ملخص
بوسعنا أن نعثر على أسباب لاجتنابنا واجتناب الآخرين معرفة أمور معينة، وكثير من هذه الأسباب منطقي تماماً، فليس من الحكمة للاعبة في السيرك توشك أن تتسلق العمود أن تسأل عن معدل وفيات العاملين في مجالها، بل إن سؤالا مثل "هل تحبني؟" يجب أن يمر بنقاط تفتيش ذهنية عدة قبل التفوه به.
كتب أستاذ العلوم الإنسانية بجامعة كولومبيا مارك ليلا أخيراً مقالة عن الجهل في "نيويورك تايمز" جاء عنوانها بسيطاً وصادماً "غواية الجهل المدهشة"، فلم يقلل "الإدهاش" بحال من صدمة "الغواية"، ذلك أن تاريخ الإنسان والحضارات ما هو إلا محض تراكم للمعرفة وفرار من "ظلمات الجهل"، بل إن وجودنا على الأرض نفسه، وفقاً للتصور الإنجيلي، هو نتاج رغبة أبوينا القديمة في المعرفة، وما مكانة بروميثيوس شبه المقدسة لدينا إلا نتيجة اجترائه على سرقة "النور" لنا من الآلهة، فأي غواية تلك المزعومة للجهل؟
مقالة ليلا مستلة من كتاب أصدره حديثاً بعنوان "الجهل والنعمة.. عن الرغبة في ألا نعرف"، ويكتب فيها ليلا أن "أرسطو علمنا أن البشر جميعاً لديهم رغبة بأن يعرفوا، لكن تجربتنا الخاصة تعلمنا أن البشر جميعاً يريدون ألا يعرفوا، وأن هذه الرغبة تكون في بعض الأحيان ضارية، وكان هذا صحيحاً على الدوام، ولكن إنكار الحقائق الواضحة خلال فترات تاريخية محددة تكون له اليد العليا، ونحن الآن في إحدى هذه الفترات".
شجاعة الجهل
"يزداد اليوم عدد من يرفضون التفكير العقلاني ويعدونه لعبة حمقاء تختفي وراءها آليات السلطة، وفي المقابل هناك من يحسبون أن لديهم قدرة خاصة على الوصول إلى الحقيقة تعفيهم من المساءلة كالإعفاء من التجنيد، وهناك حشود غافلة تتبع أنبياء عابثين، وشائعات منافية للمنطق تثير أعمالاً متعصبة، وتفكير سحري يزيح الحس السليم والتجربة المباشرة، وفوق ذلك كله لدينا أنبياء الجهل النخبويون، أولئك المتعلمون الذين يزدرون التعليم ويقدسون الناس ويحثونهم على مقاومة الشك وإقامة أسوار حول معتقداتهم الثابتة".
ويمضي ليلا فيكتب أن "من الممكن دائماً أن نعثر على أسباب تاريخية مباشرة لهذه الطفرات غير العقلانية من قبيل الحرب والانهيار الاقتصادي والتغير الاجتماعي، ولكننا بذلك قد نلهي أنفسنا فلا ندرك أن المصدر الأصلي أعمق من ذلك، فهو في أنفسنا وفي العالم نفسه".
في استعراضها للكتاب ["واشنطن بوست"، 29 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024] تضع ريبيكا روثفيلد أصابعنا على مثال ملموس يدعم مزاعم مارك ليلا هذه، إذ تستهل مقالتها باعتذار لمن سيعلّقون عليها لأنها ستمتثل لإحدى أحكم النصائح الموجهة للكتاب وهي "لا تقرأوا التعليقات"، فهذه "وصية لا غنى عنها حتى إنها باتت مقولة سائرة، فقد ترونها مكتوبة على قمصان أو سترات، بل لقد كان على موقع 'إكس' حساب موجود فقط لكي يصدر تنبيهات دورية بعدم قراءة قسم التعليقات على أي شيء في المطلق، وعدم قراءة التعليقات وسيلة للحفاظ على السلامة العقلية وعلى نوع من الجهل النافع، فالكتّاب الذين لا يدركون سموم قُرائهم هم وحدهم الذين يمتلكون من الشجاعة ما يجعلهم يستمرون في النشر".
