ملخص
تمثل كانتربري بحد ذاتها رمزاً تاريخياً وروحياً، إذ تعد مهد المسيحية في إنجلترا. في عام 597 ميلادية، أرسل البابا غريغوري الأول القديس أوغسطين في مهمة تاريخية إلى الأنغلوساكسون لنشر الدين المسيحي، وهي الخطوة التي جعلت من كانتربري مركزاً للحياة الروحية في بريطانيا.
في دراما مشوبة بالصدمة شهدت كنيسة إنجلترا زلزالاً على رأس قيادتها الثلاثاء، الـ12 من نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري، عندما أعلن رئيس أساقفة كانتربري جاستن ويلبي استقالته المفاجئة. جاء القرار في أعقاب تقرير صادم كشف تستر الكنيسة على اعتداءات جنسية ارتكبها أحد مسؤوليها السابقين ضد شباب وأطفال. وما زاد من تعقيد الوضع هو الاتهامات الموجهة لويلبي بمعرفته بالقضية منذ عام 2013 من دون اتخاذ خطوات حاسمة. واستقالة ويلبي ليست مجرد نهاية لمسيرته، بل لحظة فاصلة في تاريخ هذا المنصب العريق الذي يواجه تحديات غير مسبوقة.
من هو أسقف كانتربري؟
يعد أسقف كانتربري القائد الروحي الأعلى للكنيسة الأنغليكانية، التي تعد إحدى أبرز الطوائف المسيحية عالمياً، وتمثل مزيجاً فريداً من التقاليد الكاثوليكية والبروتستانتية. لا يقتصر هذا المنصب، الذي يعود تاريخه إلى القرن السادس على الدور الديني، بل يتجاوز ذلك ليشمل القيادة الأخلاقية والتمثيل العالمي للاتحاد الأنغليكاني الذي يضم نحو 85 مليون عضو. وفقاً لكتاب "المسيحية في إنجلترا: الأصول والنمو" للمؤلف كينيث كولينز، يمثل أسقف كانتربري رمزاً للوحدة الأنغليكانية ومصدر إلهام لملايين الأتباع حول العالم.
وتمثل كانتربري بحد ذاتها رمزاً تاريخياً وروحياً، إذ تعد مهد المسيحية في إنجلترا. في عام 597 ميلادية، أرسل البابا غريغوري الأول القديس أوغسطين في مهمة تاريخية إلى الأنغلوساكسون لنشر الدين المسيحي، وهي الخطوة التي جعلت من كانتربري مركزاً للحياة الروحية في بريطانيا.
أصبح موقع كاتدرائية كانتربري، منذ ذلك الحين، مقراً لرئيس الأساقفة وموقعاً للحج، بخاصة بعد مقتل الأسقف توماس بيكيت عام 1170 في واقعة سلط كولينز الضوء عليها كحدث تاريخي شكل وعياً جديداً عن الإصلاح الديني والاجتماعي.
الكنيسة الأنغليكانية، التي ظهرت نتيجة انفصالها عن الكنيسة الكاثوليكية في القرن الـ16 خلال عهد هنري الثامن، أصبحت مميزة بمبادئها الفريدة التي تجمع بين الانفتاح الفكري والتسامح مع التنوع العقائدي. وكما تشير المؤرخة آن كارتر في كتابها "الطائفة الأنغليكانية: التاريخ واللاهوت"، فقد منح هذا المزج الكنيسة الأنغليكانية هوية متفردة، مما يفسر استمرار تأثير أسقف كانتربري في المستويين الوطني والعالمي.
