ملخص
يمكن القطع بأن ليبيا باتت الورقة الروسية الرابحة الوحيدة في لعبتها مع أميركا وأوروبا، وعليه غالب الظن لن تسمح بخسارتها مهما كانت الأكلاف في الحال أو الاستقبال.
سقط النظام السوري، نظام بشار الأسد، لم يكن بعيداً من السقوط لأسباب كثيرة، ربما في مقدمها تفكك وتحلل النسيج المجتمعي السوري الذي كان بلغ حالة متردية من النزاعات الأهلية والطائفية.
لم تصب خسائر السقوط نظام الأسد وأتباعه في الداخل السوري فحسب، بل انعكس الأمر على حلفاء سوريا التاريخيين، وفي مقدمهم الروس، أولئك الذين ارتبطوا بعلاقات متقدمة مع الأسد الأب وحزب "البعث" قبل نحو خمسة عقود، ولعل السؤال الآني "هل خسر الروس كثيراً بغياب النظام الحليف الذي مكنهم من حلمهم القديم؟".
كان الحلم منذ زمن بطرس الأكبر وكاترينا العظيمة، هو الوصول إلى المياه الدافئة في المتوسط، وهو ما أدركته روسيا بوجودها عبر الموانئ السورية. غير أنه من الواضح جداً أن الأسد أضحى في السنوات الأخيرة يشكل أزمة للروس لا حلاً، إذ فقد أقرب داعميه، من خلال إصراره على الرؤية الأحادية. لعل ما ساعد في هذا السقوط السريع الدور التركي، الذي اعتبره المفكر الروسي والفيلسوف الشهير ألكسندر دوغين نوعاً من أنواع الخيانة التي أقدم عليها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وسيدفع الثمن.
لكن دوغين، في الوقت عينه، أكد أن "الروس أجلوا لفترة طويلة تلك النهاية المأسوية لبشار الأسد، على رغم الجهود الهائلة التي بذلتها موسكو من أجل دعمه".
"من المحزن رؤية كل الجهود الروسية التي بذلت تتحول إلى لا شيء في بضعة أيام"، هكذا يعترف دوغين بأن كل ما قامت روسيا بعمله في سوريا بات في مهب الريح، لا سيما مع نظام انتقالي ذي طابع دوغمائي، حكماً لن يكون حليفاً لروسيا، مهما ادعى غير ذلك.
من هنا يمكننا التساؤل "كيف ستحرك روسيا قطعها الشطرنجية على خريطة العالم الجيوسياسية لا سيما في منطقة الشرق الأوسط؟ وهل تمتلك بالفعل موقع قدم آخر على المتوسط حان الوقت للدفاع عنه بكل ما أوتيت من قوة لا سيما في ضوء الأزمات الجيوسياسية المحيطة بها في شرق آسيا، من أوكرانيا تارة، ومن جورجيا الملتهبة تارة أخرى، عطفاً على عدد من الملفات الشقاقية لا الوفاقية عسكرياً واقتصادياً وأمنياً ومجتمعياً خلال العقدين الماضيين؟".
البديل الليبي للخسارة السورية
لم تكن سوريا بالنسبة إلى روسيا مجرد حاضنة لقاعدة بحرية أو أكثر، بل موطئ قدم للقفز على القارة السمراء، التي تعد ملعب الأمم الصاعدة في بقية القرن الـ21.
"إن خسارة القواعد العسكرية في سوريا من شأنها أن تقوض بصورة خطرة قدرة الكرملين على تنفيذ عمليات في أفريقيا، كما أن من شأنها أن تضعف موقف روسيا في ليبيا وأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، وتثير الشكوك حول نفوذها على الأنظمة الاستبدادية الأفريقية"، هكذا يقر الباحث الروسي الأصل إيفان دياكونوف من معهد "دراسة الحرب" في واشنطن، معتبراً أن القاعدة البحرية الروسية في طرطوس قدمت الدعم اللوجستي لعمليات الكرملين في القارة الأفريقية.
