ملخص
كثيراً ما أعرب ترمب عن رفضه اعتماد أوروبا على الولايات المتحدة لحماية أمنها ضد روسيا، في وقت كان يعتمد الأوروبيون على موسكو للحصول على الطاقة الرخيصة. وقد كشف غزو روسيا لأوكرانيا عن مدى اعتماد أوروبا على القوة الاستراتيجية الأميركية.
ربما يمكن الجزم أن ليس ثمة مكان أكثر ارتباكاً من بروكسل، منذ عودة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب للبيت الأبيض بعد فوز كاسح حققه أمام منافسته الديمقراطية كامالا هاريس. فربما لم يكُن سهلاً على الحلفاء في حلف شمال الأطلسي (الناتو) تقديم التهاني إلى الرئيس الأميركي المنتخب المعروف بانتقاده للتحالف العسكري عبر الأطلسي وموقفه تجاه حرب أوكرانيا الذي يتناقض مع سياسة "الناتو" حيال روسيا.
سارع الأمين العام لـ"الناتو" مارك روته لتهنئة ترمب، قائلاً إن "قيادته ستكون عنصراً أساسياً في الحفاظ على قوة الحلف مرة أخرى" ومضيفاً أنه "يتطلع إلى العمل مع ترمب مجدداً عبر الناتو لتعزيز السلام". ومع ذلك، لا يبدو أن الأمين العام الجديد لـ"الناتو" متفائل كثيراً حيال ما ستكون عليه الأيام المقبلة، فما كان يحمله ترمب خلال ولايته الأولى من ضغوط على حلفائه في "الناتو" أقل وطأة كثيراً مما لديه اليوم، مما يقلق أروقة التحالف في بروكسل حالياً.
خلال ولايته الأولى وبعد وصفها بالمؤسسة التي عفا عليها الزمن، تعلق التوتر بين ترمب وحلفائه في "الناتو" برفضه تحمل الولايات المتحدة العبء الأكبر في موازنة الحلف، إذ كانت تتحمل بلاده نحو 70 في المئة من مجمل نفقات الحلف بنسبة 3.4 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي. وأسفرت جهوده عن زيادة مساهمة الدول الأوروبية بالفعل لتلبية الحد الأدنى من هدف "الناتو" المتمثل في إنفاق اثنين في المئة من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي حين كان هذا الهدف مطروحاً منذ عام 1999، وأكد عليه جميع أعضاء "الناتو" مراراً وتكراراً، حتى إن إدارتي جورج بوش وباراك أوباما هددتا بعواقب وخيمة على حلفائهما في حال الفشل في تحقيقه، نجح ترمب في جعل الأوروبيين يأخذون الأمر على محمل الجد، وعندما تولى السلطة، كانت أربع دول فقط ملتزمة مبدأ اثنين في المئة، والآن أصبح هناك 23 من أصل 32 حليفاً. وبينما يعتقد المراقبون بأن للعدوان الروسي على أوكرانيا دوراً رئيساً، لكن ضغط ترمب كان حاسماً، أو كما يقول المسؤول البريطاني السابق في "الناتو" نيكولاس ويليامز إن "ترمب حصل على ما يريده بالإكراه، وهدد عملياً بانسحاب الولايات المتحدة من الحلف إذا استمر الأوروبيون في تجاهل مبدأ اثنين في المئة".
أصعب أعوام "الناتو"
لكن عودة ترمب الثانية لا تتعلق بذلك الخلاف المالي فقط، وإنما بما يعتبره الحلفاء في "الناتو" تهديداً للأمن الأوروبي أو مصير الحلف العسكري، فمن التهديد بمزيد من الضغوط في شأن موازنة الدفاع ومروراً بتقليص الدعم العسكري لأوكرانيا ووصولاً إلى رغبته في السلام مع روسيا والتسوية سريعاً للحرب في أوكرانيا، يتزايد القلق داخل "الناتو" من عودة الرئيس الجمهوري للبيت الأبيض. فترمب يرغب في تحقيق سلام عاجل مع فلاديمير بوتين ووقف الحرب في أوكرانيا، ويرفض ضخ مزيد من الأموال لتسليح كييف، بل يعتبره إهداراً للمال. وفي اختيارات فريقه ما يؤكد سياساته هذه، فمرشحه لمنصب وزير الدفاع بيت هيغسيث معروف بتشككه في "الناتو"، وتساءل مراراً عما إذا كان من مصلحة الولايات المتحدة دعم حرب أوكرانيا وقال إن حرب أوكرانيا أهميتها تتضاءل مقارنة بالحرب على "اليقظة" في أميركا، وشدد على أن حلفاء الولايات المتحدة في أوروبا بحاجة إلى قيادة الجهود للدفاع عن حدودهم، وهاجم في كتابه الأخير "حرب المحاربين"، بعض حلفاء "الناتو" ووصفهم بأنهم "عاجزون".
