ملخص
هذه العيّنات من معاناة المربين تخفي وراءها محنة عميقة تمزق واقع المدرسة التونسية، فظاهرة العنف المستشري لا تقتصر على داخل الفضاء المدرسي بل تتجاوزه إلى المحيط الخارجي، حيث سجلت بداية هذه السنة الدراسية مقتل تلميذ على يد زميله أمام المعهد في قلب العاصمة.
تواجه المدرسة التونسية تحدياً صعباً يتمثل في العنف الذي بات كابوساً يؤرق الإطار التربوي والإدارة والأسر وسط دعوات متتالية لفك شفرة هذه الظاهرة واستئصالها من جذورها صوناً للفضاء المدرسي وحفاظاً على كرامة المربي وسلامة التلاميذ.
"بعد أكثر من 25 سنة من التدريس لم أتخيل يوماً أن يتجرأ تلميذ على تعنيفي أمام بقية تلاميذي في الفصل"، بهذه العبارات المشحونة يعبر سمير قاسمي أستاذ التعليم الثانوي عن شعوره بالمرارة بينما يتحدث عن تجربته القاسية مع العنف المدرسي، والتي دفعته إلى تغيير المعهد.
استنجد سمير وقتها بإدارة المعهد التي اتخذت قراراً بطرد التلميذ الذي توسل والداه للعفو عنه فرفض، مُرجعاً سبب تفشي ظاهرة العنف المدرسي إلى التفكك الأسري، وتحلّل القيم المجتمعية، وتراجع المكانة الاعتبارية للمربّي، "أصبح مجتمعنا بلا ضوابط بسبب تراجع دور الأسرة التي تخلت عن وظائفها الأساسية لفائدة الشارع والـ(سوشيال ميديا) في عالم مفتوح لم يعد فيه التلميذ محصناً من السلوكيات المحفوفة بالمخاطر".
ندوب ويأس
ليلى بن نجمة (مربّية) بدورها تعرضت للعنف، وهي الآن في رحلة علاج نفسي من ندوب الحادثة التي أبعدتها من الفصل. تقول "لم تعد لي رغبة في الالتحاق بالمعهد، أنا الآن في عطلة مرضية طويلة الأمد، لقد عانيت الأمرّين بسبب التنمر والعنف من التلاميذ، وكان أملي أن أكون مدرسة ناجحة، لكن حلمي تكسّر على صخرة الواقع المدرسي".
وتضيف "شتمني تلميذ وهدّدني آخر بتشويه وجهي، التجأت إلى إدارة المعهد التي اتخذت إجراء تأدبيباً بحقهما وتم طردهما من المعهد، وعندها باتت مأساتي مضاعفة لأنني أصبحت خائفة من أن يتعرضا لي في الشارع".
واقع صعب يعيشه عدد من المعلمين والأساتذة اليوم في المدرسة التونسية التي باتت كابوساً بسبب انتشار العنف المادي والمعنوي الذي يتعرّض إليه المربون.
هذه العيّنات من معاناة المربين تخفي وراءها محنة عميقة تمزق واقع المدرسة التونسية، فظاهرة العنف المستشري لا تقتصر على داخل الفضاء المدرسي بل تتجاوزه إلى المحيط الخارجي، حيث سجلت بداية هذه السنة الدراسية مقتل تلميذ على يد زميله أمام المعهد في العاصمة، حادثة اهتز على وقعها الرأي العام في تونس، وتعالت الأصوات المنادية بحماية المحيط المدرسي من العنف الذي يطل برأسه كل مرّة في مختلف الفضاءات التربوية.
من بين الحوادث التي تم تسجيلها في المدارس التونسية هذه السنة اعتداء تلميذ في مدرسة بالعاصمة على زميله داخل الفصل باستخدام مقص مما أدى إلى فقدان إحدى عينيه. كما تعرض تلميذ آخر لاعتداء بسكين أمام مدرسة بمحافظة صفاقس، فيما اعتدى تلميذ على أستاذ في محافظة سيدي بوزيد، كما طعنت تلميذة بسكين في معهد سيدي حسين بالعاصمة.
ناقوس الخطر
هذا الوضع وصفه الكاتب العام لجامعة التعليم الثانوي محمد الصافي، بـ"الكارثي" لأن العنف بات خبزاً يومياً في المؤسسات التربوية بمختلف المناطق وبخاصة في المدن الكبرى، داعياً إلى "دق ناقوس الخطر في المؤسسات التعليمية"، ومعتبراً أن "تونس بلغت مرحلة من العنف في الوسط المدرسي لا يمكن السكوت عنها، وذلك في غياب الإرادة الحقيقية للتصدي لهذه الظاهرة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وارتفعت حالات العنف بين عامي 2023 و2024 بنسبة 19 في المئة، حيث بلغ عدد حالات العنف في السنة الدراسية 2022 – 2023 نحو 23800 حالة، ومن مجموع 432 حالة عنف موجهة ضد المربيات والمربين تم تصنيف 312 منها بالخطرة.
يذكر أن مدرسا تونسياً توفي أخيراً متأثراً بحروقه البليغة بعد أن عمد إلى إضرام النار في جسده مستخدماً مادة حارقة إثر تدهور حاله النفسية بسبب حملة تنمر استهدفته على مواقع الـ"سوشيال ميديا" من قبل عدد من تلاميذ المعهد.