ولم يكن دياكونوف وحده من توقف أمام الخسائر الروسية في سوريا، ذلك أن عدداً من المحللين في المعهد عينه قطعوا بأن خسارة موسكو من خلال سقوط نظام الأسد ستعطل تناوب الأفراد وإعادة الإمداد وقدرة روسيا على فرض قوتها العسكرية في المنطقة، على أن الخوف الأكبر بالنسبة إلى الروس يتمحور حول الضعف الذي سيواجه النفوذ الروسي في ليبيا، وأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، هناك حيث تسعى موسكو إلى الحفاظ على نفوذها.
كيف يمكن لموسكو أن تواجه هذه النازلة بطريقة تكتيكية تجنبها خسارة استراتيجية، في منطقة ما زالت تمثل أرضاً خصبة لصراع متعدد الأطراف؟
المؤكد أن الكرملين سيحاول تعويض خسائره من خلال زيادة وجوده في ليبيا أو السودان، لكن الافتقار إلى الاتفاقات الرسمية مع هذه الدول والبنية التحتية الضعيفة من شأنه أن يعقد مثل هذه الخطط.
ولا يبدو الأمر بالنسبة إلى روسيا مجرد خسارة لوجستية، على أهميتها، بل تراجعاً في صدقيتها وموثوقية نفوذها عالمياً، ذلك أن انهيار نظام الأسد وعجز موسكو عن الحفاظ عليه، سيلحق ضرراً كبيراً بصورة روسيا العالمية كحليف موثوق، فضلاً عن التشكيك في نفوذها على أنظمة العالم الثالث التي تسعى روسيا إلى دعمها، فيما هدفها الجيوسياسي الأبعد هو إعادة بلورة ذاتها كقوة عظمى عالمية.
ما الذي يمكن لموسكو فعله على ساحل المتوسط في الأوقات الحاضرة؟
الحقيقة المؤكدة هي أن القواعد العسكرية الروسية في سوريا لم تعد آمنة، لا سيما في ظل سطوة جماعات المعارضة السابقة، التي لن تغفر للروس دعمهم للأسد منذ عام 2015 بنوع خاص، وحتى فراره لاجئاً.
من هنا تبدو أفضل أحلام موسكو الانسحاب العقلاني غير الفوضوي، وحتى لا يضحي مماثلاً لانسحاب أميركا من أفغانستان في بدايات حكم جو بايدن. ويمكن لروسيا، عبر التفاهمات الماورائية مع تركيا وإيران، والأولى باتت عدوة واضحة، فيما الثانية ترتبط مع موسكو برباطات براغماتية لا أيديولوجية أو دوغمائية، سحب قطعها البحرية وعديد جنودها من الأرض بصورة منطقية، لكن ذلك لا بد من أن يكون خسارة تستدعي الاختصام من حظوظ القيصر بوتين.
ويشعر المدونون العسكريون المتطرفون في روسيا، الذين قاتل عدد منهم في الحرب السورية أو غطوا أحداثها بالانزعاج إزاء سقوط نظام الأسد، وينتقدونه باعتباره فشلاً آخر للسياسة الخارجية الروسية في ممارسة والحفاظ على النفوذ في المناطق ذات الأهمية الاستراتيجية، من هنا يبدو جلياً أنه لا بد من أن تملأ روسيا - بوتين مربعات نفوذ جيوسياسي في مواقع ومواضع أخرى في المنطقة المتوسطية ذاتها.
هل من موقع أو موضع جاهز بالفعل لاحتضان مزيد من النفوذ الروسي أنفع وأرفع من ليبيا؟
عن العلاقات الروسية - الليبية
تبدو العلاقات الروسية - الليبية قديمة نسبياً، ذلك أنها تعود لعام 1955، وشهدت فترة النفوذ السوفياتي حول العالم تعاظماً كبيراً فوق الأراضي الليبية، حتى وإن لم تكن ليبيا بصورة رسمية عضواً في حلف "وارسو".
