ملخص
خلال اليومين الماضيين عثر على مقبرة جماعية ضخمة خلف قصر المؤتمرات جنوب دمشق ترجح التقديرات أنها تحوي رفات 75 ألف شخص، استشعر السكان الروائح المنبعثة ولكنهم كانوا يخشون الاستفسار عن السبب
1،7،9،12،18،25،33،60،95،105،200،650،1000،1180 إلخ... هذه ليست لعبة أرقام، بل هي بدائل أسماء أشخاص ذاقوا ما ذاقوه من مآس وترويع قبل دفنهم في مقابر جماعية لتدفن معهم قصصهم. لكن مع سقوط نظام الأسد تجلت كثير من المقابر الجماعية حيث عثر على رفات مئات لا بل آلاف الأشخاص مجهولي الهوية والانتماء ولا يحملون سوى أرقام مبعثرة.
100 ألف شخص وأكثر
سجل في سوريا بحسب منظمات وناشطين وجمعيات معنية فقدان أكثر من 100 ألف شخص، معظمهم لا تزال أسرهم تبحث عنهم أو كانت كذلك حتى قبل أيام قليلة، آملين في العثور عليهم أحياء بعد أن جرى اختطافهم من أماكن متفرقة واقتيادهم إلى جهات مجهولة، كانت أبرزها الأفرع الأمنية وسجن صيدنايا ذائع الصيت شمال العاصمة دمشق.
في عام 2013 قام عنصر سوري منشق بالهرب برفقة أكثر من 53 ألف صورة توثق الجرائم التي ارتكبها النظام ضد شعبه ومعارضيه ومعتقليه، مما أحدث ثورة في العالم المتمدن واستدعى عقوبات بالجملة على ما وصفوه بـ"وحشية نظام الأسد".
وبينما كانت عائلات كثيرة تنتظر خبراً عن مصير مفقوديها جاءت هذه الصور لتبين أنهم قضوا تحت التعذيب. ومن بين أولئك الذين اكتشفوا وفاة ابنهم الحاجة أم صابر وهي أم لأربعة شباب وفتاة، ثلاثة منهم جرى اعتقالهم لأسباب مختلفة وعلى فترات متباينة.
"كيف أحتضن رفاتهم؟"
أم صابر التي تنحدر من مدينة حمص جرى اعتقال أولادها ياسر وصابر وعامر، فيما نجا ابنها الأخير مرشد من الاعتقال شاقاً طريقه عبر البحر نحو أوروبا. ومن خلال صور "ملفات قيصر" تعرفت السيدة العجوز على اثنين من أولادها.
تقول، "حرر الثوار ولدي ياسر وكان في حال يرثى لها، لكن صابر وعامر قتلا بدم بارد، والله لم يرتكبا أي جرم سوى ما سيق لهما من ادعاءات باطلة، وقد علمنا لاحقاً أنه لم تتم محاكمتهما، ابني الأول مات من الجوع والمرض، والآخر تم رميه بالرصاص، وكلاهما رميا في مقبرة جماعية لاحقاً، هذه حقيقة أكدها لنا كثر، والآن كيف أبحث عن قبريهما وكيف أحتضن رفاتهما، وكيف لا أتمنى القتل لقاتلهما؟".
وتتابع، "ياسر نجا بأعجوبة، إذ تمكن من الصمود لأعوام في ظل مجاعة مقرونة بالذل والمهانة والتعذيب والتحقير، لكن لله حكمته، والله لن يترك أحداً من دون حساب لما فعلوه بنا وبعشرات الآلاف من أبناء العائلات الأخرى".
لا تحاول أم صابر أن تغلب دمعتها، تكاد تدخل في انهيار عصبي خلال حديثها، تحاول ابنتها تهدئتها من دون جدوى، فتنهار الأخرى في حضن والدتها.
ابتزاز
في عام 2012، وتحديداً في مايو (أيار) اعتقل النظام الرجل الخمسيني خالد حسون القادم من ريف دمشق إلى العاصمة حاملاً بعض النقود بغية علاج ولده الذي كان يرقد في المستشفى، وبعد تفتيشه عند أحد الحواجز اقتيد إلى مركز أمني وألصقت به تهمة "تمويل المعارضة والتواصل مع جهات أجنبية".
بعد ثلاثة أعوام تمكن ولده ماجد من معرفة مصير والده عبر صور "قيصر"، وتمكن من معرفة أن والده قُتل بعد نحو شهر ونصف الشهر فحسب من اعتقاله.
يقول ماجد إلى "اندبندنت عربية"، "عشنا طويلاً على أمل أن يكون والدي حياً يرزق، فعلنا كثيراً من الوساطات مع الفرع الذي احتجزه ومع جهات أخرى ودفعنا كثيراً من المال، والكل كان يقول لنا إنه حي وسيخرج قريباً، لكن الحقيقة المريرة الوحيدة أنه كان قد قتل بعد شهر ونصف الشهر من اعتقاله وظلوا يبتزوننا ويبيعوننا الأمل ثلاثة أعوام".
شاحنات ودماء
يقول جهاد نجار أحد ساكني ريف دمشق قرب بلدة المليحة، إنه كثيراً ما كان يرى شاحنات كبيرة تأتي في ساعات ما بين منتصف الليل والفجر وتُفرغ حمولتها من قبل جنود عسكريين ثم تكمل طريقها، وكان يمكن لحظ الدماء التي تسيل من تلك الشاحنات في المواقع التي تقصدها أو على أطراف طريق المطار.
