ملخص
لعبت تركيا دوراً مهماً من خلال وساطتها بين إثيوبيا والصومال، خلال أزمة المنفذ البحري، إذ تمكنت من جمع الطرفين لتوقيع اتفاقية في ديسمبر الجاري بأنقرة. ومن المرتقب أن يتوجه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في يناير المقبل إلى كل من مقديشو وأديس أبابا لمتابعة تنفيذ الاتفاقية.
كشف الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود أن بلاده سمحت لتركيا بإنشاء قاعدة لإطلاق الأقمار الاصطناعية على الأراضي الصومالية. وقال شيخ محمود في لقاء لرجال أعمال في العاصمة مقديشو "إن أهمية استضافة الصومال لقاعدة إطلاق الأقمار الاصطناعية التركية تتجاوز بقيمتها مليارات الدولارات من الاستثمارات، كما تؤكد الدور الاستراتيجي للصومال على الساحة العالمية".
ويرى المراقبون أن المشروع الذي تصل تكلفته إلى 6 مليارات دولار أميركي يعزز طموحات أنقرة في اختبار الصواريخ بعيدة المدى واستكشاف الفضاء مع ترسيخ علاقاتها المتنامية مع الدولة الواقعة في القرن الأفريقي، إذ تسعى تركيا للاستفادة من الموقع الاستراتيجي للصومال قرب خط الاستواء، من خلال تسهيل إطلاق الصواريخ بكفاءة فوق المحيط الهندي، في حين يستفيد الصومال من توفير فرص العمل وزيادة الاستثمار.
ونمت علاقة تركيا بالصومال بشكل مطرد منذ زيارة الرئيس رجب طيب أردوغان في عام 2011، التي شهدت البدء باستثمارات في البنية الأساسية الصومالية واسعة النطاق، والمساعدات الإنسانية.
قاعدة عسكرية ومحطات تنقيب
كما عززت أنقرة حضورها في منطقة القرن الأفريقي من خلال الصومال، إذ شيدت أكبر قاعدة عسكرية لها في الخارج، في سبتمبر (أيلول) 2017، في مقديشو. وتضم القاعدة الواقعة على ساحل المحيط الهندي، ثلاث مدارس عسكرية بجانب منشآت أخرى، وتعد أكبر معسكر تركي للتدريب العسكري خارج تركيا.
وفي أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وصلت سفينة الأبحاث التركية "أوروتش رئيس" إلى الصومال، صحبة فرقاطتين من البحرية التركية، إلى جانب سفن الدعم، بغرض إطلاق نشاطات البحث عن النفط والغاز الطبيعي قبالة سواحل الصومال، بموجب اتفاقية للتنقيب عن الهيدروكربونات وإنتاجها، وقّعها البلدان في يوليو (تموز) الماضي، للتنقيب عن النفط والغاز، في مناطق تمتد على مساحة 5 آلاف كيلومتر مربع تقريباً.
ويرى مختصون في شؤون القرن الأفريقي، أن التوجه التركي الجديد نحو الصومال والذي بدأ منذ عام 2011، يهدف بالأساس إلى تأكيد الحضور الاستراتيجي لأنقرة الطامحة في تعزيز أدوارها الدولية من خلال إعادة تموضعها في الممرات المائية الأكثر تأثيراً في الملاحة الدولية.
كما لعبت تركيا دوراً مهماً من خلال وساطتها بين إثيوبيا والصومال، خلال أزمة المنفذ البحري، إذ تمكنت من جمع الطرفين لتوقيع اتفاقية في ديسمبر (كانون الأول) الجاري بأنقرة. ومن المرتقب أن يتوجه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في يناير (كانون الثاني) المقبل إلى كل من مقديشو وأديس أبابا لمتابعة تنفيذ الاتفاقية.
أهداف التوجه التركي
من جهته، يرى المختص في الشأن الصومالي، محمد عيدي، أن "للعلاقات التركية الصومالية جذوراً تاريخية قديمة، تعود إلى القرن الرابع عشر إبان الحكم العثماني، حين كانت سلطنة عدل الصومالية تبسط سيطرتها في منطقة القرن الأفريقي، وخاض الصوماليون آنذاك حروباً طاحنة ضد الحبشة والبرتغال، بزعامة فاسكو دي غاما. إذ كان الغزو البرتغالي يسعى للعبور إلى البحر الأحمر والسيطرة على المقدسات الإسلامية في منطقة الحجاز، وذلك من خلال اجتياز الخطوط الدفاعية للصوماليين، مما دفع قادة السلطنة الصومالية إلى الاستنجاد بالعثمانيين لرد الغزاة".