وبدأت العلاقات الثنائية تتطور بنشاط بعد أن تولى معمر القذافي السلطة في عام 1969، إذ قام بزيارات رسمية إلى موسكو في أعوام 1976 و1981 و1985 و2008، وذلك بعد أن كانت ليبيا اعترفت بروسيا بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، واعتبار روسيا الوريث الشرعي.
كما زار بوتين رئيس روسيا الاتحادية ليبيا عام 2008، وكات هذه الزيارة بمثابة أول لقاء بين زعيمي الدولتين، وتم أثناء الزيارة توقيع عدد من الاتفاقات المهمة، منها اتفاق حول تعزيز الصداقة وتطوير التعاون، ومذكرة التفاهم الخاصة بتطوير العلاقات التجارية والاقتصادية والمالية، غير أن مجالين بعينهما مثّلا أهمية خاصة للطرفين، النفط والغاز من جهة، والتعاون العسكري وتسليح ليبيا، بنوع خاص، من جهة ثانية.
أما المجال الأول فزاد نشاط "البيزنس" الروسي في مضمار السوق الليبية، فوقعت شركة "غاز بروم" الروسية، وشركة الغاز والنفط الليبية الوطنية مذكرة تفاهم، واتفقت الشركتان على إنشاء مؤسسة مشتركة تعزز التعاون في هذا المجال.
وفي ما يخص عالم التعاون العسكري فأكدت مخازن الأسلحة التي عثر عليها بعد سقوط نظام الأسد أنه كان هناك تعاون سابق واسع جداً في زمن الاتحاد السوفياتي، في وقت نجح فلاديمير بوتين في إعادة المياه لمجاري التعاون العسكري بعد زيارته التاريخية في 2008، إذ جرى التوقيع على اتفاقات لتزويد ليبيا بأسلحة تبلغ قيمتها نحو 3 مليارات دولار .
وفي 2012 أي في وقت مقارب لسقوط نظام القذافي، كان رئيس الهيئة الفيدرالية الروسية ألكسندر فومين يعلن أن روسيا تعول على استئناف توريد الأسلحة والمعدات الحربية إلى ليبيا وغيرها من الدول التي انقطع التعاون العسكري التقني معها لتدهور الوضع السياسي فيها، والثابت أن السؤال المطروح "كيف مضى المشهد الروسي - الليبي من عند سقوط نظام العقيد إلى تهاوي نظام الفريق الأسد"؟
روسيا تعزز وجودها والغرب مستاء
ليس سراً القول إن روسيا لم تكن من الدول المرحبة بما جرى في ليبيا عام 2011، من ثورة مخططة من "الناتو" ضد نظام القذافي، إذ امتنعت عن التصويت لصالح فكرة التدخل العسكري من جانب الأطلسي حين طرحت في مجلس الأمن، وفضلت موقف الانتظار لرؤية ما ستكشف عنه الأحداث.
ما الذي كان يهم روسيا بصورة خاصة في هذه الفترة؟
الجواب عند الباحث الروسي ديمتري بريجع، وهو أن موسكو، في ذلك الوقت كانت تعيد فيه تشكيل سياستها الخارجية في عهد بوتين، كانت ركزت على استعادة نفوذها وتعزيز وجودها في المناطق الاستراتيجية حول العالم. من هنا طفت ليبيا على خريطة الأحداث، وتجلت الفرصة في دعم المشير خليفة حفتر لأسباب مختلفة، ربما في مقدمها علاقاته السابقة مع الروس، وعلمانيته التي تميزه عن الجماعات المعارضة ذات المسحة "الأصولية - الجهادية" في غرب ليبيا. على أن موسكو حاولت، قدر المستطاع، إحداث توازنات مع حكومة "الوفاق الوطني" في طرابلس، في محاولة اللعب على الأطراف كافة بهدف تعزيز مصالحها الاقتصادية والسياسية. وبدا واضحاً عند صناع القرار في روسيا أنه لا يمكن ترك ليبيا نهباً للـ"ناتو"، لا سيما أنها تتمتع بأمرين استراتيجيين يهمان موسكو غاية الأهمية:
الأول: هي أنها تطفو على بحر من النفط والغاز، مما سيجعلها مطمعاً لعدد من القوى الإقليمية والعالمية، ما تبدى واضحاً بالفعل في الدور التركي الذي اعتبره بعض منهم، وما زال، نوعاً من الاحتلال العثماني المقنع لليبيا مرة جديدة.
