ملخص
يمثل كتاب " مصر يا عبلة " للفنان التشكيلي المصري محمد عبلة وثيقة مهمة تكشف عن التحولات التي مر بها المجتمع المصري، منذ نهاية الستينيات حتى منتصف الثمانينيات. ويبرز الكتاب المؤثرات الفنية التي انعكست على تجربة الفنان منذ تعلقه بالرسم في المدرسة الابتدائية وطوال سنوات دراسته، حتى حصوله على أول منحة دراسية له خارج مصر أوائل ثمانينيات القرن الماضي.
تبدو مفردة التفاصيل واحدة من أهم مفاتيح التعامل مع كتاب "مصر يا عبلة" للرسام محمد عبلة، الصادر حديثاً عن دار الشروق، وهي الكلمة التي تشكل السر الأهم في التعاطي مع مضمونه الشيق، وبفضل تنوعها يستطيع المتلقي التعامل مع مختلف طبقات الكتاب. فهناك طبقة تركز في محتواها على مشكلات تعلم الفنون في مصر، منتقدة علاقات التراتب داخل الوسط الأكاديمي، إذ يجري أحياناً تجفيف منابع المواهب الشابة لدوافع مختلفة، تعطل مسار تلك الموهبة وتقلص حضورها.
يبدو للقارىء منذ الصفحات الأولى حجم المغامرة في مسيرة الفنان الذي باشر بترك الدراسة في الكلية الحربية من دون علم والده، وذهب بملف أوراقه إلى الالتحاق بكلية الفنون التطبيقية التي غادرها بسرعة، بعد أن أدرك أنها لا تلائم شغفه بدراسة الفن التشكيلي. يعدد عبلة الصعوبات التي مر بها استجابة للهاجس الذي قاده ناحية هذا الاختيار، ويشير إلى استعداده لدفع الأثمان التي يستلزمها احتراف الفن في بيئة لم تكُن مستعدة لتقبل مثل هذا الاختيار، حين كانت تسود النظرة التقليدية التي تحكم تعامل بعض العائلات مع رغبات أبنائهم في تعلم الفن أو احترافه.
الأب الذي نتعرف إليه في الكتاب يكافح في أعمال التجارة وينجح فيها، لكنه يقاوم بدوافع سلطوية، رغبة الابن في دراسة الفن ساعياً الى تأمين حياته بالالتحاق بالكلية الحربية، ويقول للابن بعد الكشف عن حيلته "شهور وأنا أنتظر عودتك ببدلة الضابط لأتباهى بك أمام الناس، ألا تفكر في مستقبلك؟". وتعكس تلك العبارة المكانة الرمزية التي نالها الضباط في مصر عقب وصول الضباط الأحرار إلى السلطة عام 1952.
يتحرك الكتاب وسع نسيج سردي متناغم يحفل بالتفاصيل الممتعة التي تربط صوت الذات القلقة للفنان مع التحولات التي مرت بها مصر خلال فترة قلقة أيضاً، أعقبت وفاة الرئيس جمال عبدالناصر وبدايات حكم الرئيس السادات. وشهدت تلك الأعوام خيارات صعبة تمثلت في التوجه نحو الانفتاح الاقتصادي ومخالفة مسيرة عبدالناصر في التخطيط الاشتراكي أو ما يسمى "رأسمالية الدولة"، وفي التعامل مع إسرائيل والميل ناحية تسوية هذا الصراع وفق الشروط الأميركية بعد ما تحقق من نصر خلال حرب أكتوبر 1973.
التحولات الشاملة
وانطلاقاً من تجربته، يظهر عبلة كذلك صور التحولات المجتمعية التي أدت إلى نمو الحركات الأصولية المنتمية إلى جماعات الإسلام السياسي بعدما استدعاها نظام السادات بغرض الحد من أثر اليسار والحركات الناصرية داخل الجامعات. وكما هو معلوم، فإن تأثير تلك الجماعات امتد ليحكم مناهج التدريس داخل بعض الكليات، وبالذات كليات الفنون التي توقفت غالبيتها عن تدريس الموديل وفنون التجسيد، واقتصرت مناهجها على تدريس فنون التجريد والزخرفة لأعوام.
غير أن الصورة التي ينقلها عبلة لم تكُن قاتمة تماماً، فهناك كثير من الدروس استقرت في رأسه واحتفظ بكثير من تفاصيلها، لا سيما لمحاضرات التي حرص على تلقيها في قسم الفلسفة، في جامعة الإسكندرية مع الأكاديميين حسن ظاظا وأحمد أبو زيد أستاذ الأنثروبولوجيا المعروف، فضلاً عن دروس زكي إسكندر الذي علمه تكنولوجيا التصوير وعناصر السحر في خلط الألوان، وهو لا يزال يحتفظ بكراسات محاضراته إلى الآن و بصور أرشيفية تضمنها الكتاب عن تجارب تلك الأعوام.
ويبدو موفقاً جداً، اختيار عنوان الكتاب الذي يمثل عتبة نصية دالة في التعامل مع محتواه. فالعبارة التي نطق بها الممثل الراحل محمود ياسين في نهاية فيلم "الصعود إلى الهاوية" للمخرج كمال الشيخ، استعملها الفنان ليمزج اسمه مع المحتوى، مؤمناً بأن تجربته ما هي إلا انعكاس لما عاشته بلاده من تحولات. ويشير عبلة في أكثر من موضع إلى محاولاته التي لا تنتهي في التغلب على الظروف التي حاصرت طموحه، ودفعته إلى العمل خلال سنوات الدراسة في مهن عدة تقع على هامش ممارساته الفنية، لكنها أكسبته الخبرة الضرورية في التعايش مع المحيط العام. ومن بين تلك المهن كتابة اللافتات والعمل في مصلحة الموازين والعمل لفترة قصيرة رساماً صحافياً مع أنيس منصور.
