ملخص
لا يتوافق المفكرون والفلاسفة على تعريف دقيق لمفهوم العداوة على رغم شيوع استخدام المصطلح في الصراعات بين البشر. تحاول هذه المقالة إلقاء بعض الضوء على هذا المفهوم، ولو بهدف إظهار الالتباسات المرتبطة باستخدامه والإيضاحات الجزئية التي تناولته.
من هو العدو؟ وما المقصود بتعبير "العداوة"؟
في استخدامه العادي يشير مصطلح "العداوة" إلى حال من الخصومة والصراع بين طرفين أو أكثر، أي إلى شكل معين من العلاقات السلبية بين البشر، فنقول مثلاً هذا عدو لدود. ويمكن استخدام هذا المصطلح للإشارة إلى علاقات التنافر بين الكائنات الحية وغير الحية، كأن نقول إن الدبور عدو طبيعي للنحلة أو إن الماء عدو النار أو أن الخير عدو الشر.
في كتب الديانات التوحيدية المقدسة يتكرر استخدام هذا المصطلح للإشارة إلى كل كائن يعارض مشيئة الله. فقد يكون العدو كائناً كالشيطان أو كالناس الذين يتبعون طريقه. تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن كلمة الشيطان مشتقة من جذر سامٍ يعني المعارض أو المعرقل أو المفرق. وبهذا المعنى، تقول النصوص المقدسة إن كل من عمل ضد مشيئة الله هو عدو شيطاني.
لكن هذا المصطلح استخدم أيضاً من قبل بعض فلاسفة ما قبل سقراط، كهيراقليطس وأمبيدوكليس أو من قبل أفلوطين، فيلسوف الأفلاطونية الحديثة بامتياز، للإشارة إلى مبدأ ميتافيزيقي يلعب دوراً في نشأة وفساد الكائنات. ففي تأملاتهم الكونية، وصف هؤلاء الفلاسفة هذا المبدأ كنوع من القوة المحايدة أخلاقياً تضع العناصر في حركة تؤدي إلى تفرقها أو تجمعها. ففي شذرات هيراقليطس يظهر مبدأ العداوة كالحركة أو القوة الوحيدة التي تحكم أحداث الكون. أما في كتابات أمبيدوكليس وأفلوطين، فيظهر هذا المبدأ كقوة للتفريق أو التنافر، تؤثر في العناصر من خلال تفاعلها مع مبدأ معاكس.
يستخدم أرسطو أيضاً هذا المصطلح في كتاب "الحيوان" لوصف العلاقات العدوانية بين كائنات من النوع نفسه أو من الأنواع المختلفة. كذلك يلجأ داروين في كتابه "أصل الأنواع"، إلى هذا المصطلح لوصف ما يهدد بقاء الفرد.
صراع ومقاومة
لننظر الآن لمعنى هذا المصطلح في العلاقات بين البشر والذي يستخدم في إطار الصراعات الشديدة بين طرفين أو أكثر. فالصراع أولاً عبارة عن علاقة بين الأشخاص تتعارض فيها تصرفاتهم، بحيث يكون التوجه المتبع هو مقاومة الآخر بغية التغلب عليه. وتقاس حدة الصراع من خلال استعداد المتصارعين لتعليق القيم والتضحية بحياتهم وممتلكاتهم بهدف هزيمة الآخر الذي يوصف كعدو. هذا يعني أن مفهوم "العداوة" يظهر حين يعتبر المتصارعون القضية التي يتصارعون من أجلها قضية جدية "غير قابلة للتفاوض" أو حين يعتقدون بوجود اختلافات جوهرية فيما بينهم، مما يؤدي إلى نزع الطابع الإنساني عن الآخر والتعامل معه بعنف. هكذا تصبح هزيمة الآخر أو قتله جسدياً أو معنوياً أمراً مباحاً. وما ارتباط مفهوم العداوة بمفهوم الحرب، إلا للدلالة على أن الحرب هي التعبير الأمثل عن أشد أنواع العداوات والصراعات بين الأفراد أو الجماعات.
