والاقتصادي الخانق في سوريا وتفعيل حزم عقوبات إضافية جديدة.
وعن الوضع القائم يقول، "الناس منذ زمن تشتري بالحبة وذلك جملة عوامل مركبة، أولها سوء الواقع الاقتصادي والحصار، وثانيها وأهمها سياسات الحكومات المتعاقبة الفاشلة خلال الحرب السورية، والتهاء النظام بمشاريع خاسرة لا تعتمد على الإنتاج الصغير وتغذية المجتمع بدءاً من طبقاته المسحوقة والأشد فقراً".