ملخص
ربما تأتي عبارة "مصر وإيجيبت" في سياق الأحاديث الساخرة وعقد المقارنات بين مظاهر حياة الأكثر ثراءً وأولئك الأقل حظاً في الثروة والممتلكات، لكنها باتت دليلاً على الفجوة الطبقية العميقة بين قلة تحصل على امتيازات كثيرة وأخرى تناضل من أجل الضرورات، مما يسهم في تقليل الاندماج المجتمعي ويؤثر سلباً في الهوية المشتركة ويدفع باتجاه مزيد من التباعد والانقسام.
باتت ظاهرة الاستعراض الطبقي في مصر مسيطرة تماماً على جميع أنشطة الحياة اليومية، بعقد مقارنات بين من يعيشون حياة مدللة وسواهم ممن يعانون لتوفير الضرورات، وأصبح التعبير الأبرز عن الهوة بين الطبقتين بمقولة انتشرت أخيراً عن الفوارق بين "سكان مصر وسكان إيجيبت".
ونظراً إلى التباين الكبير بين معاني الرفاهية بين الطبقات، فقد بات هذا التعبير يفرق باختصار بين نوعية وجودة المعيشة التي يحياها الأثرياء ونظيرتها التي يعيشها الفقراء أو حتى متوسطو الدخل، وكدلالة ليست في حاجة إلى تفسيرات كبيرة وشروحات مطولة، تعبر بدقة عن الانفصال الشاهق بين واقعين في بقعة جغرافية واحدة.
عالمان منفصلان
لفظ "Egypt" يرى بعضهم أنه مشتق من اسم معبد فرعوني قديم، وبعد وصول البطالمة واليونان إلى مصر تم تعديل الاسم أكثر من مرة ليرمز لاسم البلاد بالنسبة إليهم، ثم اعتمد في اللغة اللاتينية وبعدها في اللغات المشتقة، قبل أن يأخذ مكانته الجديدة ليكون معبراً عمن ينتمون للطبقة المخملية في مصر، كما بات بشكل ما مرتبطاً بفئة معينة من رواد الساحل الشمالي خلال فصل الصيف، الذين عادة يفضلون التحدث بلغات غير العربية، لوضع مسافات وحواجز مبدئية عن بقية أفراد الشعب.
بالطبع فكرة الحكم المطلق هنا والاختصار التعريفي الشديد قد تبدو مخلة أو حتى مبالغاً فيها، بخاصة أن الأثرياء ليسوا جميعاً بمواصفات واحدة، كما أن الأقل دخلاً متنوعو المستويات أيضاً، لكن المؤكد أن هذا التعبير الذي استحوذ على الاهتمام ويحضر بقوة في الأحاديث اليومية، يعبر عن الشعور بتنامي موجة الانفصال الشديد بين الطبقات، فبعد أن كان هناك كثير من المشتركات التي تدعم الهوية، باتت أشكال التباعد متزايدة بطريقة ملحوظة، ولهذا فإن "مصر وإيجيبت" يعدان عالمين منفصلين تماماً وفقاً للتقسيمات الطبقية الحادة في المجتمع.
الطبقية المتوحشة
ووصف المتخصص في علم الاجتماع بجامعة القاهرة والمتخصص في الأنثروبولوجيا الثقافية الدكتور سعيد المصري، التباعد الشديد بين بعض الفئات بأنه نوع من "طبقية متوحشة"، لها أشكال متنوعة غالبيتها تتعلق بالنزعة الاستهلاكية المبالغ فيها، مشيراً إلى أن "الحديث المتزايد عن مواصفات سكان ’إيجيبت‘ مقابل مواصفات سكان مصر، ربما يعتبر ضمن ظواهر الرأي العام وليست الظواهر الاجتماعية البحتة". وهو في رأيه "مجرد تجل واحد لأزمة الطبقية، بينما المشكلة الكبرى أعمق من هذا"، ضارباً المثل بما يطلق عليه، مدن الأسوار، المقصود بها التجمعات السكنية المغلقة، إضافة إلى الدفع في اتجاه الاستحواذ على أكبر قدر من الممتلكات والسلع غير المهمة. وأضاف أن "كثيراً من مظاهر الحياة السعيدة والمثالية التي يروج لها إعلانياً وإعلامياً قائمة على فكرة تعزيز الفروق الطبقية، فمنذ أربعة عقود يجنح كثر للعزلة الاختيارية في التميز وتحاشي الاحتكاك بالآخرين خوفاً من أن تصيبهم عدوى ثقافات يرفضونها وأملاً في اكتساب أخرى تمنحهم الوجاهة"، لكنه شدد أيضاً على أن "البعض ممن اختاروا هذه العزلة السكنية، لا يسعون إلى التعالي الطبقي بقدر ما يسعون إلى الهدوء والراحة والأمان وتحسين نوعية الحياة بعد أن ضاقت القاهرة بسكانها".