يستخدم إذا مصطلح العداوة لوصف كائن أو جماعة يمثل وجودها أو سلوكها خطراً على وجود الفرد أو الجماعة الأخرى. وقد ميز القانون الدولي بين نوعين من الأعداء: العدو الخاص والعدو العام. وغالباً ما ترافق هذا التمييز مع تأملات حول الحرب تعود إلى بدايات الفكر الغربي في اليونان القديمة كتلك الواردة في "جمهورية" أفلاطون. فالعدو الخاص أو الشخصي هو العدو الذي يسعى لإلحاق الأذى بالآخر مستمتعاً بذلك، أما العدو العام فهو العدو الذي يتمسك بحقوقه، سواء كانت صحيحة أو مزعومة ويستخدم القوة المسلحة في سبيل الدفاع عنها. ولئن كان العدو الأول يغذي في نفسه البغض والكراهية تجاه الآخر، فإن العدو الثاني لا يحمل بالضرورة في نفسه هذه المشاعر، بل يسعى لتبيان حقوقه والدفاع عنها. لكن العداوة لا تنحصر في الجهة التي تتعدى على الحقوق. ذلك أن الإنسان قد يصطنع له عدواً من خلال الخلل في العلاقات التي يقيمها مع أقرانه. بهذا المعنى يتشظى مفهوم العداوة في أكثر من اتجاه، كأن يعجز الفرد عن تمييز عدوه عن صديقه، فيقوم بسلوك عدواني تجاه غير الأعداء.
في القرن الـ20 اقترح المفكر الألماني كارل شميت (1888-1985) تعديلاً على التصور الكلاسيكي القانوني لمفهوم العدو. فإلى جانب احتفاظه بالتمييز القانوني بين العدو الخاص والعدو العام أو السياسي، أضاف شميت أن مفهوم العداوة بالنسبة إلى مجتمع معين لا يعني فقط التعارض مع جماعة أخرى في إطار صراع مسلح، بل إن هذا المفهوم يشمل أيضاً كل مجموعة ترى في جماعة أخرى خطراً يهدد وجودها. ويؤكد شميت أن التهديد ليس بالضرورة تهديداً عسكرياً، إذ يكفي أن تعلن جماعة ما عن احتمال قيام صراع مسلح بينها وبين الجماعة التي تهددها، لينظر إلى هذه الجماعة كجماعة عدوة. يقول شميت إن الحرب تنبع من العداوة، والعداوة هي الإنكار الوجودي للآخر، والحرب هي التحقق النهائي لهذه العداوة. بالتالي، إن التعرف على العدو يعني أن المجتمع الذي يحدد عدوه يبدأ بالاستعداد للحرب ضده كخيار أخير لحماية وجوده، علماً أن شميت يشدد على أن القرار في شأن تحديد العدو هو من اختصاص أعلى سلطة في المجتمع والدولة.
مفهوم العدو
من زاوية قانونية يصبح مفهوم العدو مرادفاً إذا للجماعات السياسية المشاركة في صراع عنيف، ويصبح العدو العام العدو الحقيقي الوحيد الذي يحسب له حساب في التفكير بالحرب، لأنه يهدد وجود المجتمع ويجب مواجهته عسكرياً. أما العدو الخاص فيتبدى من وجهة نظر قانونية كظاهرة ثانوية. فهو عدو بسبب مشاعر شخصية أو رغبات معينة تعرقل أعمال العقل في ضبط وتوجيه العلاقات بين الناس. من هذا المنطلق، لا يخوض الأعداء الخاصون حروباً، بل نزاعات صغيرة، وهم لا يتقاتلون، بل يتشاجرون. يكتب سبينوزا في "الرسالة اللاهوتية السياسية" قائلاً إن الشخص الذي يقود نشاطه وفقاً للعقل سيكون في مأمن من سلسلة من الشرور الكبرى، وعلى رأسها العداوة. وكذلك فعل جيريمي بنثام في فلسفته النفعية حين ذكر العداوة كواحدة من المصادر الأساسية للآلام والشرور، لكن مفهوم العداوة في الفكر الفلسفي ليس دوماً ظاهرة ضارة، ذلك أن بعض استخداماته تقدم العداوة، دون إنكار طابعها الخطر، كعلاقة قد تكون مفيدة للأطراف المعنية. هكذا يرى بلوتارخوس وميكافيللي أنه يمكن للعداوة أن تحقق فوائد لا يمكن لأي شكل آخر من العلاقات تحقيقها. يكتب بلوتارخوس الفيلسوف والمؤرخ اليوناني صاحب كتاب "السير المقارنة لعظماء اليونان والرومان" وكتاب "الأخلاق" قائلاً "إن أكثر ما في العداوة من ضرر يمكن أن يصبح الأكثر فائدة، إذا تم الانتباه إليه.
