Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أميركا في لبنان... بين الحضور التاريخي والتدخلات الحديثة

تسعى الولايات المتحدة إلى الحد من نفوذ إيران و"حزب الله" عبر دعم المؤسسات الشرعية اللبنانية

المندوبان اللبنانيان لدى الأمم المتحدة حميد فرنجية (يسار) وكميل شمعون (وسط) يتحدثان مع المندوب الأميركي جورج وادزورث (يمين) عام 1946 (ا ف ب)

ملخص

يمتد الدور الأميركي في لبنان بين الحضور التاريخي والتدخلات الحديثة، مع التزام بدعم استقراره وتعزيز مؤسساته. وأسهمت الولايات المتحدة تاريخياً، في إنشاء الجامعة الأميركية في بيروت منذ عام 1866 وتطوير القطاع المصرفي اللبناني، ولعبت دوراً في إنهاء الحرب الأهلية عبر دعم "اتفاق الطائف". أما حديثاً، فقد زادت واشنطن دعمها للجيش اللبناني عبر توفير التدريب والمعدات لمكافحة الإرهاب، مع تعزيز دورها لتقويض نفوذ إيران و"حزب الله" عبر دعم المؤسسات الشرعية وفرض العقوبات.

يشهد الدور الأميركي في لبنان نقطة تحول ملحوظة في ضوء التطورات السياسية والعسكرية في الشرق الأوسط، فمنذ اندلاع الحرب الأخيرة بين "حزب الله" وإسرائيل، لعبت الولايات المتحدة دوراً محورياً في التوسط إلى وقف إطلاق النار، إذ تضمنت الجهود الأميركية تقديم مقترحات لهدنة لمدة 60 يوماً، تهدف إلى انسحاب القوات الإسرائيلية من الجنوب وانتشار الجيش اللبناني في المنطقة الحدودية، مع التأكيد على تطبيق الاتفاق اللبناني– الإسرائيلي الذي وقعته حكومة تصريف الأعمال برئاسة نجيب ميقاتي.
ومع تراجع قوة "حزب الله" والنفوذ الإيراني في لبنان، ظهرت ملامح دور أميركي معزز ومتشعّب، وهنا تقول شخصيات دبلوماسية أميركية إن واشنطن تهدف إلى تعزيز الاستقرار وتقوية الموازين المحلية لمصلحة الدولة اللبنانية، وتتوقف عند إنشاء السفارة الأميركية في منطقة عوكر (شمال بيروت) على مساحة ضخمة ومركزية باعتبارها دلالة واضحة على الاهتمام الأميركي بلبنان. كما تعكس إمكانية تواجد عناصر من القوات الأميركية في قاعدة حامات العسكرية في شمال لبنان، التزاماً أمنياً متزايداً من قبل الولايات المتحدة لدعم الجيش وتدريب عناصره لمواجهة أي تهديدات أمنية محتملة.
ومنذ أعوام، والدعم الأميركي للجيش اللبناني يشهد استمراراً وتصاعداً ملحوظين، مقابل تراجع تأثير دول كبرى أخرى وعلى رأسها فرنسا، وهنا يتوقف كثيرون عند ما يصفونه بالتنافس الأميركي الفرنسي على لبنان، ومحاولة كل دولة منهما أن تفرض حضورها في أزمات هذا البلد ومحاولات حلها.

وفي السياق، لا يقتصر الدعم الأميركي على توفير الأسلحة والتدريب، بل يمثل رسالة واضحة للداخل والخارج بأن أميركا ترى في الجيش اللبناني شريكاً رئيساً في مكافحة الإرهاب والحفاظ على استقرار البلاد.
في المقابل، يعتبر قادة "حزب الله" في تصريحاتهم أن هذا الحضور يتجاوز الأطر الدبلوماسية إلى أبعاد أمنية واستراتيجية تهدف إلى التحكم بمفاتيح اللعبة في الداخل والمنطقة، وأن تواجد القوات الأميركية في قاعدة حامات العسكرية يُظهر رغبة الولايات المتحدة في تأمين موطئ قدم قوي في البلاد، مما يمنحها القدرة على التأثير في الأحداث المحلية والإقليمية. 