من الجذور التاريخية إلى الأدوار الحديثة
ويعود تاريخ منصب أسقف كانتربري إلى عام 597، عندما عين البابا غريغوريوس الأول القديس أوغسطين كأول أسقف لكانتربري، ضمن مهمة لنشر المسيحية في إنجلترا الوثنية. أوغسطين، الذي أسس الكنيسة الأنغليكانية، التي تعرف أيضاً بـ"كنيسة إنجلترا"، و"الكنيسة الإنجليزية"، نجح في جعل كانتربري مركزاً روحياً ودينياً، مما أدى إلى تثبيت مكانتها كمحور للحياة المسيحية في إنجلترا، بحسب بحث "أوغسطين كانتربري واعتناق المسيحية في إنجلترا" الصادر عن مطبعة جامعة "أوكسفورد".
ومع مرور الزمن، توسع دور الأسقف ليشمل قيادة كنيسة إنجلترا سياسياً ودينياً. في العصور الوسطى كان الأسقف مرتبطاً بصورة وثيقة بالبابا، لكنه أصبح رمزاً للاستقلال بعد انشقاق الكنيسة الأنغليكانية عن روما بقيادة الملك هنري الثامن في القرن الـ16، كما تذكر دراسة "الإصلاح في إنجلترا: 1480-1642" عن جامعة "كامبريدج"، إذ أسهم الأسقف في توجيه الطائفة نحو هوية دينية مستقلة.
وأثر اغتيال توماس بيكيت المذكور أعلاه في كاتدرائية كانتربري عام 1170 على يد رجال الملك هنري الثاني، بصورة عميقة، على مكانة المنصب، إذ حول الكاتدرائية إلى وجهة للحج ومركز ديني له رمزيته. في العصر الحديث تولى المنصب أدواراً رئيسة في التصدي لقضايا مثل حقوق المرأة والمساواة الاجتماعية، مما عزز موقعه كصوت للكنيسة في القضايا الأخلاقية والسياسية.
أسقف كانتربري هو الزعيم الروحي للكنيسة الأنغليكانية، ويقود الطقوس الكنسية الكبرى، ويشرف على الأبرشيات في إنجلترا، ويمثل الكنيسة في المؤتمرات الدولية. وعلى رغم استقلال الكنيسة عن البابوية منذ القرن الـ16، يظل الأسقف شخصية بارزة في المجتمع المسيحي العالمي.
وبحسب دراسة "الإصلاح في إنجلترا"، فإن الأسقف يمثل بالنسبة إلى المؤمنين القيم المسيحية العليا ويعمل مرشداً روحياً لهم. وتعد كاتدرائية كانتربري وجهة للصلاة والتأمل، إذ يجد الزائرون في حضور الأسقف طمأنينة روحية تعزز علاقتهم بالإيمان المسيحي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الدين والسياسة في توازن حساس
وكثيراً ما شكلت العلاقة بين الكنيسة والدولة في بريطانيا محوراً مهماً للحياة السياسية والدينية، إذ تمثل كنيسة إنجلترا الكنيسة الرسمية للدولة، ويعد أسقف كانتربري زعيماً دينياً مرموقاً يحظى بتأثير سياسي غير مباشر. يذكر بول أفيز في كتاب "الأنغليكانية والكنيسة المسيحية" أن الكنيسة شاركت تاريخياً في صياغة القوانين والسياسات عبر مجالس الدولة، ولا يزال الأسقف عضواً في مجلس اللوردات بحكم منصبه، إذ يسهم في النقاشات التي تتناول القضايا الأخلاقية والاجتماعية.
وعلى رغم غياب دور سياسي تنفيذي للأسقف، فإن مكانته الروحية تخوله التأثير في الرأي العام، بخاصة في قضايا مثل المساواة الاجتماعية والتغير المناخي وقضايا الهجرة.
يرد في كتاب "دور أسقف كانتربري" الصادر عن مكتبة قصر "لامبيث" أن الأساقفة كثيراً ما يستخدمون المنبر الإعلامي لتسليط الضوء على القضايا التي تتطلب انتباهاً مجتمعياً، مع التركيز على التحديات الأخلاقية التي تواجه الأمة.