فعدوك يراقب تصرفاتك، وهو في حالة تأهب دائم، يبحث عن نقطة ضعف، ويحيط حياتك من كل الجهات". والعدو هو المنافس في ميدان الحياة والسمعة، يراقب تصرفاتنا ويتأمل أفعالنا. وبهذا، يمكن لوجود الأعداء أن يسهم في تحسين تصرفاتنا كأن نسعى بفضله لأن نصبح بلا عيب. ولعل العدو أكثر فائدة من الصديق، لأن الصداقة بحسب بلوتارخوس "ثرثارة في المديح وصامتة في النصيحة". أما ميكافيللي فينظر إلى العداوة من الناحية السياسية. ففي كتابه "الأمير" أكد الفيلسوف أن القدر، عندما يرغب في رفع أمير جديد، يخلق له أعداءً ويشعل المكايد ضده، كي يتاح للأمير الجديد التغلب عليهم. وعلى الأمير الحكيم أن يغذي بمهارة بعض العداوات، حتى إذا ما تغلب عليها، نال مزيداً من الثناء. وثمة رؤية فلسفية أخرى للعداوة ترى فيها مساحة أساسية لتحرير الطاقات البشرية كما في فكر نيتشه.
إلى جانب هذه الأطروحات الفلسفية، بينت بعض الأبحاث التي تناولت مفهوم العداوة أن نشوءها بين البشر يعود إلى قوى تدفعهم إلى العدوانية. ففي بعض الأحيان يكون المتصارعون إما غير مدركين لهذه القوى أو مدركين لها جزئياً. وقد حاول بعض المفكرين تحديد هذه القوى أو الدوافع التي تؤدي أحياناً إلى إصرار الفاعلين على خوض صراعات قد تبدو غير عقلانية. فعلى سبيل المثال لا الحصر، حاولت الدراسات الإيثولوجية تفسير العداوة بين البشر كواحدة من الوظائف التي تدخل في عملية التطور لدى الكائنات. إذ يفترض أن عدوان الحيوانات تجاه أقرانها له وظيفة تطورية (أي توزيع المساحة بشكل متوازن، واختيار الفرد الأقوى للتزاوج والإنجاب، واختيار الفرد المقاتل من المجموعة) تستجيب، إن صح التعبير، لبرنامج مسجل في جينات بعض الحيوانات. أما في سياق دراسة النفس البشرية، فيعزو ويليام جايمس النزعة العدوانية القتالية لدى الإنسان إلى البيولوجيا، مشدداً على أن البشر هم أكثر عدوانية وشراسة من كل الحيوانات المفترسة. وبدوره يعزو سيغموند فرويد العداوة بين البشر إلى غريزة الموت أو ثاناتوس، وهو مصطلح صاغه المحلل النفسي لوصف الغريزة الأساسية تجاه الدمار والعدوان الموجودة لدى جميع البشر. وهذه الغريزة عنده فطرية، توازنها غريزة الحياة أو إيروس وهي الرغبة في الحفاظ على النفس والآخرين.
