ملخص
تكشف المخابئ الضخمة التي بناها الطغاة عبر التاريخ، مثل هتلر وموسوليني وتشاوشيسكو، عن عقلية الارتياب والخوف المسيطرة عليهم. وهذه الملاجئ، على رغم قوتها، تعكس هشاشتهم النفسية وتصبح رموزاً لرهابهم من شعوبهم ومصيرهم المحتوم.
سبق أن رأينا بالطبع مشاهد كهذه من قبل. بمجرد فرار الديكتاتور، تُقتحَم ممتلكاته، مما يكشف عن ثروات تفوق بكثير توقعات شعبه المظلوم. لذلك ليست الصور ومقاطع الفيديو التي وردت من دمشق خلال الأيام الأخيرة استثناء – هناك الصفوف المعتادة من السيارات الفاخرة الباهظة الثمن وثمة القصر الرخامي الذي يفتقر إلى الذائقة والروح وها هو الأثاث المبتذل والشنيع كالمعتاد. يمكننا أن نتخيل لويد غروسمان [مقدم برنامج تلفزيوني يجول في بيوت المشاهير] يأخذنا في جولة هناك متسائلاً: "من يمكنه أن يعيش في قصر كهذا؟".
تكون ثروة الرجال الأشرار من طراز بشار الأسد دائماً منهوبة من الشعوب التي يزعمون حمايتها، لكن هذه الصور لما يُسمى "ذائقة الطغاة المتكلفة" تشكل استراحة خفيفة من المشاهد الأخرى الرهيبة التي تصاحب دائماً سقوط الطغاة – أهوال السجون وغرف التعذيب.
يظهر أحد مقاطع الفيديو التي وردت من القصر الرئاسي في دمشق آلاف الأمتار من الأنفاق. وتفتح أبواب مضادة للانفجارات، لتكشف عن غرف أخرى مليئة بأثاث يبدو وكأنه من منتجات "إيكيا" أو "أم أف آي" [متجر مفروشات بريطاني] التي تعود لعام 1983. ومن الواضح أن هذه الغرف صُممت لتكون ملاجئ أو آخر أوكار الأسد وأفراد أسرته لو لم يتمكنوا من الفرار في اللحظة الأخيرة على متن الطائرة الخاصة التي أقلتهم إلى روسيا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إضافة إلى الكشف عن الذائقة المريعة للغاية، تكشف أيضاً الأشياء التي يخلفها هؤلاء الأشخاص الشنيعون شيئاً آخر عن العقلية التي تميز رجالاً مثل الأسد – وتكون تلك العقلية في الغالب مليئة بالارتياب الجنوني (بارانويا).
المخبأ هو بطبيعة الحال جانب أساسي من جوانب ممتلكات الطغاة، مما اتضح إلى حد كبير جداً عندما كنت أجري بحوثاً تمهيداً لمشاركتي في سلسلة وثائقية جديدة بعنوان "مخابئ الطغاة" Dictators’ Hideouts.
عندما نفكر في أوكار كهذه، يتبادر إلى الذهن فوراً الفوهرربانكر (مخبأ الزعيم النازي) الشهير الخاص بأدولف هتلر والواقع في برلين. كان هذا البناء – بسماكة سقوفه الخرسانية التي تصل إلى ثلاثة أمتار – دليلاً واضحاً على أن أقوى الجدران يبنيها الأكثر جبناً. صُمم المخبأ لحماية هتلر ودائرته الداخلية، وكان أكثر ملاذات الديكتاتور شهرة – ليس أقلها لأنه كان المكان الذي أنهى فيه حياته – لكن هتلر امتلك كثيراً من المخابئ الأخرى.
على رغم شهرة بعضها مثل "وكر الذئب" Wolf’s Lair، قلما تذكر شبكة الأنفاق والمخابئ الضخمة والغامضة الممتدة تحت قلعة كشاز Książ Castle الواقعة في منطقة سيليزيا السفلى البولندية، والمعروفة مجتمعة باسم مشروع "ريزه" Riese. فالأنفاق بناها نحو 13 ألف أسير، وتمتد لمسافة تقارب 5.5 ميل (8.85 كيلومتر)، ولا تزال حتى اليوم مستكشفة جزئياً فقط، ويختلف المؤرخون حول الغرض منها.
ومع ذلك، لا شك في أن مشروع "ريزه"، بموقعه البعيد المقترن بقلعة ومجمع تحت الأرض، كان سيشكل ملاذاً أفضل بكثير لهتلر من مخبئه في برلين أو ملاذه الواقع في جبال الألب الذي يجري الحديث عنه كثيراً.
حليف هتلر، بينيتو موسوليني، امتلك ذائقة مشابهة في بناء المخابئ تحت الأرض، وعكس تلك الحقيقة التي يتسم بها الديكتاتوريون جميعاً – كلما طال بقاؤهم في السلطة، ازداد الارتياب الجنوني عندهم، بالتالي ازدادت ضخامة المخبأ. وكان مخبأ موسوليني الأول عبارة عن مشروع متواضع نسبياً في قلب روما، ولم يكُن يتسع سوى لـ15 شخصاً.
