ملخص
رد رئيس "الاحتياطي الفيدرالي" الأسبوع الماضي على سؤال مباشر عما إذا كان سيترك منصبه إذا طلب منه الرئيس القادم ذلك بإجابة قطعية، "لا"
لا تقتصر المخاوف من السياسات الاقتصادية للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب على الحروب التجارية المتوقعة مع الصين وبقية شركاء أميركا في الخارج، بل إن هناك مخاوف من سياسات داخلية قد تؤدي إلى اضطراب الأسواق بشدة إذا نفذت الإدارة الجديدة الوعود الانتخابية بالفعل. في مقدمة تلك المخاوف التحذيرات من الأسواق والاقتصاديين من أن أي صدام بين ترمب وإدارته والاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي) الأميركي ورئيسه جيروم باول قد يؤدي إلى أزمة مالية يصعب احتواؤها.
كثيراً ما كرر ترمب أن من حقه أن يكون له رأي في السياسة النقدية، أي تحديد سعر الفائدة الذي تقرره باستقلالية تامة لجنة السوق المفتوحة في البنك المركزي. وقد حاول الرئيس السابق ذلك خلال فترة رئاسته السابقة، لكن "الاحتياطي الفيدرالي" قاوم أي تدخل من الرئيس والسلطة التنفيذية في السياسة النقدية، كما أن نصائح البعض أثنت ترمب وقتها عن أي تصرف يهز الأسواق والقطاع المصرفي والمالي.
وعاد ترمب لترديد ذلك في حملته الانتخابية، وإن بدرجة أقل حدة من محاولاته حين كان رئيساً قبل 2020، مما جعل "وول ستريت" تشعر بالانزعاج والقلق الشديد من احتمال معاودة الرئيس القادم التدخل في عمل البنك المركزي والنيل من استقلاليته، إذ يرى ترمب أن على "الاحتياطي الفيدرالي" خفض سعر الفائدة بسرعة وبقوة من معدل مسار التيسير النقدي الحالي بغض النظر عن احتمالات عودة التضخم بقوة.
"أعداء الفيدرالي"
رد رئيس "الاحتياطي الفيدرالي" الأسبوع الماضي على سؤال مباشر عما إذا كان سيترك منصبه إذا طلب منه الرئيس القادم ذلك بإجابة قطعية، "لا". وحين تكرر السؤال عما إذا كان يمكن لترمب أن يطرده من وظيفته أو يزيحه عن رئاسة البنك المركزي، أجاب جيروم باول، "هذا غير مسموح به طبقاً للقانون".
يتمتع "الاحتياطي الفيدرالي" باستقلالية عن الإدارة التنفيذية منذ خمسينيات القرن الماضي، وإن كان للكونغرس سلطة الإشراف على عمل البنك المركزي، إلا أن ذلك لا يعني حق التدخل في سياساته النقدية. وبالتعديل الدستوري الذي أقره الكونغرس بمجلسيه عام 1977 يرشح الرئيس، باعتباره على رأس السلطة التنفيذية، أسماء مجلس المحافظين في "الاحتياطي الفيدرالي" على أن يقرهم الكونغرس قبل تعيينهم. ولا يمكن تغيير أي من أعضاء مجلس المحافظين خلال مدة ولايتهم، لكن القانون لا يبدو واضحاً بالنسبة لرئيس "الاحتياطي الفيدرالي"، وإن كان ترشيحه وإقرار تعيينه يمر بالعملية ذاتها.
يتمتع "الاحتياطي الفيدرالي" بسلطات في السوق تتجاوز تحديد أسعار الفائدة لمكافحة ارتفاع معدلات التضخم والحفاظ على معادلة العرض والطلب في الاقتصاد، بالتالي استقرار الأسعار. إذاً للبنك المركزي حرية شراء وبيع سندات الدين بما فيها الحكومية لضبط السيولة في السوق، وهذا أمر في غاية الأهمية للأسواق المالية. وقبل منتصف القرن الماضي كانت كل تلك السياسات ضمن اختصاصات وزارة الخزانة قبل استقلال البنك المركزي، لكن ترمب ليس وحده الذي يمكن وصفه "أعداء الاحتياطي الفيدرالي"، حسب تعبير شبكة "أي بي سي" الأميركية في تقرير لها قبل أيام. ففور رد جيروم باول على السؤال المفترض في شأن معركة محتملة بين الرئيس المنتخب والبنك المركزي سارع آخرون للمطالبة بأن يكون "الاحتياطي الفيدرالي" خاضعاً للسلطة التنفيذية: أي الرئيس الأميركي.
وكتب السيناتور الجمهوري مايك لي على حسابه في موقع "إكس" (تويتر سابقاً) يقول "كل الجهاز التنفيذي يجب أن يكون تحت إمرة الرئيس، وهذا سبب آخر يجعلنا في حاجة إلى القضاء على (الاحتياطي الفيدرالي)". وسبق للسيناتور أن تقدم بمشروع قانون لإلغاء البنك المركزي في يونيو (حزيران) الماضي.