الثاني: هو أن ليبيا من دون أدنى شك بوابة رسمية للقارة السمراء، حيث الصراع الدائر بين أوروبا ذات النفوذ القديم الذي يضمحل يوماً بعد الآخر، والصين التي وإن بدت حليفة سياسية لموسكو اليوم، قد يتغير المشهد في الغد، عطفاً على الولايات المتحدة الأميركية، الحاضرة في كل الأوقات، والساعية إلى تأكيد حضورها الإمبراطوري وطرد القوى المغايرة.
وبحسب بريجع، فإن علاقة روسيا بليبيا تظهر بوضوح كيف أن الجيوبوليتيكا يمكن أن تتغير بمرور الزمن، ولكن بعض الأسس تبقى ثابتة.
واستثمرت روسيا في البنية التحتية الليبية والعلاقات العسكرية، ومع سقوط القذافي وجدت نفسها في موقف يتطلب إعادة تقديم عميق لاستراتيجيتها الإقليمية. ولعله ليس من قبيل السر المذاع أن روسيا تفضل النموذج الأوتوقراطي للحكم في ليبيا، ومن المؤكد أنها تدعم رجلها المشير حفتر، وهو خيار لا بد له من أن يتعزز بكل قوة، بعد سقوط بشار الأسد في سوريا، وألا يعني ذلك بالضرورة أن تغلق أبوابها في وجه حكومة "الوفاق الوطني" المعترف بها دولياً، مما يعكس سياسة خارجية مرنة تهدف إلى تعظيم المصالح الروسية في المنطقة بغض النظر عن التقلبات السياسية.
هل يعني ذلك أن الحضور الروسي في ليبيا أمر جوهري لموسكو لا سيما بعد الخسارة الجيوسياسية في سوريا؟
المياه الدافئة وطموحات قوة عظمى
ليس من باب التهويل القول إن ليبيا تعد موطئ القدم الأخير لروسيا في الشرق الأوسط، وعلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، حتى وإن كانت العلاقات بين المؤسسة العسكرية الجزائرية وبين موسكو قوية ونشطة، بل وفاعلة جداً.
ليبيا عند الروس ترتبط تاريخياً بالنفوذ القطبي، أي بالدور الروسي كقوة عظمى فاعلة على الأرض، وهذا ما تستفيض في شرحه آنا بورشفسكايا الباحثة الروسية في أكثر من معهد وشركة منها شركة "أوكسفورد أناليتكا" البريطانية.
في أكتوبر (تشرين الأول) من عام 2019، أخبر مصدر مطلع على العلاقة بين حفتر وموسكو إحدى وسائل الإعلام الروسية المستقلة "ميدوسا" ما يأتي "كان يهمنا حينئذ، أي في عام 2015، عدم وجود عناوين رئيسة مثل روسيا تواصل التوسع في الشرق الأوسط، أو ليبيا هي التالية بعد سوريا"، إلا أن العلامات التي تدل على تبلور هذا السيناريو بالضبط كانت كثيرة ووفيرة. ووفقاً لبعض التقارير، تواصل حفتر مع موسكو للحصول على الدعم عام 2015 تقريباً. وفي المقابل، وعد بمنح روسيا اتفاقات الطاقة وإمكان دخول الموانئ التي طمحت إليها موسكو من قبل.