كتاب "تراث الاستعلاء" الذي يبحث في دور الموروثات الشعبية والمعتقدات الدينية في تشكيل البناء الطبقي للمجتمع، للأكاديمي سعيد المصري ينبه لأخطار هذا التباعد الطبقي بين الفئة التي لديها حظوة اقتصادية وتلك الأقل في كل شيء، إذ يُقسم البشر بناء على اعتبارات اقتصادية. ويرى المصري أن الفجوة الكبيرة المغذاة بسلوكيات تفرق بين المجموعات تمثل ضرراً في نسيج المجتمع وتؤثر سلباً في مدى تماسكه، بل تمثل توجهاً يدفع إلى الانقسام وعدم التمسك بالهوية، إذ لا تعود العادات والتقاليد متقاربة على رغم أن الجميع يعيشون على أرض واحدة وتحت السماء نفسها.
حلم العيش في "إيجيبت"
المؤكد أن فكرة "الكومباوند" نفسها كنمط سكني باتت شائعة بل وضرورية في بعض الأوقات بخاصة في بعض المناطق الجغرافية النائية، إذ تعد وسيلة للتأمين والحماية، إضافة إلى أن تنامي عدد السكان (وصلوا إلى 107 ملايين نسمة)، دفع الدولة نفسها إلى التوسع في إنشاء مشروعات الإسكان، وبعض منها قائم على فكرة التجمعات السكنية حتى لو كان موجهاً لمتوسطي الدخل.
"الكومباوند" لم يكن في حد ذاته دلالة على الطبقية فهو نمط سكني متعدد المستويات والأسعار، لكن الحديث عادة يكون متعلقاً باتخاذ هذا النمط السكني كوسيلة للتقوقع، والعيش في فقاعة تضمن عدم التعرض بأي شكل سواء سلبياً أو إيجاباً لمن يعيشون خارج أسوار هذا التجمع، أي انفصال كامل عن واقع غالبية من يعيشون في الوطن نفسه، إذ وصل الأمر إلى أن بعض سكان التجمعات السكنية التي تباع الوحدات فيها بمبالغ تصل إلى مليون دولار، ينشئون نوادي رسمية خاصة بعشرات الأشخاص فحسب، بخلاف النوادي الترفيهية المعتادة التي يلتقي فيها باقي سكان "الكومباوند"، أي إن فكرة الحصرية والانعزال باتت مسيطرة إلى حدود لم تكن منتشرة من قبل، وبالطبع هي تستخدم لاستعراض القدرات المالية، وهذا النمط من السلوكيات، يكون بمثابة نموذج مثالي لتعريف سكان "إيجيبت" وليس مصر بالنسبة إلى عموم الجماهير.
ما الذي تغير؟
يقول الشاعر والباحث في التراث الشعبي صلاح سليمان، إن هوس الناس بالسكن في التجمعات الفاخرة المحاطة بالأسوار والمنعزلة تماماً، بالفعل نابع من رغبتهم في التميز الطبقي ومن ثم بات بعض الناي يطلق عليهم "سكان إيجيبت"، منوهاً بأن مكان العيش أصبح يستخدم أخيراً لهذه الدلالة، ومذكراً بأنه قبل عقود كان جميع المصريين بمن فيهم شديدو الثراء يعيشون في مناطق جغرافية متاخمة بشدة لبعضهم بعضاً، مما يزيد من الروابط بينهم، نظراً إلى زيادة العوامل المشتركة، إذ يتعرضون لمشكلات مشابهة في محيط السكن نفسه ويحصلون على خدمات مرفقية بالمستوى نفسه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويشير سليمان إلى أنه "حتى البناية السكنية الواحدة كان يمكن أن يسكن فيها العامل البسيط والثري المرموق، من دون أي حساسيات أو أزمات أو تعال طبقي، وكان جميع الأطفال يلهون في الساحات نفسها، مما يعزز من قوة الشعور بالهوية الوطنية، مشدداً على أن الأمور تغيرت تماماً بعد أن تبدلت المفاهيم وصار التشبه بثقافات غريبة ودخيلة مرادفاً للرقي، وهو فهم قاصر وخاطئ تماماً".
الرعب من "الآخرين"
بخلاف فكرة مكان المعيشة، فإن هناك بعضاً من الصور الذهنية التي باتت مرتبطة بشكل وثيق بمن يطلق عليهم سكان "إيجيبت"، تتوافق مع نسبهم إلى اسم مصر وفقاً للفظ الإنجليزي، منها أن أطفالهم ومراهقيهم يحصلون على مصروف يد مكون من ثلاثة أصفار بشكل اعتيادي في ظروف كثيرة، ويمتلكون وحدات فارهة على غالبية شواطئ البلاد الأكثر تميزاً، ويتنقلون بين عواصم أوروبية عدة للتنزه، ويدفعون مبالغ طائلة مقابل الحصول على امتيازات إضافية ومرافق وخدمات بمستوى أفضل، ويتمتعون بتسهيلات ليست متاحة للجميع، فقط من أجل تقليل الاحتكاك بينهم وبين "الآخرين" كمحطات المياه الخاصة التي تختلف عن تلك التي تقدم خدماتها لباقي سكان المحافظة التابعين لها، إضافة إلى أمور أخرى تصنف على أنها غير ضرورية بالمرة، لكنها تشبع لديهم هاجس التميز.