هذه مفارقة مفهومة، أو يمكن أن يفهمها الكتّاب منا بالذات، فالتعليقات على أية مقالة تقريباً، أو أي كتاب، لا تكاد تخلو في أسوأ الحالات من سباب مباشر، فإن خلت منه فهي لا تخلو من نقد غير قائم على منطق لا مجال لمناقشته، أو لا تخلو من نقل لطرح المقالة أو الكتاب إلى غير مجاله كله بمناقشته في ضوء القناعات الراسخة لدى كاتب التعليق، سواء أكانت دينية أم أيديولوجية أم غير ذلك، والخلاصة أن الكتاب الغافلين عما في عقول قرائهم من سموم هم وحدهم القادرون على مواصلة النشر، أي أن "الجهل" بما يكتب القرّاء يصبح أحد أسباب إضافة "المعرفة".
احتمال النور
تكتب روثفيلد أن التعليقات وفقاً لمارك ليلا، المؤرخ الثقافي في جامعة كولومبيا، ليست إلا أحد أمور كثيرة خير لنا ألا نعرفها، إذ يذهب في كتابه إلى أننا "كائنات تريد أن تعرف وتريد ألا تعرف، فرفض المعرفة عنصر مركزي للغاية في ازدهار الإنسان، شأنه شأن طلب المعرفة".
حينما بدأ ليلا جولته الخاطفة عبر تاريخ الأفكار الغربية اكتشف أن فلاسفة قليلين هم الذين تناولوا فوائد الجهل، ومن البديهيات أن "الخطوة الأولى في الفلسفة هي أن نعرف مدى جهلنا"، لكن ليلا رأى أن الجهل أكثر من محض منطلق لتوليد عكسه، أي المعرفة.
وبعون من مجموعة من المفكرين القدامى أمثال أفلاطون وسوفوكليس، وحتى المحدثين أمثال سيغموند فرويد وإلياس كانيتي، شرع في إقامة دفاع أكثر إيجابية، فأثبتت نتائج بحثه أن الجهل موضوع جدير بالمعرفة".
يكتب ليلا أن "العالم بطبيعته مناوئ، وفيه ما قد نفضل ألا نعرفه، ومن ذلك حقائق مزعجة عن أنفسنا، وهذه هي الأصعب قبولاً، وفيه حقائق أخرى عن الواقع من حولنا لا تكاد تنكشف حتى تسلبنا معتقداتنا ومشاعرنا، مما جعل حياتنا بطريقة ما أفضل وأيسر عيشاً، أو جعلها في أقل تقدير تبدو كذلك، وتجربة انقشاع الوهم أليمة بقدر ما هي شائعة، فليس غريباً أن يتحول بيت في قصيدة إنجليزية منسية باستثنائه إلى مثل سائر: الجهل نعمة".
"بوسعنا جميعاً أن نعثر على أسباب لاجتنابنا واجتناب الآخرين معرفة أمور معينة، وكثير من هذه الأسباب منطقي تماماً، فليس من الحكمة للاعبة في السيرك توشك أن تتسلق العمود أن تسأل عن معدل وفيات العاملين في مجالها، بل إن سؤالاً مثل 'هل تحبني؟' يجب أن يمر بنقاط تفتيش ذهنية عدة قبل التفوه به".
ولكي يثبت ليلا هذا الميل إلى عدم المعرفة أو إلى عدم معرفة بعض الحقائق في الأقل، فإنه يعاود زيارة استعارة جمهورية أفلاطون الشهيرة التي يصف بها مجموعة من الناس عاشوا عمرهم كله في كهف، متصورين أن الظلال المتلاعبة على جدرانه هي الواقع، وحينما يهرب منهم واحد ويرى الحقيقة فإنه يتعذب عاجزاً عن احتمال النور، غير أن عينيه تتكيفان في بطء، وإذا به يؤثر جمال الحقيقة على قتامة ظلام ضلالاته السابقة، ويذهب أفلاطون إلى أننا جميعاً نكون أمثال أهل ذلك الكهف إلى أن نلتفت إلى الفلسفة لنكتشف مصدر الظلال.
عزاء الضلالات
وتضيف روثفيلد أن "ليلا يبدأ بنقض هذه القصة المألوفة، فماذا لو أن شخصاً خرج من الكهف ثم لم يفضل عليه العالم المشرق بالخارج؟ وماذا لو لم يحتمله؟ ماذا لو اشتاق إلى عزاءات ضلالاته القديمة، ويمضي كتاب 'الجهل والنعمة' ليبين أسباباً كثيرة قد تجعل معظمنا يؤثرون راحة الكهف، فمحض معرفة الذات قد تفضي إلى الشلل، وليلا يعتمد على أعمال فرويد ليبين أننا بطبيعتنا في خلاف مع ذواتنا، وأننا لسنا أكثر من هدنات قلقة بين رغبات متصارعة، غير أن وهم الذات المتكاملة شرط مسبق للمسؤولية الأخلاقية، إذ يكتب ليلا أن 'الفعل الأخلاقي يستوجب إحساساً بالسيطرة على الذات، واعتقاداً زائفاً بأن المرء منا هو المنفرد بالسلطة الكاملة على أفعاله'، ومن هنا يكون الجهل بطبيعة الذات الحقة المتعددة ضرورة".