وتقبل بوتين العرض، وبدأ يوفر لحكومة حفتر في طبرق المشورة العسكرية والدعم الدبلوماسي في الأمم المتحدة، وحتى أموالها الخاصة المطبوعة. أما المشير حفتر فمن جهته قام برحلات عدة إلى موسكو منذ عام 2016، وفي يناير (كانون الثاني) 2017 دعي إلى القيام بجولة على متن حاملة الطائرات الروسية الوحيدة في طريق عودتها للوطن من المياه السورية، ويعتقد بعض المراقبين أنه وعد موسكو بإعطائها إمكان دخول إضافي خلال هذه الرحلة. وفي ذلك العام نفسه نقلت موسكو جواً عشرات من جنود حفتر الجرحى إلى روسيا لتلقي العلاج، وفي نوفمبر (شرين الثاني) 2018 زار حفتر موسكو مجدداً.
هل باتت ليبيا بالفعل المركز الحيوي لأنشطة موسكو في أفريقيا؟
غالب الظن أن هذا حدث بالفعل، وهو ما تستفيض في شرحه كيارا لوفوني زميلة أبحاث في المعهد الإيطالي للدراسات السياسية الدولية، وأليسا بافيا المديرة المساعدة لبرنامج شمال أفريقيا في المجلس الأطلسي.
وترى كيارا أنه بعد أن اكتسبت روسيا الشجاعة اللازمة بفضل انتصاراتها في سوريا، وإمكان ممارسة النفوذ في المنطقة من خلال دعم دولة عربية أخرى، بدأت في نشر المرتزقة في ليبيا في وقت مبكر من عام 2018، وهو ما يمثل نقطة تحول حاسمة عن العقدين السابقين من فك الارتباط. ومن موقعها المهمش لم تنظر روسيا إلى ليبيا باعتبارها مجرد نافذة أخرى من الفرص لإعادة الظهور كقوة عظمى تتنافس على النفوذ في شمال أفريقيا فحسب، بل أيضاً كبوابة إلى مناطق أخرى، مثل أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، ومع نشر القوات تحت سلطة الكرملين، انتهت أيام كونها في المرتبة الثانية بعد تغيير الأنظمة العربية في المناطق المجاورة، وأصبح إمكان عودة التفوق الروسي، مرة أخرى، احتمالاً حقيقياً.
هل باتت كل المميزات التي تحصلت عليها روسيا في شمال القارة الأفريقية بالفعل عرضة للضياع، لا سيما بعد فقدان الحضور اللوجستي الروسي في سوريا؟
المؤكد أن الجواب يدفع في طريق العودة الروسية لليبيا بقوة غير مسبوقة، هل بدأ هذا السيناريو في التنفيذ بالفعل خوفاً من أن يملأ آخر مربعات النفوذ الروسية في ليبيا؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بيسكوف والانتقال من سوريا إلى ليبيا
في الـ12 من ديسمبر (كانون الأول) الجاري، ذكر المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف أن بلاده ستستضيف مناقشات جادة مع السلطات السورية المستقبلية حول قاعدتيها السوريتين في تاريخ مستقبلي غير محدد.
وعلى رغم أن المسؤولين الروس حاولوا، وما زالوا، عبر وسائل الإعلام التابعة لهم تغيير توصيفهم للمتمردين السوريين من "إرهابيين" إلى "معارضة"، إلا أن الحقيقة هي أن روسيا تفكر جدياً، وربما بدأت بالفعل في نقل وجودها العسكري المسلح وبقوة إلى الشواطئ الليبية.
أحد الأسئلة المثيرة للتفكير "هل كانت روسيا تفكر بجدية في ليبيا، وحتى قبل سقوط نظام الأسد؟".