وتابع عيدي أن "الحكم العثماني أمدهم بمدافع ميدانية متطورة، الأمر الذي قلب موازين القتال لمصلحة سلطنة عدل بقيادة الزعيم الروحي أحمد إبراهيم الغازي الذي سيطر حينها على مدينة غوندر عاصمة الحبشة ورد الغزو البرتغالي".
ويكشف المختص الصومالي أن "العلاقات التركية- الصومالية شهدت بروداً خلال العقود الخمس الماضية، لأسباب مختلفة. كما أدى انهيار الدولة الصومالية في عام 1991، ودخول البلاد في حرب أهلية طاحنة إلى شبه قطيعة بين البلدين"، مشيراً إلى أن "تعافي الصومال وعودته النسبية إلى الساحة الدولية أدى إلى إعادة إحياء العلاقات التاريخية بين البلدين، وتجسد ذلك في زيارة الرئيس التركي لمقديشو في عام 2011، حين أطلق عدداً من المشاريع التنموية والإغاثية. كما سمحت الزيارة الثانية لأردوغان في عام 2015 بافتتاح أكبر مستشفى في شرق أفريقيا، وتنفيذ مشروع توأمة بين مقديشو وإسطنبول".
الأبعاد الاستراتيجية
كذلك لفت عيدي إلى أن "لتركيا أهدافاً استراتيجية واضحة لتواجدها في الصومال، إذ تسعى لتأكيد حضورها ضمن الاستراتيجيات الدولية في منطقتَي القرن الأفريقي وحوض البحر الأحمر، على اعتبار أنها قوة صاعدة في المحيط الدولي عموماً".
ويقرأ الباحث الصومالي الأبعاد الاستراتيجية للسعي التركي نحو هذه المنطقة عموماً والصومال بشكل خاص، في عدة أبعاد، الأول هو البعد الاستراتيجي والعسكري، إذ شيدت تركيا أكبر قاعدة عسكرية لها خارج أراضيها في جنوب مقديشو على سواحل المحيط الهندي، وتسهم من خلال هذه القاعدة في تأهيل الكوادر العسكرية الصومالية إلى جانب إسهامها في حفظ السلام والأمن. أما البعد الثاني فيتمثل في الملف الاقتصادي والتجاري، إذ تمكنت أنقرة من توقيع اتفاقيات تتعلق بالتنقيب عن البترول والغاز الطبيعي على طول السواحل الصومالية. في حين أن البعد الثالث للاستراتيجية التركية، يتمثل بالبعد الجيوسياسي، إذ تطمح أنقرة إلى تثبيت تواجدها ضمن الاستراتيجيات الأمنية والسياسية في المنطقة، بخاصة أن المنطقة تشرف على مرور نحو 14 في المئة من الملاحة التجارية الدولية، لا سيما النفط الخليجي نحو أوروبا، كما تسعى أنقرة إلى المساهمة في الجهود الدولية الخاصة بمحاربة الإرهاب والجريمة المنظمة في هذه المنطقة التي شهدت نشاط القرصنة الأكبر خلال القرن الحادي والعشرين.
أما البعد الرابع فيظهر في السعي التركي لتوسيع الأسواق الأفريقية أمام البضائع التركية، إذ يمثل الصومال بوابة مهمة نحو دول الشرق الأفريقي، بخاصة في ظل تبني مقديشو لسياسات منفتحة للتجارة الدولية.
وختم عيدي حديثه بالإشارة إلى "الأدوار السياسية الفاعلة التي تبنتها أنقرة تجاه الأزمة الديبلوماسية بين أديس أبابا ومقديشو، إذ تمكنت من ايجاد حلول آمنة وسلمية للخلاف الذي كاد أن يتحول إلى حرب إقليمية، بخاصة بعد طلب الصومال سحب القوات الإثيوبية العاملة ضمن قوة حفظ السلام في الصومال واستبدالها بقوات مصرية.