ولكن في كل واحد منا، مثلما يكتب ليلا، "ميلاً أساساً إلى المعرفة يمشي به في العالم بينما تعترضه التجارب، ومن الناس من هم بطبيعتهم فضوليون تجاه ما يمر بهم ويريدون أن يعرفوا كيف صار إلى ما هو عليه، فيحبون الألغاز ويطيب لهم البحث في أصول الأشياء، ويستمتعون بمعرفة الأسباب".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتعلق روثفيلد قائلة إن "ثمة قدراً هائلاً من المعرفة الضارة، إذ يشاع أن الفضول، والذي يعد نعمة في كثير من الأحيان، هو الذي قتل القطة، فليس من قبيل الصدفة أن يتواتر الشره إلى المعلومات في أساطير تحذيرية، وكي يؤكد ليلا هذه النقطة فإنه يخصص معظم كتابه لقراءة ثاقبة ومحرضة لأحد أكثر النصوص تأثيراً في فضائل الجهل، وهو الإنجيل، فلعل خطيئة حواء الأولى هي الفعل الأكثر تهوراً لطلب المعرفة".
يكتب جون بانفيل في استعراضه للكتاب ["غارديان" 24 نوفمبر 2024] أن من أكثر أقسام الكتاب جاذبية ذلك القسم الذي يتناول فيه ليلا بجرأة أعمال بولس الرسول، معتبراً إياه "مؤسس الشعبوية" المناهضة للثقافة، فيكتب أنه "ليس من المبالغة في شيء القول إن تاريخ الشعبوية الغربية، روحية كانت أم سياسية، قد بدأ ببولس، فهو المثقف الذي احتقر الثقافة والمتعلم المتعصب من أرفع طراز، فقد رفع الأطفال الأبرياء والعمال غير المتعلمين والحملان خاوية العيون إلى مصاف القدوة الروحية، مكرساً بذلك إلى الأبد عزة الدهماء بوصفها فضيلة مسيحية".
ويعلق جون بانفيل على ذلك بقوله إن الساكن القادم للمنزل رقم (1600) في جادة بنسلفانيا [أي البيت الأبيض] لو أراد أن يجد لنفسه قديساً شفيعاً فمن المؤكد أن بولس هو الأنسب له، إذ يرد في رسالته إلى أهل كورنثوس قوله "مكتوب أنني سأبيد حكمة الحكماء وأرفض فهم الفُهماء، فلا يخدعن أحد نفسه، وإن كان أحد بينكم يظن أنه حكيم في هذا الدهر فليصِر جاهلاً لكي يصير حكيماً".
إنساني بطبيعته
توضح ريبيكا روثفيلد أن الربط بين بولس والترامبية من المواضع النادرة في الكتاب التي تشتبك مع السياسة المعاصرة، ففي غالب الوقت يأبى ليلا إخضاع بحثه لإملاءات الربط بالواقع المعيش، و"إنه لأمر مبهج أن نقرأ كتاباً فيه القدر الكافي من السلامة الفكرية وطرح الأسئلة الفلسفية اللازمنية دونما مواربة أو بحث عن مبرر لها في الصراعات الراهنة، فمن الطرافة بمكان أن ينتهي كتاب عن فضائل الجهل مثالاً على مسرات طلب المعرفة لذاتها".
لكن "لازمنية" أفكار الكتاب التي تبرزها روثفيلد لا تعني أن الكتاب منقطع الصلة بالواقع، فـ "ما كان الكتاب ليصدر في وقت أنسب له من هذا"، مثلما يؤكد بانفيل قائلاً إننا نعيش في عصر نتخلى فيه عن "الحقيقة الواضحة ونتشبث في نطاق عريض من الخيالات الحمقاء"، وما الانتشار الكبير لنظريات المؤامرة، وشيوع الأفكار المتخفية في العلمية عن الأرض المسطحة والأرض الجوفاء، وأمثال ذلك من الضلالات، إلا دليل على هذا.
