ملخص
السؤال الذي يفرض نفسه ما إذا كان انتصار قوى الإسلام السياسي في سوريا، حتى لو مرحلياً، مغرياً لنظيرتها في ليبيا بأن تواصل محاولاتها لفرض السيطرة الكاملة على الدولة الليبية
قدّمت القائم بأعمال المبعوث الأممي إلى ليبيا ستيفاني خوري منتصف الشهر الجاري ما سمّته "مبادرة جديدة"، في إفادة لمجلس الأمن، وتضمنت تشكيل لجنة فنية تضم مجموعة كبيرة من الخبراء الليبيين تكون مهمتها تحديد الأولويات والمحطات الرئيسة، لتشكيل حكومة توافقية تهدف إلى إنهاء الأزمة السياسية، ووضع حلول للمشكلات العالقة الخاصة بالقوانين الانتخابية.
ومن ناحية أخرى، شهدت المسألة الليبية منذ نحو أسبوع اجتماعاً تشاورياً في مدينة بوزنيقة المغربية بين مجلسي النواب والأعلى للدولة، ناقش تحريك الأمور، والبحث عن تفاهمات جديدة.
وقد نتجت عن كل هذه التحركات ردود فعل سلبية بأكثر منها إيجابية، وبالتوازي مع هذا تثار تعقيدات أكبر مما هو مطروح من أن روسيا تنقل من قواعدها في سوريا، بخاصة من قاعدتي طرطوس وحميميم معدات وأسلحة إلى قواعد ومراكز في ليبيا. وفي الحقيقة أن التطورات الأخيرة في ليبيا تصب في اتجاهات عدة ومثيرة للتساؤلات، ومن المهم ربطها بجملة مشهد الصراع الدولي والإقليمي الراهنة.
المسار الدائري لتحركات إنهاء النزاع
دخل الصراع في ليبيا وحوّلها مساراً داخلياً معقداً منذ توقيع اتفاق الصخيرات عام 2015، الذي أنشأ ترتيباً لحكومة معترف بها دولياً في مقابل حكومة تابعة لمجلس النواب المنتخب. وفي البداية كانت من خلال توافق بين مجلس النواب الليبي الذي انتقل من طبرق إلى بنغازي، لكنه لا يبارح شرق ليبيا، وقوى سياسية متنوعة لم تجد تمثيلاً مناسباً في الانتخابات، وأغلبها من فصائل الإسلام السياسي، وبعضها يستند إلى مجرد ميليشيات مسلحة، ومن ثم نشأت حكومة الوفاق الوطني برئاسة فائز السراج، التي استُبدلت بعد تصاعد المواجهة بين معسكري شرق وغرب البلاد إلى حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبدالحميد الدبيبة، وكلتا الحكومتين خضعت لسيطرة تيارات الإسلام السياسي بدرجات مختلفة من مرحلة إلى أخرى.
وعبر هذه الأعوام، أي منذ اتفاق الصخيرات، ترسّخ انقسام واقعي في البلاد بعدما نجحت قوات الجيش الليبي برئاسة خليفة حفتر في فرض سيطرتها على أغلب مناطق شرق وجنوب البلاد وطرد ميليشيات التطرف الديني من هذه المناطق، في وقت رسّخت فيه هذه الميليشيات سيطرتها على غرب البلاد، إذ تجد مساحة تحرك أوسع، واتضح تدرجاً أن حفتر المدعوم بمجلس النواب المنتخب ومن قوى إقليمية استعان أيضاً بميليشيات أجنبية، ثم زاد وضوح الدعم الروسي له، مما أسفر عن تراجع دعم أطراف غربية تحديداً فرنسا وتباعد أميركي بصورة خاصة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي نهايات عام 2018 و2019 واصلت قوى معسكر الشرق تقدمها للقضاء على الميليشيات المسلحة غرباً حتى حاصرت العاصمة طرابلس، التي كانت على وشك السقوط لولا تدخل تركي قوي بدأ بتوقيع اتفاق تعاون سياسي وعسكري مع السراج من خلال نقل قوات من الميليشيات التابعة لها في سوريا، وبعد ذلك مستشارون أتراك وتوظيف سلاح المسيرات التي كان إدخالها ساحة القتال في ليبيا جديداً على الطرفين، مما أدى إلى تراجع قوات حفتر شرقاً، وحاولت قوات الغرب مطاردتها، لكنها اضطرت إلى التوقف بعد الإنذار المصري والتدخلات الدولية.
وبعد ذلك تجمّد الصراع العسكري بدرجة كبيرة، وأصبحت البلاد تشهد موجات متتابعة من الأزمات والمواجهات السياسية والإعلامية بين المعسكرين، وتداخل معها موجات من التدخلات الدولية في ما سمّى عملية برلين الأولى والثانية، التي أسفرت عن إقالة السراج وتعيين حكومة الوحدة الوطنية لعبدالحميد الدبيبة الذي بدأ منفتحاً على الأطراف الدولية والإقليمية المختلفة، ثم تباعد بدرجة كبيرة عن معسكر الشرق وعمّق من تحالفاته مع تركيا وفصائل الإسلام السياسي.