غالب الظن أن الأمر مضى على هذا النحو بالفعل، إذ أظهرت صور الأقمار الاصطناعية في الثالث من ديسمبر عينه هبوط طائرات عسكرية على مدارج تم تجديدها حديثاً، وتقع تحت سيطرتها في ليبيا، بينما يوسع الكرملين بسرعة وجوده في أفريقيا.
في هذا الصدد يقول تشارلز كاتر مدير التحقيقات في منظمة "ذا سنتري"، وهي منظمة غير ربحية مقرها واشنطن وتركز على الفساد، إن "روسيا تستخدم ليبيا كنقطة انطلاق استراتيجية لفرض قوتها في بقية القارة الأفريقية"، ويضيف "من خلال الاستفادة من الحكم المتصدع والفساد المستشري، فضلاً عن الرضا الواضح للقوى الإقليمية والدولية، رسخت موسكو نفسها بصورة متزايدة عسكرياً واقتصادياً داخل ليبيا".
وبالرجوع إلى يونيو (حزيران) الماضي، كانت هيئة الأركان العامة للقوات البحرية الليبية الخاضعة للمشير حفتر تعلن وصول الطراد الروسي الشهير "فارياج" والفرقاطة "الأميرال شابوشينكوف"، وهما سفينتان حربيتان روسيتان وصلتا إلى قاعدة طبرق البحرية شرق ليبيا في زيارة عمل، وبدت هذه الزيارة منطلقاً لتعزيز التعاون والتنسيق بين الجانبين في مجالات التكوين والصيانة والدعم الفني واللوجستي.
هذا الوجود الروسي في ليبيا، عطفاً على أنه يرسخ النفوذ الجيوسياسي الروسي في شمال أفريقيا، فإنه أيضاً يمثل باباً واسعاً تمر منه روسيا الواقعة تحت الضغوطات المالية الغربية.
وبحسب تقرير لصحيفة "ديلي إكسبريس"، فإن الوجود الروسي في ليبيا مكن موسكو من الحصول على 5 مليارات يورو (5183700000 دولار)، إضافة إلى أكثر من 2.5 مليار يورو (2591868800 دولار) من الذهب المهرب، كما سيطرت روسيا على منجم ألماس بقيمة مليار يورو (1036747520 دولار) في جمهورية أفريقيا الوسطى، بإيرادات تبلغ 300 مليون يورو (310996500 دولار).
هل هناك مخاوف أخرى لدى الروس تجعل من الضروري المبادرة بملء مربعات ليبيا قبل أن يتكرر سيناريو روسيا مرة أخرى، وهو ما يبدو أن هناك خريطة ممنهجة تعمل بعض الجهات الخارجية على تنفيذها في بلدان عربية وشرق أوسطية عدة؟
الفيلق الروسي والتحركات الاستباقية
في الأيام التي أعقبت سقوط نظام الأسد، بدأت تروج في الأخبار، أنباء عن قيام الروس بتهريب مقاتلي الأسد إلى الداخل الليبي، وانضمامهم لما يعرف بالفيلق الروسي - الأفريقي، إذ يمثلون قيمة مضافة، إذ لا يزالون متمتعين بقدرات قتالية متقدمة يمكن أن تلعب دوراً في حسم المشهد بين القوى الليبية المتقاتلة بين شرق وغرب، أي بين الذين يناصرون حفتر الحليف الروسي، والآخرين في الغرب .
هنا يبدو أن الخطأ الاستخباري الروسي، الذي طلب بوتين التحقيق في أبعاده، والمتمثل في تقدير الموقف بالنسبة إلى المعارضة الروسية، لا يود الكرملين أن يتكرر ثانية على الأراضي الليبية المهيأة بالفعل لحدوث الأمر، وبخاصة في ظل القلق الغربي من تنامي الحضور الروسي.