ويخبرنا أن المنطقة هنا كانت فيها مقبرة صغيرة قبل الحرب، ولكن اعتباراً من 2012 تحولت لمقبرة جماعية، وذلك ما جاءت على ذكره صحيفة "التايمز" في وقت سابق.
أرياف أخرى
ويشير جهاد إلى أن ريف دمشق تحول بقسم كبير منه إلى مقبرة جماعية، والأمر ذاته ينطبق على مدينة القطيفة شمال دمشق، حيث تحولت المنطقة هناك بين عامي 2013 و2016 إلى مقبرة جماعية هي الأخرى، بحسب ما أكد لنا شهود وسكان من المنطقة.
وقدر أحد قاطني المنطقة مساحة القبور الجماعية في الأرض التي جُرفت بنحو 14 فداناً (نحو 60 ألف متر) قبل أن يتم تسويرها لاحقاً بصورة كاملة وتصبح قطعة عسكرية لـ"حزب الله" حتى قبل سقوط النظام السوري قبل أيام.
في كل مكان متاح
بدوره قال المهندس ناجي الراشد أحد سكان القطيفة، إن جنوداً كانوا يجيئون في النهار ويحفرون أنفاقاً بطول من 60 إلى 100 متر، ثم حين ينتهون من أعمال الحفر كانت تتوافد شاحنات وتفرغ ما بداخلها في هذه الحفر، ويمنع على أي أحد الاقتراب أو المشاهدة، وإن فكر أحد في الاقتراب فقد يصبح هو الآخر داخل الحفرة، كانت تتم عمليات الدفن الجماعي تحت جنح الليل صيفاً وشتاء.
يقول ناجي، إن السكان سريعاً استشعروا الروائح المنبعثة ولكنهم كانوا يعلمون السبب، وفي مرة اقترب ليسأل جندياً عند نقطة حراسةـ "ما هذه الرائحة في المنطقة؟"، فأجابه، "لا أدري".
يقدر ناجي تعداد الجثث المدفونة في تلك المرحلة الزمنية بناء على حركة الشاحنات وما يمكن أن تتسع له الحفر، ما يراوح ما بين 3 و4 آلاف جثة. ويبقى هذا الرقم تقديراً شخصياً لا يستند إلى إحصاءات دقيقة.
كل شيء ممنوع... حتى التنفس
ومع استمرار اكتشاف المقابر الجماعية بدا حظ أبوعماد أفضل بكثير من أقرانه، إذ قضى عامين وسبعة أشهر في سجن صيدنايا قبل أن تحرره "إدارة العمليات" بصعوبة نتيجة كسور في الساقين والأضلاع بعد رحلة تعذيب طويلة.
كانت تهمة أبوعماد "التخابر مع العدو"، وهي تهمة ينفيها تماماً، ويؤكد أنه كان مجرد موظف بسيط يسعى إلى تأمين لقمة عيشه، وقد قيل له إنه سيقضي 25 عاماً في "صيدنايا"، لكنه كان متأكداً أنه لن يصمد شهراً آخر قبل أن يسقط ميتاً كما يحصل مع جميع من حوله.
يقول، "في السجن عليك أن تخرس، تصمت، لا تتحدث، تتلقى الضرب من دون أي رد فعل، ألا تأكل، سيحرمونك الملح والمغذيات، لا يمكنك أن تتحرك، ثم سيكسرون ساقيك كما فعلوا معي".
نبش القبور للتعرف على الجثث
خلال اليومين الماضيين عثر على مقبرة جماعية ضخمة خلف قصر المؤتمرات جنوب دمشق ترجح التقديرات أنها تحوي رفات 75 ألف شخص، المنطقة القريبة من الحسينية في ريف دمشق وجد فيها 150 مقبرة متجاورة، وكل حفرة بعمق 25 متراً، وكان يجري دفن الأشخاص فوق بعضهم في هذه الحفر.
كان يتم دفن كل دفعة تصل وردمها بالتراب، ريثما تصل الدفعة الثانية لتدفن في المكان نفسه. وبحسب شهود عيان من الحسينية، "كانت تجيء سيارات فاكهة وخضراوات ضخمة محملة بالجثث تقوم بإلقائها في الحفر".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في العاصمة
وبحسب مصادر إعلامية، فقد عثر على مقابر جماعية في حي التضامن الذي شهد مجزرة نفذها أحد ضباط النظام قبل أعوام، وعثر على عظام بشرية متروكة في مكانها من دون دفن.
وتمتد المقبرة على مساحة تقارب 5 آلاف متر مربع، وتضم خنادق متوازية حيث يتم وضع كل 100 جثة من الضحايا في خندق تصب فوقها كتل أسمنتية بعدها تطمر بالتراب. وظهرت في صور متداولة أكياس بيضاء لا يوجد عليها سوى أرقام ورموز في إحدى المقابر، وخلت من أي نصب يشير إلى أسماء الضحايا.
ودعت اللجنة الدولية للصليب الأحمر عائلات المفقودين في سوريا إلى عدم محاولة العثور بأنفسهم على جثث أقربائهم أو نبش المقابر لأن ذلك قد يعوق عملية التعرف على الجثامين.