ويتساءل ليلا عن السبب في لامبالاة بعضنا بالعلم والتعلم وامتناعهم من طرح الأسئلة، وعما يجعل بيننا من "يتكون لديهم نفور خاص من البحث عن المعرفة، فتجد أبوابهم الداخلية موصدة من دون أي شيء من شأنه أن يثير الشك في ما يعتقدون أنهم يعرفونه بالفعل"، مشيراً إلى أن ذلك لا "يقتصر على غير المتعلمين، فنحن جميعاً عرضة لأن تظهر هذه المواقف فينا مهما بدا ذلك غير مألوف".
يتساءل ليلا "لماذا يحدث هذا؟"، ويجيب "لأن طلب المعرفة ليس مسعى عقلياً فقط، وإنما هو تجربة شعورية أيضاً، والرغبة في أن نعرف هي فعلاً رغبة، وعند إشباع رغباتنا أو حرمانها ينطوي الأمر على مشاعر، ونظراً إلى أن كل شيء في حياتنا اليوم يتغير، أفلا يبدو من الأفضل في كثير من الأحيان أن نركن إلى منجزاتنا الفكرية والمعنوية؟ ففيم طلبنا للحقيقة لو أن الحقيقة تستوجب منا مشقة إعادة النظر في ما نعرفه بالفعل، فكما أن بوسعنا تكوين حب للحقيقة يحرك دواخلنا، فبوسعنا أيضاً تكوين كراهية للحقيقة تملؤنا بإحساس مفعم بالرضا، وقد تتعارض المشاعر فتعترينا رغبة في الدفاع عن جهلنا بالوقوف خصوماً شرسين للرغبة في الهرب من الجهل".
ويلتفت ليلا أيضاً إلى جانب حرج من أسباب احتفائنا بالجهل وإن سميناه بغير اسمه هذا، إذ يكتب أننا "نعد آراءنا امتداداً لذواتنا أو نراها بمنزلة أطراف صناعية لنا، فعند مهاجمتها أو نبذها نشعر أن شيئاً حميمياً قد تعرض للمساس، وعندما يتبين خطأ آرائنا يعترينا شعور بالعار، وعلى رغم أن سقراط أكد أنه لا عار في أن نكون على خطأ، إنما العار أن نقترف الخطأ، وقد أصاب في ذلك، لكن ليس هذا ما نشعر به ابتداء وبخاصة حينما يكشف شخص آخر أخطاءنا".
يكتب ليلا أنه ما من حجة على الإطلاق "إلا وهي مجسّدة"، فكل "تأكيد" وراءه "مؤكِد" أي شخص ما، وهذا الشخص المؤكِد "هو الذي يجرح كبرياءنا"، وعلى رغم ما قد يبدو في الأمر من غرابة فإن علماء الرياضيات أنفسهم يتجادلون في أمور شديدة البعد من ذواتهم، ولكنهم قد يكونون في غاية الحساسية والدوغمائية شأن أي نصير سياسي.
وإذاً ليس الاعتراف بدور الجهل في بنيتنا المعرفية إقلالاً من قيمة المعرفة، ولكنه في ما أفهم إعلاء للدور الذي تلعبه طبيعتنا الإنسانية في تكوين هذا البناء المعرفي، فليست المشاعر والميول والأهواء وحتى التعصب غير القائم على منطق بمعزل عن البنيان المعرفي الإنساني الجليل، وليس تسمية هذه النزعات الإنسانية بالجهل دعوة إلى محاربة هذا الجانب من أنفسنا فقط، ولكنها دافع إلى شيء من الشكك عند استهلاك هذه المعرفة، شك ينفي القداسة عن منتج إنساني هو بطبيعته غير مقدس.
يكتب مارك ليلا "إننا جميعاً في نقطة ما نميل إلى رفض فرصة اكتشاف الحقيقة، ونتنازل طائعين عن فرصة معرفة حقيقة العالم خوفاً من أن تفضح حقائق عنا، فنتبنى جهلنا لا لشيء سوى أنه جهلنا، ولذلك في ما نرثي لمن فتنهم الدجالون والمشعوذون والديماغوجيون، فعلينا ألا نعفي أنفسنا من الرثاء، فكلنا يريد أن يعرف ويريد ألا يعرف، وكلنا يقبل الحقيقة ويرفض الحقيقة، والعقول تتحرك جيئة وذهاباً في هذه اللعبة من دون أن تبدو أنها لعبة، بل يبدو وكأن الحياة نفسها على المحك، وهي كذلك فعلاً".
العنوان: Ignorance and Bliss: On Wanting Not to Know
المؤلف: Mark Lilla
الناشر: Farrar, Straus & Giroux