هل بدأت موسكو بالفعل في تحريك قطع الشطرنج السورية إلى الأراضي الليبية؟
هناك ما يشاع عن أن عناصر بعينها لا سيما من القوات الخاصة السورية، جرى تسريبها ضمن الشحنات العسكرية الروسية المغادرة، وأنه تم أو سيتم في القريب العاجل نقلها إلى ليبيا .والثابت أن روسيا بالفعل في حاجة إلى تعزيز القوتين النيرانية والقتالية لعناصرها حتى تتمكن من بسط نفوذها في القارة السمراء، لذلك يبدو منطقياً أنها ستلجأ إلى ضم العناصر السورية الأمنية لتحول ليبيا بذلك إلى مركز لاستقطاب العناصر البشرية، إذ من المتوقع أن يرتفع عدد عناصر الفيلق الروسي - الأفريقي إلى ما يقارب 45 ألف عنصر من جنسيات مختلفة، هل سيختلف الأمر هذه المرة؟
نعم كذلك ذلك أنه وفقاً لهذا التحليل، ستتحول نواة تشكيل الفيلق الأفريقي - الروسي إلى عناصر "سورية من التي كانت خاضعة لإمرة بشار الأسد".
واليوم تبدو روسيا وكأنها قوة عظمى جريحة فقدت كثيراً من حضورها في الشرق الأوسط بعد خسارة مواقعها في سوريا، وعليه تبدو الفرصة تاريخية في إطار تبادل المواقع، وبصورة خاصة في الساحل والصحراء الأفريقيين.
ومنذ عام 2021 عرف الروس كيف يمكنهم استغلال قوات "فاغنر" لاختراق كثير من دول الساحل وبيئتها السياسية بهدف التدخل في شؤونها الداخلية، وحققوا كثيراً من المكاسب في هذا الإطار بالفعل.
ولاحقاً وبعد مقتل قائد "فاغنر" يفغيني بريغوجين، تحولت القوات عينها، إلى ما يعرف بـ"الفيلق الروسي"، التي نجحت بالفعل في تعويض النقص في الحضور العسكري، والنفوذ السياسي الذي جرى في دول أفريقية مثل بوركينا فاسو ونيجيريا، وغيرهما من الدول الأفريقية، بعد خروج القوات الفرنسية والأميركية.
اليوم تبدو الفرصة تاريخية لروسيا، في مضاعفة أعداد فيلق أفريقيا، عبر فائض القوة السوري، الذي يسعى إلى الهرب من جحافل المعارضة الصاعدة في أروقة الحكم السورية الجديدة.
نفوذ روسي متصاعد بصورة كبيرة
ولأن ليبيا هي آخر موطئ قدم لروسيا في أفريقيا وشاطئ البحر المتوسط، لهذا يبدو أن هناك إصراراً غير مسبوق لأن تكون ليبيا ستاراً حديدياً روسياً غير قابل للسقوط كما جرى في سوريا أخيراً.
في الرابع من الشهر الجاري، قالت صحيفة "التلغراف" في تقرير لها إن روسيا طورت منشآتها العسكرية، وزادت أسلحتها في ثلاث قواعد جوية في البلاد خلال عام 2024، وفقاً لبيانات تحليلية من صور الأقمار الاصطناعية، مضيفة "تواصل الطائرات العسكرية الروسية الهبوط والمغادرة من قاعدتي براك الشاطئ والجفرة"، مما يشير إلى أن عمليات تسليم الإمدادات مستمرة، وأن روسيا طورت منشآت في قاعدة براك الشاطئ، وجددت مهبط طائرات مكن الطائرات العسكرية من الهبوط.
هل في الأمر ما يشبه الاستعداد لموجهات كبرى قادمة لا محالة، من الناحية العسكرية أول الأمر، وربما من باب المقايضة السياسية الموصولة بأوكرانيا ثانياً؟
تؤكد "التلغراف" أن روسيا أخضعت قاعدة "القرضابية" لتجديدات واسعة النطاق للمدرجات، وعملت على تحصينها، وكذلك تعزيز الدفاعات المحيطة بها، وتشير إلى أن معهد "سنتري" الأميركي للتحقيقات يؤكد أمراً عجيباً يتمثل في أن قوات "حفتر" تحتاج إلى طلب الإذن للوصول إلى القواعد الروسية على الأراضي الليبية، مما يذكرنا بمشاهد سابقة لبشار الأسد، وهو يمنع من أن يتقدم بوتين في زيارته لمنشأة "حميميم" الروسية، ومنع من أحد العناصر العسكرية الروسية، انطلاقاً من أن تلك الأراضي، باتت تعد أراضي روسية، بأكثر منها سورية .