وبالفعل، سرعان ما حذر رئيس لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان الإستوني ماركو ميكلسون في منشور على منصة "إكس" مع بدء ظهور نتائج الانتخابات الأميركية في السادس من نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري، قائلاً إن أوروبا يجب أن تكون "مستعدة للقتال من أجل نفسها وأصدقائها".وكتب ميكلسون الذي يترأس أيضاً الوفد الإستوني لدى حلف شمال الأطلسي، "بغض النظر عن حقيقة أن الرئيس المقبل للولايات المتحدة هو على الأرجح دونالد ترمب، يجب على أوروبا أن تفعل كل شيء للحفاظ على التحالف عبر الأطلسي. إن أصعب أعوام الناتو تنتظرنا".
ويقول ويليامز إن عودة ترمب تملأ التحالف بالخوف والرعب، فمستقبل أوكرانيا على المحك بسبب اعتقاد الرئيس الأميركي المنتخب بأنه قادر على صنع السلام من خلال التفاوض مع بوتين، وربما ترهيب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، ويشير إلى أنه بالتواطؤ مع إدارة بايدن، حاول حلف شمال الأطلسي حماية سياسته نحو أوكرانيا من ترمب، ففي يوليو (تموز) الماضي، أنشأ قيادة عسكرية جديدة لحلف شمال الأطلسي تحت مسمى "المساعدة الأمنية والتدريبية لأوكرانيا" التي تضم 700 فرد لغرض تحفيز وتنسيق إمدادات المعدات والتدريب للقوات المسلحة الأوكرانية. ومن ثم إذا منع ترمب الدعم الأميركي، فإن حلف شمال الأطلسي لديه الآليات لمواصلة المساعدات بمساهمات الحلفاء الأوروبيين.
ومع ذلك، يوضح ويليامز أن حماية حلف شمال الأطلسي من ترمب ربما تكون بلا جدوى، فإذا انتهت المساعدات الأميركية لأوكرانيا، فسيؤدي ذلك إلى كسر عزيمة كييف على مواصلة القتال ضد روسيا، مهما كان الأوروبيون عازمين على مواصلة دعمهم من خلال "الناتو" والاتحاد الأوروبي. ولأن ترمب لا يهتم كثيراً بالتحالفات الجماعية ويصر على أن أوروبا قادرة ويجب أن تتحمل وحدها عبء الدفاع عن نفسها، ويؤمن بالزعامة الأميركية بالإكراه، فإن الواقع هو أن "حلف شمال الأطلسي مقبل على مرحلة وعرة للغاية".
إعادة ترتيب أوضاع
كثيراً ما أعرب ترمب عن رفضه اعتماد أوروبا على الولايات المتحدة لحماية أمنها ضد روسيا، في وقت كان يعتمد الأوروبيون على موسكو للحصول على الطاقة الرخيصة. وكشف غزو روسيا لأوكرانيا عن مدى اعتماد أوروبا على القوة الاستراتيجية الأميركية. وقال مسؤول سابق في "الناتو" لـ"اندبندنت عربية" إن الأوروبيين أصبحوا يشعرون بالحاجة إلى الاعتماد الذاتي في الدفاع عن أمنهم، مضيفاً أن "عودة ترمب تدفع أوروبا إلى أن تكون أكثر جدية في حماية نفسها"، وأشار إلى حال من الارتباك داخل التحالف الدولي، إذ يسعى الأعضاء الأوروبيون إلى إعادة ترتيب أوضاعهم بالفعل.