تجارب وحكايات
ويستدعي الفنان صاحب التجارب المتنوعة بعض الحكايات التي عاشها، وتبدو ذات نزعة غرائبية، تركت أثراً في تجاربه مع السرد البصري، فلا يمكن للقارىء تخطي الجانب الفانتازي في علاقة عبلة مع "الشاعر الذي ينتحر كل يوم"، ومع فريق اليوغا وتجربة الذهاب إلى الموت والعودة منه، أو شرب "الكابتشينو" للمرة الأولى، ثم مقابلة فتحي البوسطجي...، وكلها تجارب تشكل كنزاً إنسانياً بالغ الثراء، فضلاً عما تقوم به من "تحفيز للعقل والخيال وتعزيز للتأمل"، وتشير إلى مقاومة الجانب البوهيمي الذي لم يقبله محمد عبلة كخيار في الفن أو الحيلة لأن "الفقر عدو الفن"، كما يقول.
يحفل الكتاب بكثير من التفاصيل التي تشير إلى الفضاءات الثقافية التي اكتشفها عبلة في القاهرة، ومنها "أتيلييه" القاهرة ومقهى زهرة البستان، وكانت غنية بأسماء في سبيلها إلى التحقق والانطلاق مثل القاص يحيي الطاهر عبدالله والشاعر أمل دنقل أو الفنان التشكيلي صلاح عناني. وهناك جانب يلح عليه الكتاب، يتعلق بشخصية عبلة وما تتميز به من دأب غلب عليها منذ الشباب. فقد "صب كل طاقته في القراءة والرسم والبحث عما يشغل وقته ويضيف إلى تجاربه"، وطوال حياته يقول عبلة "لم ينقطع قلقي الشخصي، ولم تتوقف شكوكي، وواصلت حيرتي في البحث عن أجوبة لأسئلة كثيرة في الفن والمعتقد". كذلك اهتم عبلة مبكراً بتعلم اللغات وثم اكتساب خبرات لم يملكها الآخرون، أتاحت له في ما بعد، مزيداً من الفرص للدراسة وعرض أعماله خارج مصر.
تبرز عبر صفحات الكتاب أسماء كبيرة في الحركة التشكيلية المصرية بداية من سيف وانلي، مروراً بمنير فهيم وكامل مصطفى وحسين بيكار وكمال الملاخ وحامد ندا، وكلهم ساندوا الفنان في بداياته وقدموا له مختلف صور الدعم والمساندة. وفي المقابل، هناك حالات من الصراع وجدها لدى فنانين آخرين، أبرزهم حامد عويس الذي حاول الوقوف أمام تعيين محمد عبلة معيداً في قسم التصوير في جامعة الإسكندرية، عقب تخرجه على رغم ارتفاع علاماته الدراسية وتقدير أساتذته.
لا يقتصر جهد عبلة على إشاراته المتكررة داخل الكتاب للأسماء المعروفة، وإنما يمتد ناحية إنصاف تجارب مهمة تراجع الاهتمام بأعمالها مثل المثال أحمد عثمان أو الفنان سعيد العدوي اللذين ماتا باكراً، أو الفنان منير فهيم والاكاديمي ماهر رائف الذي تولى رئاسة قسم الغرافيك وأجرى تغييرات في نظام التدريس وحمله بعضهم مسؤولية وقف تدريس الموديل استجابة لنزعات شاعت في السبعينيات وطالبت بتحريم الفن. لكن عبلة يؤكد أنه قاوم مطالب الطلاب المنتمين إلى الجماعات الدينية التي كانت تطالب بذلك. يكتب عبلة: "كان رائف ضد المنهج الغربي في تدريس الفن ويرغب في تأسيس منهج يقوم على معطيات الحضارة الشرقية". وبخلاف تقدير صور الضعف الإنساني، فإن تلك الإشارات انطوت على لمحات نقدية مبصرة، تتخطى فكرة التعاطف المجاني إلى التحليل النقدي لما تركه أمثال هؤلاء .
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبطريقة غير مباشرة، يمس الكتاب ما جرى في شأن الهوية البصرية للمدن التي تنقل بينها عبلة، ما بين بلقاس قرب المنصورة أو الإسكندرية التي درس فيها، والقاهرة التي استقر فيها أو بغداد ودمشق وبيروت التي زارها طالباً، وهي كانت كلها لا تزال حية وغنية، تفيض بالتألق والنضارة، مما تراجع إلى حد كبير بعد أن فقدت المدن التقليدية حضورها البهي بسبب موجات الترييف التي طاولتها وأدت إلى تدهور خدماتها وانحسار طابعها المدني.
يشير عبلة إلى أن جولاته في شوارع تلك المدن طوال أعوام التكوين، استهدفت القيام بعملية "تغذية" للعين، فهو اعتاد "المشي في طرق كانت تشع جمالاً، تدفعه كل يوم إلى البحث عن طريق مختلف عن الطريق الذي اتخذه في اليوم الذي سبقه، ليعطي نفسه فرصة لتأمل التفاصيل، وأشكال الأبواب والبيوت، وأسماء أصحابها التي كانت تكتب بخطوط عربية جميلة، لم يعُد لها وجود".