غريزة الموت
ويشدد فرويد على أن غريزة الموت يمكن أن تظهر بطرق مختلفة، بما في ذلك العدوان وإيذاء النفس والتفكير في الانتحار. ويهدف العلاج التحليلي النفسي في رأيه إلى استكشاف العقل اللاواعي لفهم الأسباب الجذرية لهذه السلوكيات المدمرة والعمل على حلها. فوفقاً لفرويد، يتجلى دافع الموت في أشكال مختلفة من عدوانية الإنسان تجاه قرينه. كما تعزو نظرية رينه جيرار حول "العنف والمقدس" العداوة القاتلة إلى المحاكاة التي تدفع البشر أولاً إلى الرغبة اللاإرادية بشيء يرغب به الآخر، ومن ثم إلى التنافس للحصول على الشيء المرغوب به والذي لا يمكن تقاسمه. بمعنى أن الرغبة هي رغبة في شيء يفتقر إليه الراغب نفسه، في حين أن شخصاً آخر يمتلكه. لكن المحاكاة المقترنة بالرغبة تؤدي دوماً إلى الصراع، ذلك أنه كلما كان النموذج قابلاً للتقليد، كلما شكل عائقاً أمام تحقيق الرغبة، لدرجة أن الأمر ينتهي بالراغب إلى كره الآخر ومحاولة قتله. وبما الأشياء التي يمكن أن تكون موضوع رغبة مشتركة، يقبل بعضها المشاركة فتتولد مشاعر التعاطف بين البشر، بينما لا يقبل بعضها الآخر المشاركة، فيتولد التنافس، بالتالي الغيرة والحسد والكراهية وتطلق دوامة الانتقام التي توصل إلى العنف والحروب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إن بعض التفسيرات الفكرية المتعددة للعداوة تؤكد أن النزاعات والصراعات الشديدة تنتج من قوة تدفع الناس إلى تبني موقف عدائي تجاه أقرانهم. ولعل هذه القوة سابقة على مقاصد الناس، وهي مستقلة نسبياً عن وعيهم. بعبارة أدق، فإن المسؤولين عن العداوة ليسوا الفاعلين أنفسهم، بل شيء أقدم أو أعمق من إرادة ووعي الذين يتقاتلون أحياناً مع أقرانهم حتى الموت. بينما تركز بعض التحليلات والتفسيرات الأخرى للعداوة على الأسباب التي يتبعها الفرد بوعي عندما يحدد الآخر كعدو ويشارك في صراع عنيف ضده. وبغض النظر عن مسألة صحة هذه الأسباب أو عدمها، يلاحظ أن كل طرف يعد دوافعه إلى التصرف بعدائية تجاه الآخرين صائبة وعادلة، فيميل إلى إضفاء صفات الشر أو اللاعقلانية على الطرف الآخر. وعلى رغم أن هذا النوع من التفسير لمفهوم العداوة يتطلب تجذراً في ظروف محددة، إلا أنه يسعى إلى الكشف عن المنطق العام للصراعات، ويقدم أدوات تساعد في الكشف عن سوء الفهم الذي يؤجج غالباً التنافر بين البشر. هذا النوع من التفسير يظهر بشدة في كتابات جورج زيمل وماكس فيبير وكارل مانهايم وجوليان فروند الاجتماعية، وفي نصوص راينهارت كوزيليك التاريخية، وهانز بلومنبرغ الفلسفية.
عندما نستخدم إذا كلمة "عدو" لوصف علاقة سلبية بين البشر، فإن هذا الاستخدام يرتبط إما بالاعتقاد أن نشاط الآخر يشكل خطراً أو تهديداً لما يعده الطرف الأول قيمة أو مصلحة غير قابلة للانتهاك، مما يدفعه إلى سلوك أقصى السبل في الدفاع عن نفسه ووجوده وقيمه وحقوقه ووجهة نظره، أو إن العلاقة العدائية تظهر كنتيجة لقوى فيزيائية أو بيولوجية أو نفسية تتجاوز ديناميتها النيات الواعية للفاعلين، لكنها في الحالتين تهيئهم للرد بعنف على أقرانهم في مواقف معينة تحفز الحرب لقتل أناس لا نعرفهم أو أحياناً نعرفهم حق المعرفة كما في الحروب الأهلية، غير أنهم يتحولون فجأة إلى طرائد يجب تعقبها والقضاء عليها.