ويرى المراقبون في أوروبا وواشنطن أن البراغماتية ستكون مفتاح التعامل مع ترمب في شأن حلف شمال الأطلسي، ولحسن الحظ بالنسبة إلى أوروبا، يُعرف الأمين العام الجديد الهولندي باسم "علامة تفلون" بسبب مرونته ومكره ودهائه وحسه بالانتهازية السياسية، ويقال إنه تعامل بصورة جيدة مع ترمب في اجتماعاتهما السابقة. فخلال قمة حلف شمال الأطلسي في بروكسل عام 2018، عندما ألمح ترمب إلى أن الولايات المتحدة قد تترك التحالف، أشاد روته الذي كان رئيساً لوزراء هولندا آنذاك بالرئيس الأميركي لدفعه أوروبا إلى إنفاق مزيد على الدفاع، مما أرضى غرور ترمب.
ترويض ترمب
لكن السؤال الذي يشكل خطراً أكبر بالنسبة إلى المسؤولين في بروكسل، هو ماذا إذا بدأ ترمب بالفعل التفاوض مع بوتين حول أوكرانيا؟، ربما لهذا السبب "وجب ترويض ترمب"، هكذا قال مسؤول "الناتو" في حديثه إلى "اندبندنت عربية". وفي هذا الصدد، يعول بعضهم على دبلوماسية الأمين العام الجديد للحلف الذي يرتبط بعلاقة جيدة مع الرئيس الأميركي المنتخب حديثاً.
يرغب ترمب في إحضار بوتين إلى طاولة المفاوضات وإنهاء حرب لا تخدم في نظره أي غرض للشعب الأميركي، ما من شأنه أيضاً تعزيز ادعائه بأنه قادر على منع الحرب العالمية الثالثة. وأبدى الكرملين بالفعل استعداده للتحدث مع الإدارة الأميركية الجديدة، لكن الشروط الروسية من شأنها أن تضعف ترمب نفسه.
وخاض بوتين هذه الحرب لإصراره على ضرورة تحييد أوكرانيا، مما يتطلب التزاماً راسخاً بأن أوكرانيا لن تنضم إلى حلف شمال الأطلسي في المستقبل المنظور. ويتوقع الزميل لدى معهد "تشاثام هاوس" جون لوف أن يسعى الرئيس الروسي أيضاً إلى تقييد حجم القوات المسلحة الأوكرانية ومنع تمركز قوات أجنبية على الأراضي الأوكرانية، كما يأمل أيضاً في تعزيز قبضة روسيا على شبه جزيرة القرم من خلال الفوز بالاعتراف بضمه للأراضي الأوكرانية، ومن المرجح أن يطالب بالسيطرة على تلك الأجزاء من منطقتي دونيتسك ولوغانسك التي لم تحتلها القوات الروسية بعد، وربما يقايض الأراضي المحتلة في خيرسون وزابوريجيا على الأراضي التي تحتلها أوكرانيا في منطقة كورسك الروسية. وأخيراً، سيسعى بوتين إلى تخفيف العقوبات.
وبينما يعتقد لوف بأن ترمب سيوافق بسهولة على هذه الشروط، فإن القيام بذلك من دون دليل على المرونة المتبادلة من جانب بوتين من شأنه أن يعرض الرئيس الأميركي لاتهامات بالسذاجة والضعف كمفاوض. ويقول إنه "من العدل أن نفترض أن ترمب سيتجنب هذا التصور لأنه عمل بجد لخلق الانطباع بأن الصين وإيران وغيرهما من الدول لا بد من أن تستمر في الخوف منه في ولايته الثانية"، ولذلك قد يحتاج بوتين إلى تقديم حافز كبير بما فيه الكفاية للولايات المتحدة، وهي النتيجة التي من شأنها أن تسمح لكل من واشنطن وموسكو بالسعي إلى اتفاق جيد، ومع ذلك ليس من الواضح ما الذي قد يقترحه بوتين والذي قد يكون في متناوله ويرضي أجندة ترمب "أميركا أولاً".
ما يخشاه الحلفاء في "الناتو" ليس تجاهلهم والتفاوض مع موسكو من جانب واحد فحسب، بل أيضاً أن تكون المفاوضات "تجارية للغاية" من دون الالتفات إلى قيم التحالف، مما قد يؤدي إلى نتيجة كارثية لأوكرانيا ولأوروبا كلها. ومع ذلك، يعتقد آخرون بأن ترمب ليس شخصاً يمكن توقعه وتصعب السيطرة عليه، لذا إذا بالغ بوتين في شروطه، فقد ينقلب ترمب على موسكو ويذهب إلى تقديم دعم أكبر لكييف.