ويرى عيدي أنه "بعد ثلاث جولات مكوكية من المفاوضات، بين ممثلي إثيوبيا والصومال، تمكن الرئيس أردوغان من اقناع رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد بالتخلي عن مذكرة التفاهم الموقعة مع إقليم صوماليلاند حول ضمان منفذ بحري سيادي لإثيوبيا على السواحل الصومالية، واستبدال ذلك بتوقيع اتفاقية مع مقديشو تنص على استئجار ميناء بحري تحت السيادة الصومالية، بما يكفل وصولاً آمناً لأديس أبابا إلى المحيط الهندي، مقابل حفاظ الصومال على سيادته ووحدة أراضيه"، معتبراً ذلك "انتصار للطرح الصومالي وحفظاً لماء وجه إثيوبيا".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
انتشال مقديشو
بدوره اعتبر الباحث الإثيوبي في شؤون القرن الأفريقي، سلمون محاري، أن "للتوجه التركي الجديد نحو القرن الأفريقي، أهدافاً داخلية وخارجية مهمة، فأنقرة التي امتد حكمها على سواحل البحر الأحمر أثناء الفترة العثمانية السابقة، تسعى إلى إعادة تفعيل نفوذها التاريخي، وتأكيد أدوارها السياسية والاستراتيجية وفق قواعد جديدة تتماشى والأوضاع الدولية الحديثة". وأضاف سلمون أنه "على رغم التواريخ السلبية التي ميزت الفترة العثمانية في إثيوبيا، لجهة دعم السلطنة للغزو الصومالي للأراضي الإثيوبية، فإن الإدارة الإثيوبية الحالية تسعى إلى بناء علاقات متينة مع أنقرة وفق أسس جديدة، في حين يسعى الصوماليون إلى الاستقواء بدول إقليمية منها تركيا ومصر في مواجهة المطالب الإثيوبية المتعلقة بالوصول الآمن إلى البحر".
وأقر سلمون بأن "التوجه التركي الجديد، على رغم بعض المخاوف التي تبديها بعض النخب الإثيوبية تجاهه، فإنه حقق لإثيوبيا مكاسب عدة، لعل أهمها انتشال مقديشو من تحالفات سياسية وعسكرية تستهدف إثيوبيا، من بينها التحالف الثلاثي المصري- الإريتري- الصومالي".
ولفت إلى أن "لكل من القاهرة وأسمرة أهدافاً سياسية واستراتيجية متباينة تستهدف الدولة الإثيوبية، ومع عقد القمة الثلاثية بين مصر وإريتريا والصومال في العاصمة الإريترية، استشعرت أديس أبابا بالخطر، بخاصة بعد قرار مقديشو نشر قوات مصرية على الحدود الصومالية المشتركة مع إثيوبيا. وبالتالي فإن مَن أوصل كل من آبي أحمد وحسن شيخ محمود إلى اتفاق أنقرة، قد انتشل الصومال من هذا التحالف الثلاثي. وبناءً على ذلك، فإن أديس أبابا تنظر إلى الدور التركي المتنامي في القرن الأفريقي بنوع من الارتياح المشوب بالحذر".
لعبة المصالح والنفوذ
إلى ذلك، أوضح سلمون أنه "لا يمكن النظر إلى التوجه التركي في القرن الأفريقي بشكل مستقل عن الاستراتيجية الدولية الفاعلة في المنطقة، إذ تنسق أنقرة جهودها مع القوى الغربية، وهذه القوى في الغالب تدعم المواقف الإثيوبية". وشرح أن "القاعدة العسكرية التركية في الصومال تؤهل نحو 1500 مجند صومالي سنوياً، بغرض إعادة بناء الجيش الصومالي، ما يقلل من أخطار تأهيل كوادر الجيش الصومالي في إريتريا".
وأشار محاري الى أن "العلاقات الإريترية- التركية تكاد لا تذكر مقارنةً بالعلاقات الإثيوبية- التركية، كما أن ثمة تنافساً تاريخياً بين أنقرة والقاهرة، ما يسهم في تقليل الأخطار التي تستشعرها أديس أبابا". وأضاف أن "من مميزات اتفاق أنقرة بين إثيوبيا والصومال، أن الوسيط التركي يعد ضامناً لتنفيذ الاتفاقية، باعتبار أن أنقرة تتمتع بنفوذ طاغٍ في الصومال، سواء لجهة تواجدها العسكري الفعلي على الأراضي الصومالية، أو لجهة العلاقات التجارية والاقتصادية والمالية المتشابكة مع مقديشو بما في ذلك مشاريع التنقيب عن النفط، وبالتالي تتمتع بنفوذ كافٍ لإنفاذ الاتفاق. كما أن حجم الاستثمارات التركية في إثيوبيا بلغ هذا العام نحو 3.3 مليار دولار ما يجعلها ثاني أكبر مستثمر في البلاد، بالتالي فإن لمصالحها التجارية والمالية في إثيوبيا تأثيراً مهماً".