وتبيّن الأرقام الرسمية تبايناً كبيراً في حالات العنف المسجلة بين المجالين الحضري والقروي، حيث تم تسجيل 77 في المئة من حالات العنف في المجال الحضري، مقابل 23 في المئة بالمجال الريفي.
وتصدّرت محافظات تونس الكبرى، أعلى الترتيب من حيث حالات العنف المسجلة بنسبة 14 في المئة، تليها محافظة سوسة 11 في المئة، فصفاقس 10 في المئة.
وفي وقت سابق، كشفت فاتن المطوسي رئيسة الإدارة الفرعية للوقاية الاجتماعية، في تصريحات صحفية عن تسجيل 2231 واقعة عنف في المحيط المدرسي عام 2023، لتحتل المدرسة التونسية بذلك المرتبة الثالثة في العالم بعد فرنسا والولايات المتحدة من حيث نسبة العنف، والمرتبة الثانية في حوض البحر المتوسط.
عنوان فشل
من جهته، يحذّر رضا الزهروني رئيس جمعية الأولياء والتلاميذ، من التطبيع مع العنف المدرسي، لافتاً إلى الوضع الصعب الذي تعيشه المدرسة التونسية اليوم بسبب تدهور المنظومة التربوية.
يقول لـ"اندبندنت عربية"، إن "الإشكالية اليوم تتمثل في غياب استراتيجية وطنية للتعاطي مع الظاهرة، والبحث عن حلول"، مشيراً إلى أن "العنف المدرسي هو عنوان من عناوين فشل المدرسة التونسية"، ومعتبراً أن الحل يكمن في وضع سياسات عمومية للتعاطي مع الظاهرة من خلال استعادة المدرسة لجاذبيتها عبر تجويد المضامين وتحسين الفضاء المدرسي والعمل على الإحاطة بالتلاميذ في المحيط المدرسي وتفعيل النوادي الثقافية والرياضية وتعزيز دور الإرشاد النفسي والاجتماعي داخل المؤسسات التربوية".
ويقترح الزهروني أن يشمل الإصلاح التربوي إعادة النظر في الزمن المدرسي، والتخفيف من الاكتظاظ في الفصل، وتمكين المدرسة من التجهيزات الضرورية والمرافق الأساسية. مؤكداً أن المجتمع التونسي اليوم أصبح عنيفاً لأسباب اقتصادية واجتماعية مع ارتفاع نسب الفقر وتنامي ظاهرة ترويج المخدرات في المحيط المدرسي.
يشار إلى أن مسح المعهد الوطني للصحة عام 2023 أبرز أن أكثر من 16 في المئة من التلاميذ المستجوبين لا يجدون صعوبة في الحصول على المواد المخدرة، فيما تسجل نسبة التلاميذ الذين استهلكوا هذه المواد ولو مرة واحدة 8 في المئة، بينما كانت هذه النسبة بحدود 1.3 في المئة عام 2013.
يرى سامي نصر، المتخصص في علم الاجتماع بالجامعة التونسية، أن "العنف هو من إفرازات مرحلة ما بعد الثورات نتيجة التغيرات الفجائية والجذرية التي عرفتها تلك المجتمعات، علاوة على غياب ما يسمى بالردع الجمعي أو الاستنكار الاجتماعي للعنف".
ويُرجع تفشي ظاهرة العنف المدرسي إلى أن "أدوات إنتاج ثقافة العنف أقوى من آليات محاربته، علاوة على ضعف القانون الردعي، وتراجع مفهوم هيبة السلطة، سواء سلطة الدولة، أو سلطة العائلة، أو سلطة المربّي".
دون المعدلات العالمية
في المقابل تقلل وزارة التربية من أهمية الأرقام المتداولة حول تفشي ظاهرة العنف المدرسي، وتشير بياناتها إلى أنه إلى حدود أكتوبر (تشرين الأول) 2022، يسجل الوسط المدرسي سنوياً ما بين 13 ألفاً و21 ألف حالة عنف بخاصة في المدارس الإعدادية والمعاهد الثانوية، وأن النسبة العامة لا تتجاوز 2 في المئة، وهي دون المعدلات العالمية للعنف في الوسط المدرسي.
لكن المتحدث باسم الإدارة العامة للأمن الوطني العميد عماد ممّاشة، يقر بتفشي ظاهرة العنف في تونس، مؤكداً أن وزارة الداخلية "تقوم بمجهود كبير لمناهضة العنف في الوسط المدرسي الذي هو نتاج للعنف الأسري"، مشدداً على أن محاصرة هذه الظاهرة تتطلب تضافر جهود كل الجهات المعنية.
يُذكر أن المدارس والمعاهد التونسية تأوي أكثر من مليوني تلميذ وتلميذة، بينما تواجه هذه الفضاءات صعوبات داخلية من حيث تدهور البنية التحتية، وغياب المرافق الأساسية، وخارجية من حيث المخاطر التي يواجهها التلاميذ في الشارع كالعنف واستهلاك المخدرات، على رغم ما تبذله الوحدات الأمنية من جهود لتأمين الفضاء الخارجي للمؤسسات التربوية.
أزمة ثقة تعصف بالعلاقة بين التلميذ والمربّي ناتجة عن عدم قدرة المحيط المدرسي على استيعاب التحولات الطارئة في المجتمع، حيث بقيت المدرسة رهينة تربوية كلاسيكية لم تدمج التلميذ في محيطه الجديد المتأثر بالتكنولوجيا والرّقمنة وسرعة التفاعل في عالم مفتوح.