صياغة علاقات جديدة

يتلخص الدور الأميركي في لبنان بمزيج من الحضور التاريخي والتدخلات الحديثة، ويعكس التزاماً طويل الأمد بدعم استقرار البلاد وتعزيز مؤسساته. ومع استمرار الأزمات السياسية والأمنية في المنطقة، يبدو أن واشنطن تعيد صياغة استراتيجيتها بما يتلاءم مع أولوياتها الإقليمية.
تاريخياً، يعود الحضور الأميركي في لبنان إلى القرن التاسع عشر، عندما أنشأت واشنطن أول حضور دبلوماسي لها في بيروت في العام 1833 مع تعيين وكيل قنصلي، ثم تأسست الجامعة الأميركية في بيروت في عام 1866، لتكون منارة للتعليم العالي في المنطقة، وأسهمت بشكل كبير في إنتاج نخبة من القادة والمثقفين الذين لعبوا أدواراً بارزة في لبنان والعالم العربي.

وقد جلا مسؤولون اميركيون عن لبنان في العام 1917 عندما قُطعت علاقات الولايات المتحدة مع الإمبراطورية العثمانية. ثم أعيد تأسيس القنصلية العامة بعد الحرب العالمية الأولى. وبعد استقلال لبنان، تم تعيين الوزير هارولد ماينور ليكون أول سفير للولايات المتحدة في البلاد وبقي في المنصب عامي 1952 و1953.

قوات "مارينز" في بيروت عام 1958 

بعد الاستقلال بنحو عقد من الزمن وقبل الحرب الأهلية، كانت الأزمات داخل لبنان آخذة بالتطور بشكل سلبي، وحينها يقول المتابعون إن البلاد شهدت "ميني حرب" أي الحرب المصغرة، وتحديداً عام 1958 في عهد رئيس الجمهورية كميل شمعون، الذي طلب الدعم الأميركي فكان له الأمر عبر إرسال قوات مشاة أميركية إلى بيروت.

في التفاصيل، اشتدت خلال حكم شمعون الخلافات مع المعارضة في الداخل وتحديداً مع زعيم الحزب التقدمي الاشتراكي كمال جنبلاط، وانضمت إلى المعارضة شخصيات بارزة مثل رئيس الحكومة صائب سلام ورشيد كرامي.

انقسم اللبنانيون بشكل عمودي، داخل لبنان وخارجه في المنطقة ثم جاءت أزمة السويس وحرب 1956، التي شنّتها إسرائيل وفرنسا وبريطانيا على مصر، لتؤجج الخلاف بين شمعون وخصومه، وطالبت المعارضة الرئيس بقطع العلاقات مع الدول الغربية التي هاجمت مصر. لكنّ شمعون رفض فقدم سلام استقالته.

ثم بعد سنوات قليلة اغتيل نقيب المحررين السابق وعضو "الحزب التقدمي الاشتراكي" نسيب المتني الذي كان يعارض سياسة شمعون بشدة، فخرج أنصار المعارضة إلى الشارع وبدأت الاحتجاجات المطالبة باستقالة شمعون، قبل أن تنصب المتاريس داخل لبنان للمرة الأولى قبل الحرب الأهلية.

فما كان من الرئيس شمعون إلا أن طلب من الولايات المتحدة التدخل في لبنان، وفي 15 يوليو (تموز) أرسلت أميركا قوات مارينز إلى بيروت في عملية حملت اسم "الخفاش الأزرق"، وبقيت لأشهر قبل أن تغادر. فيما انتهت الأزمة الداخلية في لبنان بعدم تمديد ولاية شمعون وعدم ترشحه لولاية أخرى.

الحرب وما تلاها

كان للولايات المتحدة دور مهم خلال الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990)، حيث تواجدت سياسياً وعسكرياً في أكثر من مرحلة، وقد اغتيل سفيرها فرنسوا ميلوي في بيروت عام 1976 على يد الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. ولاحقاً دعمت واشنطن في عام 1989 "اتفاق الطائف" الذي أنهى الحرب وشكّل بداية جديدة للنظام السياسي اللبناني. كما دعمت الولايات المتحدة، القوات الدولية المتعددة الجنسيات في لبنان خلال الثمانينيات، على رغم الانتكاسات التي واجهتها مثل تفجير السفارة الأميركية ومقر المارينز في بيروت عام 1983.