لكن مع تراجع قبضة الديكتاتور الإيطالي على السلطة، شرع في بناء مجمع ضخم تحت الأرض في جبال مونتي سوراتي، الواقعة على بعد 30 ميلاً (50 كيلومتراً) من العاصمة الإيطالية. وبلغت مساحة المخبأ 35 ألف متر مربع، وكان غير قابل للاختراق عبر أي غارة جوية، وأمكن إغلاقه تماماً لجعله منيعاً إزاء أي هجوم غازٍ. ومع ذلك، لم يستخدم موسوليني هذا الملجأ الضخم أبداً، وبعد الحرب، استخدمه حلف شمال الأطلسي (ناتو) بدلاً منه.
وعلى رغم الرهاب الذي سيطر على كل من هتلر وموسوليني، عكست مخابئهما في الغالب خوفاً من تهديدات خارجية بدلاً من تلك التي تصدر عن شعبيهما المستعبدين. وفي حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ظهر نوع جديد من الديكتاتوريين – مثل الأسد – يتضح أنهم بنوا ملاجئهم خوفاً من هجوم من داخل حدود بلدانهم. وبطبيعة الحال، لا يكون هذا السبب هو المعلن أبداً، بل كانوا دائماً يحذرون مواطنيهم الخاضعين لحكمهم من أن بلادهم معرضة للتهديد من بلدان أخرى.
خذوا، مثلاً، الديكتاتور الروماني نيكولاي تشاوشيسكو الذي أمر في منتصف ثمانينيات القرن الـ20 ببناء "قصر البرلمان" في بوخارست الذي ينم حقاً عن جنون العظمة، واستلزم إنجازه إزالة حي بأكمله وتشريد 40 ألف شخص، واستغرق المهندسون المعماريون 13 عاماً لإتمام بناء هذا الهيكل الذي تبلغ مساحته 365 ألف متر مربع. فالمبنى ضخم جداً بالفعل وثقيل إلى درجة أنه يغوص في الأرض نحو ست مليمترات سنوياً، مما سيؤثر يوماً ما من دون شك في الطوابق الثمانية الواقعة تحت الأرض والمصممة لتكون مخبأ نووياً لتشاوشيسكو وأتباعه.
ومع ذلك، كما اكتشف تشاوشيسكو وزوجته إلينا في أواخر ديسمبر (كانون الأول) عام 1989، لا مخبأ مهما كان حجمه وعمقه يستطيع حماية الديكتاتور إذا أراد شعبه حقاً الإطاحة به. فاعتُقلا بعد هروبهما من العاصمة، وأصدرت في حقهما محكمة شكلتها حكومة موقتة حكماً بالإعدام، وأعدمتهما وحدة من الجنود يوم عيد الميلاد، ووثق مقتلهما بصورة مهينة مقطع فيديو.
لكن من بين الطغاة جميعاً، كان أكثرهم هوساً ببناء المخابئ هو أنور خوجة. بلغ رهاب الديكتاتور الألباني مستوى غير مسبوق، فأنشأ مخابئ للجميع. وخلال فترة حكمه بين عامي 1944 و1985، تحولت ألبانيا إلى بلاد تزخر بالمخابئ، إذ بُنِي 173 ألف ملجأ صغير على شكل قبة في أنحاء البلاد كلها. وكانت هذه المخابئ مصممة لتتحمل الهجمات العسكرية، وكان يفترض أن توفر لكل عائلة ألبانية قلعتها الخاصة. بالطبع، لم يستخدم عدد كبير منها قط، لكنها تظل شاهداً غريباً على سياسات خوجة الانعزالية ومخاوفه المفرطة.
وبالطبع، امتلك خوجة نفسه مخابئ أكثر تطوراً، بما في ذلك شبكة من الأنفاق تقع تحت الأرض تربط بين المباني الحكومية الرئيسة في العاصمة تيرانا. وكان مخبأه الشخصي الذي يضم غرفة اجتماعات ومساحات للمعيشة، مكاناً كئيباً ومجرداً من الجماليات، يعكس حكمه المتقشف والقمعي.
باختصار، يعرف المرء هؤلاء الرجال من خلال مخابئهم. فكلما كبرت مخابئهم وازدادت عمقاً، ازدادت من دون شك هشاشتهم النفسية وخوفهم من شعوبهم. وعلى رغم قوتهم الظاهرة، يكون رجال مثل بشار الأسد في نهاية المطاف سجناء مخاوفهم، ينسحبون إلى مخابئ لا توفر لهم الأمان الحقيقي، بل تعمل كرموز للرهاب الذي يعيشونه.
يشارك غاي والترز في سلسلة "مخابئ الطغاة" التي تعرض على قناة "سكاي هيستوري"
© The Independent