تحديات معاصرة: في مواجهة التعددية وتآكل الدين
في العصر الحديث، تواجه الكنيسة الأنغليكانية تحديات كبيرة تشمل تراجع المشاركة في الحياة الكنسية، مع تصاعد العلمانية وتغير نظرة المجتمع البريطاني للدين كعامل رئيس في حياته اليومية.
يذكر بحث "الدين والمجتمع في بريطانيا المعاصرة" عن جامعة "أوكسفورد" أن التعدد الثقافي والديني في بريطانيا يفرض على الأسقف دوراً متوازناً بين الحفاظ على التقاليد الدينية والتكيف مع مجتمع متعدد الأديان. لكن وعلى رغم هذه التحديات فلا يزال أسقف كانتربري شخصية محورية في الهوية البريطانية، ويرى عديد من البريطانيين أن المنصب يمثل رمزاً للتاريخ والثقافة الوطنية.
ويشير جون تشارلز في كتابه "الكنيسة الإنجليزية والشعب" إلى أن الأسقف يجسد القيم المسيحية التي كثيراً ما شكلت أساس الحياة الاجتماعية والسياسية، مع استمرار دوره كصوت للسلام والتماسك المجتمعي.
بين الروحانية والهوية الوطنية
ويمكن النظر إلى دور أسقف كانتربري على أنه نظير لأساقفة آخرين مثل البابا، أسقف روما ورئيس الكنيسة الكاثوليكية، ويتشاركون في كونهم رموزاً روحية ذات أهمية عالمية. ويتمتع البابا بسلطة دينية مطلقة على أكثر من مليار كاثوليكي حول العالم، في حين أن أسقف كانتربري، على رغم مكانته كزعيم روحي للكنيسة الأنغليكانية، يؤدي دوراً أكثر رمزية داخل بريطانيا والكومنولث، إذ يمثل توازناً بين الدين والدولة.
وفقاً لكتاب "علم الكنيسة المقارن" لجيرارد مانيون، فإن تأثير البابا بأسلوبه المركزي يختلف عن أسقف كانتربري الذي يعمل بصورة تعاونية ضمن نموذج لا مركزي.
ويلعب أسقف كانتربري دوراً رمزياً مهماً في تعزيز الوحدة الوطنية والتاريخ المشترك، بخاصة في لحظات الأزمات الوطنية، مثلما حدث خلال الحربين العالميتين عندما كان الزعماء الدينيون يمثلون صوت الضمير الوطني وفقاً لكتاب "الكنيسة الإنجليزية والشعب". أما البابا، فإلى جانب دوره الروحي، فهو رمز للفاتيكان ودولة صغيرة ذات تأثير عالمي.
في العصر الحديث، تؤثر وسائل الإعلام بصورة كبيرة في صورة الأسقف الذي يعتمد على الإعلام لإيصال رسائل عن قضايا أخلاقية واجتماعية، بينما يواجه أيضاً انتقادات ودعوات لتحديث الكنيسة. كذلك تسهم وسائل الإعلام في إبراز دوره كرمز للوحدة، لكنها قد تكشف أيضاً عن التحديات والتناقضات. في المقابل، يتعامل الفاتيكان مع الإعلام كأداة لبث الرسائل الدينية والتقريب بين الثقافات، كما أوضحت دراسة عن الإعلام والسلطة الدينية في دورية "التواصل الديني".
منصب أسقف كانتربري هو بلا شك منصب متميز يجمع بين الأبعاد الدينية والسياسية والاجتماعية، لكن كما أظهرت الأحداث الأخيرة، لا يمكن لأي منصب مهما كانت هيبته أن يكون محصناً من الانتقادات والتحديات. وكما أشار أومبيرتو إيكو في روايته "اسم الوردة" الصادرة عام 1980 "إذا أخطأ الراعي، فيجب عزله عن الرعاة الآخرين، ولكن الويل لنا إذا بدأت الخراف في عدم الثقة بالرعاة".