في السنوات الأخيرة، زادت الولايات المتحدة دعمها للجيش اللبناني من خلال برامج تدريب مكثفة وتزويده بمعدات متطورة لمحاربة الإرهاب وتعزيز الأمن الداخلي، مما يعكس الرؤية الأميركية لأهمية الجيش كركيزة للاستقرار. وأنشأت واشنطن أيضاً سفارتها الجديدة في منطقة "عوكر"، وباتت تُعد واحدة من أكبر السفارات الأميركية في العالم، مما يشير إلى أهمية لبنان في استراتيجيتها الإقليمية.
عسكرياً، زاد الحضور الأميركي في قاعدة حامات الجوية، حيث تدعم الولايات المتحدة الجيش اللبناني في مكافحة الإرهاب وتأمين الحدود، لا سيما مع استمرار التوترات على الحدود مع سوريا ووجود تنظيمات متطرفة. وتقدم واشنطن مساعدات مباشرة في مجالات الأمن السيبراني والتدريب التقني للمؤسسة العسكرية اللبنانية.

اقتصادياً، دعمت الولايات المتحدة لبنان خلال أزمته المالية المستمرة منذ عام 2019، عبر تقديم مساعدات إنسانية مباشرة، والمشاركة في الجهود الدولية لإنقاذ الاقتصاد اللبناني من الانهيار، شريطة تنفيذ الإصلاحات المطلوبة. كما تضغط واشنطن من خلال حلفائها الدوليين على السياسيين اللبنانيين لتحقيق شفافية أكبر في إدارة الأموال العامة ومكافحة الفساد.
إقليمياً، ترى واشنطن لبنان جزءاً من توازن القوى في المنطقة، حيث تسعى إلى تقويض نفوذ إيران و"حزب الله" في البلاد، عبر دعم المؤسسات الشرعية وتعزيز العقوبات على الشخصيات والكيانات المرتبطة بهما. 

فيما تشترك أميركا مع فرنسا والسعودية وقطر ومصر في لجنة خماسية تتابع الملف الرئاسي اللبناني، فيما يحسب على واشنطن تأييدها قائد الجيش جوزيف عون لتولي الرئاسة.  

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أميركا بعد الحرب

وشهدت الحرب الأخيرة بين "حزب الله" وإسرائيل تصاعداً في الحضور الأميركي كوسيط رئيس، عبر موفدها آموس هوكشتاين الذي كان يزور لبنان وإسرائيل باستمرار في محاولة لإنهاء الحرب.

يعتبر الباحث السياسي سامي نادرإلى أن "واشنطن تسعى إلى تحقيق توازن في المنطقة ومنع تصعيد قد يؤثر في مصالحها ومصالح حلفائها"، موضحاً أن "الدور الأميركي يمتد إلى دعم الجيش اللبناني وضمان استقرار الحدود الجنوبية عبر التنسيق مع الأمم المتحدة".

في السياق نفسه، أشار الكاتب السياسي أسعد بشارة إلى أن الحرب فرضت "اتفاق إذعان" على "حزب الله"، مما "فتح المجال أمام دور أميركي متجدد لتعزيز المؤسسات السيادية اللبنانية"، موضحاً أن "الاتفاق نص على ضبط المنافذ الحدودية بشكل صارم، في خطوة تهدف إلى تقليص نفوذ الحزب وتعزيز سلطة الدولة".
من جهة أخرى، يرى الأمين العام لـ "المؤتمر الدائم للفيدرالية" ألفرد رياشي، أن الإدارة الأميركية المقبلة قد تحمل رؤية جديدة لتعزيز الاستقرار والسلام في المنطقة. ويعتقد أن الدور الأميركي سيتجاوز الوساطات إلى دعم مبادرات سلام شاملة.

مواجهة الشيوعية

ويشير رياشي إلى أن "الحضور الأميركي في لبنان بدأ يتبلور مع نهاية الحرب العالمية الثانية، وتراجع النفوذ الفرنسي. في ذلك الوقت، أصبح لبنان محط اهتمام الولايات المتحدة وسط مخاوف من انتشار الشيوعية وتعاظم نفوذ الاتحاد السوفياتي". وأضاف أن "عام 1950 شهد تحولاً كبيراً، حيث دعمت الولايات المتحدة لبنان باعتباره دولة متقدمة في منطقة الشرق الأوسط. وبرز هذا الدعم خلال أزمة 'ثورة 58'، عندما تدخلت القوات الأميركية لدعم الرئيس السابق كميل شمعون ضد تهديدات داخلية. ويُعد هذا التدخل أحد أبرز الشواهد على الدور الأمني والعسكري الذي لعبته الولايات المتحدة في دعم الاستقرار السياسي في لبنان".
في السياق نفسه، أوضح رياشي أن "الولايات المتحدة كثّفت دعمها للجيش اللبناني في عام 1983، حيث قدمت الأسلحة والعتاد، لكن الأحداث الأمنية، مثل تفجير السفارة الأميركية ومقر المارينز، دفعت واشنطن إلى تقليص وجودها العسكري المباشر مع استمرار الدعم اللوجيستي والتدريبي".