هنا يبدو التساؤل: "هل هناك تجهيزات بعينها تجري في الموانئ الليبية الخاضعة للسيطرة الروسية، ويمتنع على الليبيين الوصول إليها"؟
علامة استفهام توضح مقدار الحرص الروسي على تعزيز الحضور اللوجستي الأممي، استعداداً للأسوأ الذي لم يأت بعد.
ما الذي يتبقى في سياق البحث في عمق العلاقات الروسية - الليبية؟ وما تنوي موسكو فعله من شاطئ المتوسط في سياق مجاراتها وربما مناوراتها مع الغرب الأوروبي القريب أول الأمر؟
تعطيل صادرات الطاقة إلى أوروبا
يحتاج هذا الحديث إلى قراءة مطولة قائمة بذاتها، إذ يبدو النفط الليبي أحد أهم أهداف الوجود الروسي في ليبيا، ولا تزال الطاقة تعد أحد أسلحة النزاعات الدولية حتى الساعة.
في يونيو الماضي عرضت السلطات المتنازعة في شرق ليبيا على شركة النفط الروسية "تافتنت" امتياز بناء مصفاة نفط جديدة، مما تسبب في جدل في البلد المنقسم، إذ قال خبراء إن ليبيا لا تحتاج إلى مساعدة روسية، وهي قادرة على بناء القدرة التكريرية بنفسها. على أن القصة في واقع الحال أكبر كثيراً جداً من بناء المصافي، وهذا ما لفت إليه موقع "أويل برايس" آخر نوفمبر الماضي، إذ أشار إلى أن روسيا تعمل على إعداد استراتيجية جديدة كبرى لا تركز فقط على تعزيز الروابط بين حفتر وموسكو، بل تشمل خيار تعريض إمدادات الطاقة في أوروبا للخطر.
هل هناك هدف ماورائي روسي يجعل من أوروبا رهينة للطاقة؟
المؤكد أن إغلاق حفتر حقل "الشرارة" النفطي الليبي الذي تبلغ طاقته 300 ألف برميل يومياً في الأسابيع الأخيرة من أكتوبر الماضي، أثر بصورة رئيسة في الإمدادات للعملاء الأوروبيين، إذ كان 80 في المئة من الإنتاج يتدفق إلى أوروبا. ولعله من نافلة القول إن هناك ثأراً كبيراً بين أوروبا وروسيا، لا سيما بعد أن مضت الأولى في فرض عقوبات اقتصادية كبيرة على روسيا بعد غزو أوكرانيا ناهيك بالدعم العسكري.
ويعرف الروس جيداً أن ليبيا قد تزود أوروبا بكميات هائلة من النفط والغاز، إذا تم التوصل إلى خطة سلام واتفاق لتقاسم السلطة بين حفتر في الشرق والدبيبة في الغرب.
هنا السؤال: هل يسعى الروس إلى طرد الشركات الغربية من غرب ليبيا لضمان السيطرة الكاملة على سوق صادرات النفط لأوروبا، وأخذ القارة العجوز رهينة مرة أخرى وإلى ما شاء الله؟
تبدو الأسئلة أهم من الإجابات، غير أنه وفي كل الأحوال، يمكن القطع بأن ليبيا باتت الورقة الروسية الرابحة الوحيدة في لعبتها مع أميركا وأوروبا، وعليه غالب الظن لن تسمح بخسارتها مهما كانت الأكلاف في الحال أو الاستقبال.