ملخص
"ريماتش" سلسلة تلفزيونية أنتجتها محطة "آرتي" الألمانية" عبارة عن عمل تخيلي اعتمد سيناريو روائي تمثيلي لتصوير ضروب القلق التي استبدت بلاعب الشطرنج الأسطوري غاري كاسباروف في منازلتيه الأولى والثانية ضد حاسوب شركة "آي بي أم" واللتين انتصر فيهما على الذكاء الاصطناعي
في ذلك الحين كان لاعب الشطرنج الأسطوري غاري كاسباروف قد كف عن أن يكون موطنه ينتمي إلى ما كان الغرب يعتبره قبل ذلك مملكة الشر السوفياتية واستعاد مواطنيته الروسية بعد انهيار تلك المملكة، ومع ذلك ظل قدر لا بأس به من العداء يحكم نظرة ما كان يُسمَّى العالم الحر إليه.
ولقد احتاج الأمر يومها إلى ذلك الحدث الكبير الذي شكلته مباراة الشطرنج في طبعتيها الأولى والثانية قبل أن يبدأ الجمهور العريض بالتعاطف مع اللاعب السوفياتي السابق.
ولقد كانت الطبعة الثانية بالغة الأهمية في ذلك المضمار وليس بالنسبة إلى عالم الرياضة والاتكال على الذكاء البشري المطلق كما عبر عنه كاسباروف وحسب، بل كذلك بالنسبة إلى الصراع بين ذكاء الآلة وذكاء الإنسان.
كانت الطبعة الأولى التي سميت "ماتش" (مباراة) قد شهدت انتصاراً مباغتاً لكاسباروف في مباراة شطرنج أتت أولى من نوعها في تاريخ البشرية مما أقلق شركة "آي بي إم" صاحبة فكرة المباراة متوخية منها الدعاية لحاسوبها الأكثر تطوراً في ذلك الحين "ديب بلو".
ومن هنا ما إن انقضى عام حتى رتبت "ريماتش" (مباراة ثانية) وقد طورت إمكانات الحاسوب نفسها ليخوض مباراة الثأر ضد اللاعب معيداً إلى الشركة هيبتها.
اختلاق ثأر
كانت المباراة الثانية إذاً وأسفرت كما يتذكر كثر من المتابعين عن انتصار جديد للاعب الإنسان ضد الآلة مما ألقى ظلال عتمة على الفكر الذي كان سائداً مع حلول نهايات القرن الـ20 من أن الزمن بات زمن التكنولوجيا وإن ملكوت البشر قد بدأ ينهار.
لكن البشرية التي كان قد بدأ يقلقها مثل ذلك الاحتمال خرجت منتصرة مرة أخرى ودائماً بفضل كاسباروف نفسه ظلت تشعر بالامتنان لهذا الأخير وإن كانت قد راحت تنسى الحكاية كلها عاماً بعد عام من دون أن تنسى نتائجها مكتفية بتسجيل ما بات الحديث عنه من تأجيل مطمئن لما سمي يومها نهاية التاريخ.
كل هذا منطقي بالطبع ولكنه قد يطرح على القارئ سؤالاً لا بد منه: لماذا ترانا هنا نعود إلى هذه الحكاية؟ الجواب بسيط لأن ثمة من استعاده في ذاكرته وتحديداً لمناسبة مرور ربع قرن على تلك الوقائع التي ما كان يمكن أن تختفي إلى الأبد في زمن يكثر فيه الحديث عن الذكاء الاصطناعي وفي عدد من المجالات المتنوعة.
وإذا كان هذا الحديث يفتن الناس ويقلقهم في الوقت نفسه، لا شك في أن استعادة ما حدث قبل ربع قرن يعيد إليهم طمأنينة تكاد تكون مفقودة، فهل ثمة ما يمكنه تحقيق تلك الإعادة بقدر ما تفعل التلفزة؟
الشاشة الذكية
لقد كان من الطبيعي أن تلتقط محطة التلفزيون الفرنسية-الألمانية "أرتي" التي تُعتبَر من أكثر محطات التلفزيون ذكاء ونخبوية في العالم الفرصة لكي تكون هي الطرف المبادر إلى ذلك الاستذكار منذ اللحظة التي أطلت فيها مشارف الذكرى السنوية الـ25 لذلك الحدث الضخم في تاريخ الإنسان إذ كلفت الكاتب والمخرج يان إنغلند بتحقيق مسلسل روائي في أربع حلقات يروي الحكاية كلها ولكن بصورة خاصة حكاية الطبعة الثانية من المباراة حاملاً عنواناً في منتهى البساطة هو "ريماتش" (وتعني كما أسلفنا مباراة ثانية، وهنا بالتحديد: مباراة الثأر، مع أن الثأر لم يتحقق كما نعرف، فكاسباروف حقق النصر في الطبعتين).