يتحدث أستاذ الأنثروبولوجيا سعيد المصري هنا عن جانب مهم يتعلق بنوعية الأثرياء، مفرقاً بين هؤلاء الذين هبطت عليهم ثروة من دون مجهود بشكل مفاجئ، مضيفاً "مصدر الحصول على الثروة وزمن الحصول عليها يشكلان فارقاً كبيراً، فالأثرياء الذين استغرقوا أجيالاً ليراكموا ثرواتهم، هم عادة متسقون اجتماعياً وثقافياً واقتصادياً في أساليب حياتهم ولا يعنيهم إثبات المكانة ولا يشعر بوجودهم أحد، ولا يحبون التصرفات الدعائية التي تعلن عنهم، لكن أولئك الذين حصلوا أموالاً هائلة من مصادر غير إنتاجية أو بطرق غير مشروعة، يكون لديهم هاجس محاولة إثبات أنهم صعدوا اجتماعياً وارتقوا طبقياً، فالأغنياء الجدد لديهم شعور متضخم بالمكانة يحاولون التعبير عنه". ويضيف "الفجوة التي تحدث لدى الأغنياء الجدد بين صعود اقتصادي ومالي مفاجئ مع استمرار خصائصهم الثقافية الأقل في المستوى الطبقي، هؤلاء يضعون قدماً في طبقة أعلى وقدماً أخرى في طبقة أقل - غالباً وسطى، هؤلاء هم الأكثر قلقاً على المكانة ويسعون دائماً إلى المبالغة المستفزة بالتظاهر الفج بالوجاهة والاستهلاك والإنفاق البذخي أمام الناس لإثبات كونهم أغنى وأجدر بالتميز الطبقي".
ويلفت المتخصص في علم الاجتماع النظر إلى أنه ينبغي الحذر في ما يتعلق ببعض الممارسات المبالغ فيها والمتعلقة بفئات بعينها ممن يستعرضون مدى ثرائهم، إذ يرى أنها ربما تكون مزيفة وتحمل كثيراً من الأكاذيب والتلاعب، وتمثل نوعاً من الدعاية لأسلوب حياة شديد الرفاهية يتم فيه إنفاق مبالغ غير منطقية على أشياء بسيطة، إذ قد تهدف تلك السلوكيات إلى استفزاز المتابعين في مجتمع متوسط الدخل به ضعيف مقارنة بالمعدلات العالمية، وذلك من أجل لفت النظر لا أكثر.
قضية قديمة لكن
الملاحظ أيضاً أن الدراما المصرية باتت تعتمد بشكل كبير على عالمي "إيجيبت ومصر" في تفجير المواقف الكوميدية الزاعقة بين الشخصيات المتحدرين من أصول طبقية مختلفة، وتعتمد شركات الإنتاج على الترويج لأعمالها من خلال تدوينات مختصرة على مقاطع فيديو تتبنى هذا المصطلح، مما يعني أنه بات مترسخاً بشدة في الأذهان، لأنه يستحضر على الفور صوراً صارخة التناقض بين مظاهر الحياة والمأكل والملبس وطريقة الحديث ومعدل الإنفاق وطبيعة المهنة وعدد الممتلكات، وهي تفاصيل من دون مجهود كبير تدعم الخطوط الدرامية سواء كانت تراجيدية أو كوميدية.
اللعب على العالمين المتضادين طبقياً كثيراً ما كان تيمة مفضلة للأعمال الفنية في مصر منذ بداياتها، ففي فيلم "غزل البنات" إنتاج 1949، يذهب "الأستاذ حمام" معلم اللغة العربية الذي يعيش في فقر وبؤس وجسد شخصيته نجيب الريحاني ليعطي دروساً لابنة الباشا الثري ليلى مراد.
وينوه المصري بأن الفروق الطبقية موجودة طوال الوقت، وبدأت في التصاعد بصورة ملحوظة في سبعينيات القرن الماضي مع سياسة الانفتاح، لكن مظاهرها أصبحت أكثر خطورة في السنوات الأخيرة، بانتشار السلوكيات المثيرة للحنق من دون أن يدرك أصحابها تبعاتها على الآخرين، مما يجعل الاضطراب في ميزان العدالة الاجتماعية أكثر بروزاً، ويشرح المصري وجهة نظره بصورة أكثر تفصيلاً "المجتمعات المتقدمة هي التي تعمل على فكرة الاندماج الاجتماعي وليس الاستبعاد وعدم الاختلاط، فهذه الظواهر تدعو إلى الانقسام بين الناس، وليس المواطنة والتماسك".