ماسك ومعركة البنك المركزي
المشكلة ليست في هذا السيناتور الجمهوري أو غيره ممن يعارضون استقلالية "الاحتياطي الفيدرالي"، كما ذكر تقرير لصحيفة "وول ستريت جورنال"، إنما في إعادة الملياردير إيلون ماسك نشر تغريدة لي مع علامة تعني تأييده الكامل لها. وتخشى الأسواق من تأثير ماسك على الرئيس القادم الذي دعم حملته بملايين الدولارات، ويمكن أن يكون له رأي في اختيار الفريق الاقتصادي للرئيس وتوجه السياسات المالية للإدارة الجديدة.
ومثل ترمب، فماسك من مؤيدي خفض أسعار الفائدة بغض النظر عن تأثير ذلك في معدلات التضخم. والأخطر أنه حتى لو لم يتمكن الرئيس الجديد من تغيير رئيس "الاحتياطي الفيدرالي" أو التأثير المباشر في السياسة النقدية أن يعمد الرئيس وأعداء "الاحتياطي الفيدرالي" إلى ترويج الانتقادات والرسائل التي تتعارض مع السياسة النقدية.
وهنا يمكن أن يلعب موقع التواصل "إكس" الذي اشتراه ماسك دوراً في تناقض الرسائل للسوق والقطاع المصرفي في شأن السياسة النقدية للبلاد، مما يهدد بأزمة خطرة للنظام المالي كله قد تتجاوز حتى الاقتصاد الأميركي إلى النظام المالي العالمي.
ويعتمد "الاحتياطي الفيدرالي" في سياساته النقدية ليس على القرارات فحسب، بل أيضاً على التواصل ونشر الرسائل التي تجعل الأسواق تتحرك بصورة متسقة مع المطلوب لضبط الاقتصاد واستقرار الأسعار. وفي حال استغلال ماسك لمنصته واستمرار ترمب في انتقاداته وتصريحاته سيفقد "الاحتياطي الفيدرالي" واحدة من أهم أدواته للحفاظ على استقرار السوق وضبط السيولة وتوازن أسواق الأسهم والسندات، فضلاً عن سلامة القطاع المصرفي الذي يقدر استراتيجيات الاستثمار والائتمان على أساس الرسائل التي يوصلها البنك المركزي في شأن مستقبل سياسته النقدية.
ترمب وباول
يذكر أن الرئيس السابق دونالد ترمب هو الذي رشح جيروم باول لرئاسة "الاحتياطي الفيدرالي" في فترة رئاسته الأولى عام 2017، لكنه قرب نهاية ولايته بدأ ينتقد باول وسياسات البنك المركزي في رفع سعر الفائدة لكبح جماح التضخم. وتجاهل باول تلك الانتقادات وحافظ "الاحتياطي الفيدرالي" على سياسة التشديد النقدي حتى بدأت معدلات التضخم في الانخفاض إلى قرب النسبة المستهدفة من البنك المركزي نحو اثنين في المئة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وابقت إدارة الرئيس جو بايدن على باول الذي تنتهي مدة رئاسته للبنك المركزي عام 2026، لكنه يظل ضمن مجلس المحافظين حتى عام 2028، مما يعني أنه يمكن أن يستمر رئيساً للاحتياط الفيدرالي حتى نهاية فترة رئاسة ترمب الثانية القادمة. وتتباين الآراء فيما يمكن أن يفعله ترمب في أي معركة محتملة بين الرئيس والبنك المركزي. وتطرح صحيفة "الفاينانشيال تايمز" وصحيفة "نيويورك تايمز" عدة احتمالات استناداً إلى آراء الخبراء.
إذا احتدم الصراع، وبدعم من إيلون ماسك وفريقه، يمكن لترمب أن يبقي جيروم باول ضمن مجلس محافظي "الاحتياطي الفيدرالي" (المكون من 7 محافظين)، لكن مع ازاحته من منصب الرئيس. ويبدو القانون غير واضح في هذه النقطة، وما إذا كان يمكن للرئيس فعل ذلك مع ضمانه تأييد الكونغرس لترشيحه الجديد في ظل هيمنة الحزب الجمهوري على مجلسي النواب والشيوخ.
تنقل شبكة "أي بي سي" عن المتخصص في الشأن الاقتصادي في جامعة برنسون ونائب رئيس "الاحتياطي الفيدرالي" سابقاً البروفيسور آلان بلايندر قوله، "يمكن لترمب أن يحاول، وهو قد يحاول (إزاحة باول من رئاسة البنك المركزي). من غير المحتمل تماماً أنه يملك هذه السلطة، لكن إذا أخذ الأمر للمحكمة العليا، فلا أستطيع تصور ما يمكن أن تفعله المحكمة العليا".
من المهم الاشارة إلى أن المحكمة العليا أصبحت "جمهورية التوجه" مع تعيين ترمب عدداً من القضاة الموالين في فترة رئاسته الأولى. وردت المحكمة الجميل له قبل الانتخابات بقرارها منح حماية قانونية موسعة للرئيس حسب طلبه خلال محاكماته في شأن عشرات التهم الجنائية التي وجهت له.
يمكن لترمب طبعاً أن يتفادى المعركة القانونية التي سيكون أثرها كارثياً على السوق والاقتصاد ويختار "رئيس ظل" للاحتياط الفيدرالي يدلي بآراء تعارض سياسة البنك المركزي ورئيسه جيروم باول. وهذا ما يحذر منه غالب الاقتصاديين ومحللي السوق لأنه سيثير اضطراباً خطراً في الأسواق.