المهم أن هذا العمل جاء في وقته تماماً، لكنه جاء على صورة عمل تخيلي همه أن يصور من طريق سيناريو روائي تمثيلي كل تلك الأحداث والمجالات وضروب القلق التي استبدت خاصة بكاسباروف الذي كان يعرف منذ البداية أنه لا يحارب الحاسوب الذي يفترض أنه لا يقهر، وحده، بل يحارب أيضاً الرأسمالية المعولمة، وأحدث تجديدات التكنولوجيا وأن عيون العالم كله مفتوحة علية بينما يتمنى له كثر أن يكون الخاسر لمجرد أنهم لا يزالون يعتبرونه ممثلاً لمحور الشر على رغم مرور زمن على سقوط ذلك المحور سقوطاً شنيعاً.
جدلية مثيرة
والحقيقة أن هذه الحالة الجدلية تضعنا في هذا العمل التلفزيوني الفذ الذي يعبر بحلقاته الأربع التي لا تقل مدة عرض كل واحدة منها عن الساعة، بسرعة خادعة، تضعنا أمام واحدة من أكثر المسلسلات التلفزيونية التي شاهدناها في الأعوام الأخيرة ذكاء وإقناعاً.
ولا بد هنا من القول بأن المسلسل قد استفاد من التطور الإنساني للتقنيات التلفزيونية-السينمائية في المجر المعروفة بعراقتها في هذا العالم ولا سيما في مضمار الدفاع عن الإنسان عبر تاريخ فني بات عريقاً، كما استفاد من الخبرة الفرنسية المتراكمة في مجال الإنتاج التلفزيوني.
ولكن لماذا نذكر بالتحديد المجر وفرنسا في هذا السياق؟ فببساطة لأن معظم الذين أنتجوا هذا العمل وأنجزوه أتوا من هاتين الأمتين، ومن هنا لن يكون من المبالغة في هذا السياق الحديث عن شكسبيرية ما، وتحديداً عن الدور الذي رسم بكل عناية للممثل الإنجليزي كريستيان كوك الذي أدى بمهارة استثنائية دور كاسباروف نفسه وكانت سن هذا الأخير تناهز الـ34 يوم أقيمت الطبعة الثانية من المباراة.
ومن هنا وفي سن تقارب سن كاسباروف حينها، طغت على أدائه هاملتية واضحة جعلت الفوز بالنسبة إليه قضية حاسمة ناهيك عن كونها جزءاً من جيوستراتيجية محتمة يُعرَف أن ما هو منتظر فيها يتجاوز كون الأمر مباراة رياضية أو تبارياً في الذكاء.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لقد أتى رسم هذه الشخصية متجاوباً مع ما تعبر عنه من واقع تاريخي واضح أو خفي وذلك بالنظر إلى أن كتاب العمل الثلاثة إنغلند نفسه كمخرج وكاتب ورفيقيه في الكتابة أندريه غولوني وبرونو ناهون، لا يكتفون بالواقع التاريخي حرفياً، بل تجاوزوه ومن بعيد مفتئتين حتى على الحقيقة التاريخيين مخترعين عدة شخصيات لا وجود لها في الواقع ليعطوها أدواراً تكاد تكون رمزية لكي تعزز في حيرة لاعب دور كاسباروف والدوامة التي يدور فيها.
ومن هنا يصبح المسلسل كله عملاً همه ليس أن يستعيد مباراة في الذكاء والرياضة، بل أن يرسم صورة لاحقة لزمن وكيف أن هذا الزمن صنع نفسه سواء كان ما صنعه لخير الإنسانية أو ضدها.
ومن الواضح أن هذا المقترح الذي يقدمه المسلسل يأتي في زمن الأسئلة الكبرى المطروحة في زمننا المربك هذا من حول الذكاء الاصطناعي تحديداً، يأتي ليجعل مسلسل مباراة الشطرنج هذا إسهاماً أكثر من أساسي يتعلق بهذه الأسئلة الكبرى أكثر كثيراً من كونه استعادة لصورة تاريخية لمجرد استعادة البدايات التاريخية للعصر الجديد الذي قد يحلو لكثر أن يروا فيه البداية الحقيقية لزمن الذكاء الاصطناعي.
بقي أن نذكر أن غاري كاسباروف، أحد أعظم لاعبي الشطرنج في التاريخ، وُلِد في الـ13 من أبريل (نيسان) 1963 في باكو، أذربيجان، حين كانت جزءاً من الاتحاد السوفياتي.
أصبح أصغر بطل عالمي في الشطرنج عام 1985 بعد تغلبه على أناتولي كاربوف، واحتفظ بلقبه لعقود بأسلوب هجومي وتحليل استثنائي.
اعتزل اللعبة الاحترافية عام 2005 ليتفرغ للسياسة، إذ انشق عن النظام الروسي وأصبح ناقداً صريحاً لفلاديمير بوتين، مما دفعه لمغادرة روسيا عام 2013. يستقر منذئذ في نيويورك ويستمر في نشاطه كمدافع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، إلى جانب تنقلاته في أوروبا لحضور مناسبات سياسية، يتميز بالشجاعة الفكرية وشغفه العميق بالشطرنج والفكر الحر.