وقد عكست ردود الفعل لمبادرة خوري حال الاستقطاب التي عكسها غموض المبادرة، واستبعادها مجلسي النواب والأعلى للدولة، مما أدى إلى تعدد ردود الفعل المتحفظة ضد هذه المبادرة الأممية، التي رحبت بها القوى الغربية الرئيسة من دون تأييد روسي أو صيني، فضلاً عن طرح روسيا أهمية الإسراع بتعيين مبعوث أممي، مما يعكس عدم رضاها عن دور القائم بالأعمال الأميركية خوري ومعارضتها مواصلة عملها التي ستنتهي في جميع الأحوال بداية العام المقبل.
الاجتماع التشاوري في المغرب
وبالنسبة إلى انعقاد الاجتماع التشاوري في بوزنيقة في المغرب فقد جرى في إطار التجاذبات نفسها، إذ شارك من جانب المجلس الأعلى للدولة خالد المشري، الذي يتنازع مع محمد تكاله على رئاسة المجلس، والأخير متحالف مع الدبيبة وتتباعد مواقفه من معسكر الشرق.
وأسفرت الاجتماعات عن الاتفاق على تشكيل ست لجان مشتركة، للبحث في إعادة تكليف سلطة تنفيذية جديدة تتألف من حكومة ومجلس رئاسي جديد، ويكون من مهماتها التواصل مع البعثة الأممية، ومع الأطراف المحلية والدولية بهذا الشأن.
ومن يسترجع سجل الاجتماعات السابقة بين الجانبين لن يجد إضافة كبيرة مع تذكر أن اتفاق الجانبين حول القواعد القانونية للانتخابات ما زال يواجه معارضة الدبيبة ومحمد تكاله، أي بمعنى آخر أن مبادرة ستيفاني خوري والاجتماع السابق الذكر لا يزالان يدوران في المسارات المغلقة نفسها، التي تعانيها المسألة الليبية منذ تجميد الصراع العسكري في 2019.
التحركات الروسية وتساؤلات مبررة
أبرزت مواقع إعلامية غربية عدة مسألة نقل روسيا عتاداً عسكرياً من قواعدها في طرطوس وحميميم السورية إلى مراكز في شرق ليبيا، في ضوء التطورات الأخيرة في الساحة السورية، وإن كانت أغلب هذه المصادر اعتبرت أن هذا التحرك يأتي في إطار تفهم روسي منطقي لضيق خياراتها في سوريا بعد انهيار حكومة الأسد الحليفة معها منذ عقود، الذي تعمّق بعد اعتماد بشار الأسد على موسكو في مرحلة سابقة.
وإذا كنا ننطلق من فرضية أن ما حدث من سقوط الأسد هو حلقة أخرى في الصراع داخل سوريا وخارجها، في مرحلة سابقة انتصرت إيران وروسيا، ثم جاء الانتصار التركي الأخير ليسجّل حلقة في معركة النفوذ والولاءات، ولا تعني بالضرورة التأكد من أن الصراع قد حسم نهائياً، وأن الأمور في طريقها إلى استقرار وتسويات حقيقية وإعادة بناء للدولة السورية فإن السؤال الذي يفرض نفسه ما إذا كان انتصار قوى الإسلام السياسي في سوريا، حتى لو مرحلياً، مغرياً لنظيرتها في ليبيا بأن تواصل محاولاتها لفرض السيطرة الكاملة على الدولة الليبية.
في الواقع، إن هناك تباينات كبيرة بين الساحتين السورية والليبية، أبرزها أن الجوار الجغرافي التركي لسوريا يتيح لها مزايا إستراتيجية لا تتوافر في حالة ليبيا، فخطوط الإمداد والسيطرة أطول بين تركيا وليبيا، كما أنها أيضاً طويلة بالنسبة إلى الميليشيات المسلحة داخل ليبيا ذاتها.
يضاف إلى ذلك أن سيطرة الميليشيات في الغرب الليبي ليست مسألة محسومة تماماً في ضوء تكرار التقاتل بين هذه الفصائل، وأن اتساع الصراع قد يغري المكون القبلي الذي يعارض أغلبه الميليشيات التي توظف الدين في السياسة للتحرك. ومن نماذج ذلك التمرد الذي شهدته مدينة بني الوليد منذ أقل من أسبوع، والذي نادى بطرد المرتزقة والقوات الأجنبية، وواصل رفع الشعارات المؤيدة للقذافي الراحل ولنجله سيف الإسلام.
وفي جميع الأحوال، إلى أن يجد أحد طرفي الصراع في ليبيا أنه آن أوان الحسم وتحريك الموقف، فالواضح أن الأمور ستواصل المسار الدائري للتحركات التي لا تسير إلى الأمام بصورة حقيقية، وستواصل الأطراف إنتاج مبادرات شكلية لا تغير كثيراً من التوازنات، ومن ثم يستمر الجمود الراهن.