التعليم والديمقراطية والقطاع المصرف

من ناحيته، تحدث رئيس مؤسسة "جوستيسيا" الحقوقية، المحامي بول مرقص، عن دور الجامعة الأميركية في بيروت منذ تأسيسها في عام 1866. وأوضح مرقص أن "الجامعة الأميركية التي تُعتبر واحدة من أعرق الصروح الأكاديمية في المنطقة، خرّجت نخبة من الشخصيات البارزة في السياسة والإعلام والثقافة". وشدد على أن "هذه المؤسسة لعبت دوراً أساسياً في نشر القيم الديمقراطية والحرية الفردية في لبنان، ما جعلها إحدى ركائز العلاقات الأميركية- اللبنانية".
وأشار مرقص إلى أن "لبنان، بتأثره بالنموذج الديمقراطي الأميركي، أصبح مركزاً للحوار الثقافي والفكري في المنطقة. وعلى رغم التحديات الراهنة، لا تزال الجامعة الأميركية في بيروت تمثل رمزاً للشراكة الثقافية والتعليمية بين البلدين".

كما تناول ألفرد رياشي العلاقة بين الولايات المتحدة والقطاع المصرفي اللبناني، مسلطاً الضوء على دور الخزانة الأميركية في فرض الرقابة على مصرف لبنان المركزي. ولفت إلى أن "هذه الرقابة ترتبط بمخاوف أميركية من استخدام النظام المصرفي اللبناني لتبييض (غسيل) الأموال وتمويل الأنشطة الإرهابية".
وأشار رياشي إلى أن "إدارة مصرف لبنان السابقة أظهرت أحياناً تساهلاً في تطبيق القوانين والعقوبات الأميركية، مما أثر سلباً في العلاقة. ومع ذلك، استمرت الولايات المتحدة في تقديم الدعم الفني والرقابي لتعزيز الشفافية والمساءلة في القطاع المصرفي اللبناني". 

خدمة إسرائيل

يقدم المحلل السياسي قاسم قصير رؤية أخرى عند تقييم الدور الأميركي في لبنان، واصفاً إياه بأنه شكل من أشكال "الوصاية الجديدة" التي تهدف إلى إبقاء البلاد تحت سيطرة واشنطن وليس في إطار دعم استقلاله، ويقول "الولايات المتحدة لا تسعى لاستقرار لبنان أو دعم مؤسساته الوطنية، بل تهدف إلى تحقيق مصالحها الاستراتيجية، وعلى رأسها مصلحة إسرائيل".

يضع قصير العقوبات التي فرضتها الإدارات الأميركية على "حزب الله" وإيران في سياق مشروع أوسع يهدف إلى تقويض محور الممانعة، الذي يعتبره عقبة أمام تنفيذ المخططات الأميركية والإسرائيلية في المنطقة. وأضاف أن هذه السياسات ليست لدعم الجيش اللبناني أو استقرار البلاد، بل تهدف إلى ضرب القوى التي تعتبرها واشنطن عائقاً أمام تطبيع لبنان مع إسرائيل وتحقيق النفوذ الأميركي الكامل فيه.

وقال "إذا نجحت واشنطن في إضعاف الحزب بشكل كبير ستصبح القرارات السياسية والأمنية في لبنان خاضعة للإرادة الأميركية والإسرائيلية بشكل مباشر، وأية محاولة لضرب الحزب أو إضعافه تعني بالضرورة فتح الباب أمام دخول لبنان في مرحلة جديدة من الوصاية الخارجية".

يعتبر قصير أن الوجود الأميركي في لبنان، سواء عبر الدعم العسكري أو التدخلات السياسية، لا يختلف عن أشكال الاحتلال الحديث. ويضيف أن واشنطن تسعى لإخضاع القرار اللبناني بالكامل تحت نفوذها، مستغلة الأزمات الاقتصادية والسياسية كوسيلة للضغط على الدولة لتبني سياسات تتماشى مع مصالحها ومصالح حلفائها الإقليميين.

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير