Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

خبز وزيتون وسياط... ماذا قالت جدران السجون السورية؟

تحولت إلى مساحة للرسم وكتابة التذكارات كنوع من إثبات الوجود وسط خيالات التعذيب وتوقع الموت الوشيك

رائحة الموت لا تزال تعشش بين الجدران الممتلئة بالكتابات والرسوم، إنها ذكريات وتواريخ اعتقال ووجوه وآيات (اندبندنت عربية)

ملخص

كم على المعتقلين وسجناء الرأي أن يخبرونا عن أهوال السجون والأقبية؟ وماذا يحملون في جوفهم من مشاعر وقصص لحياة كانت أسيرة لسنوات خلف القضبان؟

ليس أبلغ من قصة "الطفل والعصفور" في سجن "صيدنايا" سيئ السمعة حين نريد أن نصف بؤس السجون الموغلة في القساوة كما يرويها الراحل ميشيل كيلو، فخلال الساعة الثالثة صباحاً "يفتح السجان باب زنزانتي، وينادي علي بالخروج ليقودني إلى زنزانة بداخلها امرأة بعمر الـ26 متكورة على نفسها من شدة الخوف، وإلى جانبها يجلس طفل، وقال السجان ’أتحداك أن تحكي لهذا الطفل قصة واحدة‘".

ويواصل كيلو "بدأت قائلاً له ’كان هناك عصفور‘"، فيقاطعه الطفل مستفسراً "ماذا يعني العصفور؟" ويجيبه "الذي يطير على الشجرة"، لكن الطفل يتساءل مجدداً "وماذا تعني شجرة؟". وهنا راح يغني له أغنية، ليتبين بعدها من الحارس أن السجينة جاءت منذ ستة أعوام كرهينة بدلاً من والدها المسافر إلى عمان، وأنجبت داخل السجن الطفل الذي يبلغ من العمر أربع سنوات ولم يشاهد في حياته شجرة أو عصفوراً.

رائحة الخطو والدم

كم على المعتقلين وسجناء الرأي أن يخبرونا عن أهوال السجون والأقبية؟ وماذا يحملون في جوفهم من مشاعر وقصص لحياة كانت أسيرة لأعوام خلف القضبان؟ وعلى رغم أن سجن "صيدنايا" الذائع الصيت من بشاعة ممارسات القتل والتصفية تفوق على بقية السجون بظلمه واستبداده، فإننا شاهدنا في أقبية وسجون أخرى مشانق كثيرة ورائحة الموت لا تزال تعشش بين الجدران الممتلئة بالكتابات والرسوم، نتوقف ونتفحصها، إنها ذكريات وتواريخ اعتقال ووجوه ورسم لوردة وكلمة "صباح الخير" بالخط العريض، وآية قرآنية تقول "قد خاب من حمل ظلماً".

الباحث المتخصص في شؤون السجون السورية جابر بكر يروي لـ"اندبندنت عربية" أن السجين بعد شهر أو نصف الشهر من سجنه يظهر لديه ما يسمى "الاستحباس"، إذ يبدأ بالتأقلم مع هذه الدائرة المجهولة المصير، وفيها يباشر التفكير بخيارات الحياة الداخلية عن عمله ومقاومته، أو يفكر بالأحلام أكثر من خلال السردية السجنية، ويسعى مع شركائه في الزنزانة إلى تفسير تلك الأحلام ويكون الحلم بحد ذاته مادة الصباح اليومية الأولى، وهذه الزنزانة التي لا تتعدى المترين إلى ثلاثة أمتار فيها مجموعة كبيرة من الناس، بعدها تبدأ الحركة فيسمع أصوات حركة وتنقل من مكان إلى مكان أو تعذيب أو ما شابه.

 

"الجدران هي دفاتر المساجين" هكذا يصف جابر بكر حال جداريات السجون التي تتحول إلى مساحة للرسم وكتابة التذكارات، كنوع من إثبات الوجود أو التعبير عن حال قلقة من انعدام التوازن وسط تخيلات وتوقعات التعذيب والموت السائدة.

ويضيف "هذا النوع من العلاقة داخل السجن الفني والإبداعي والنفسي يمكن ترجمته وتسميته ’المعنى‘، وهو الذي يتحدث عنه عالم النفس النمسوي فيكتور فرانكل في كتابه ’الإنسان يبحث عن معنى‘، إنه محاولة الإنسان السوري داخل الجحيم أن يخلق معنى من المعاناة الكارثية والمرعبة".

أي صوت صادر من خارج الزنزانة يبدأ المعتقلون في ترجمته، ومنه عبارات "اليوم لا يوجد حركة خارجاً"، وتفسيرها لدى السجناء أن "اليوم عطلة"، و"حركة كثيرة" تعني أن ثمة إخلاء سبيل بعد سماع أصوات إفراغ الزنزانات التي تفتح وتغلق.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يتحول السجن إلى عالم صوتي وهذه الحال الصوتية متغيرة بينما تتكرر المشاهد البصرية مثل الجدران والأقفال، المتغيران الوحيدان هما الصوت والرائحة. وتختزن الذاكرة روائح الدم إذ يفقد حينها السجين حاسة الشم لأن أكثر رائحة يستنشقها في السجن هي رائحة الدم البغيضة.

أما حاسة السمع فمدهشة في السجن لأنه من خلال سماع الأصوات الواصلة من خارج الزنزانة يمكن التعرف على الأشخاص، إذ بات السجناء يطلقون على الأصوات وأصحابها ألقاباً محددة مثل "الرقيب كاراتيه" لأنه يضرب بطريقة أشبه بلعبة الكاراتيه، وغيرها من أسماء المحققين. ويقول بكر "أتذكر عام 2002 في فرع فلسطين خلال السابعة صباحاً قالوا إن المحقق أحمد من المكتب الأول نزل إلى غرفة التحقيق، وحينها سألتهم ’كيف عرفتم بقدومه؟‘ فقالوا لي من صوت وقع حذائه على الأرض ومشيته، وهكذا بات هناك ما يوصف بـ’ذاكرة جمعية‘ وحال ضبابية مجهولة".

السجان بنصف وجه

الفنانة التشكيلة والمعتقلة السابقة رنيم معتوق تتحدث عن رسوم جدران السجون والكتابات، ليس من وجهة نظر فنية بل عن تجربة خاضتها في المعتقل، إذ كانت الأسماء وعدد الأيام أكثر الأشياء المتداولة على جدران السجون، فغالباً ما يدون السجين أسماء أبنائه أو الاسم الحركي مثل أم فلان/ة، أو أبياتاً شعرية أو جملاً تختصر وهم الانتظار، وفق رأيها.

وعن دلالات ذلك تعتقد رنيم أن الأسماء أكثر ما يعطي المعتقل/ة إحساساً بأنه لا يزال إنساناً يملك تاريخه واسمه، وثمة أناس ينتظرونه خارج القضبان.

وتروي معتوق أنه بعد فترة من الزمن يشعر المرء وكأنه أصبح جزءاً من العدم، وقد استُئصل من الزمن والأماكن، ويشعر بأنه في حاجة لأي شيء يذكره بما كان عليه، لذا كانت الأسماء الأكثر تداولاً على جدران السجون.

وتحكي المعتقلة خلال فترة حكم الأسد حكاية النساء اللاتي تشاركن معها الزنزانة، فـ"النساء الخمس اللاتي كن معي كن يطلبن مني أن أخط أسماء أبنائهن، لقد كانت إحداهن تستيقظ أحياناً وتنظر إلى أسماء أبنائها المكتوبة على الجدار وكأنها تنظر إلى صورهم، أما بالنسبة إليَّ فأذكر أنني رسمت عيناً، لقد كنت أحاول تذكر تشريح العين في الرسم، ثم رسمت واحة على رغم أنني لم أشاهد أو أرسم واحة في حياتي، إلى أن أتى المحقق المسؤول عن ملفي والملقب بمنذر (اسمه حسين كما علمت أخيراً) وشاهدني من شباك الباب أقوم بالرسم على الجدار، فاستدعاني للتحقيق وأمرني برسم وجهه على الجدار مقابل أن يطلق سراحي".

وتابعت "استغربت من الطلب، ورفضته لأنه يجب أن يكون أمامي حتى أستطيع رسمه، فقال إنه سيخرجنا مرات عدة إلى الحمام بدلاً من مرة واحدة في اليوم، وأقوم بحفظ جزء بسيط من وجهه وأنقله على الجدار، وفعلاً قمت بذلك فرسمت نصف وجهه والنصف الآخر رسمته كأس خمر يتدلى منه العنب، وعندما سألني لم فعلت ذلك أجبته بأن العين الواحدة لا ترى الحقيقة كاملة، أما كأس الخمر (لم أقل له ما قصدته بكأس الخمر) فكنت أقصد به عينه الأخرى المخمورة بالأكاذيب والعنف الذي يرى به من يقوم بتعذيبهم".

وتشرح الفنانة التشكيلة لـ"اندبندنت عربية" كيف يؤمِّن السجناء في الأفرع الأمنية أدوات كتابتهم، فالرجال يتجردون من ثيابهم ويبقون بقطعة ثياب داخلية واحدة، لذا كانت بقايا الطعام أو بذور الزيتون من أكثر الأشياء القابلة لترك أثر في الجدران، أما لدى النساء فكن يستخدمن قطعة صلبة من الثياب كانت تبقت بعد تجريدهن من الأشياء التي قد تستخدم كسلاح. وفي حالتها استخدمت مفتاح (سحاب) معطفها القطني الذي كانت ترتديه حينها.

سرديات المعتقلين

في غضون ذلك يضم المعتقل سجناء لديهم قدرة على بناء أحاديث وسرديات يومية فيها كثير من الشوق والتشويق. ويذكر الباحث بكر أحد السجناء في سجن "صيدنايا" عام 2003 واسمه محمد ويحمل الجنسية الأردنية ووالدته سورية "طالما سهرنا الليل وهو يتحدث عن صديقاته وتجارته بين تونس وتركيا، وسفره ومغامراته وحالات العشق التي عاشها، وآخرين تحدثوا عن إيداعهم سجن تدمر بطريقة سردية شديدة الدهشة".

وفي السجن لك أن تتعلم اللغات وتدرس وتشاهد طبيباً يعلم الناس، أو أحدهم يحفظ القرآن إلى آخره، إنه فضاء مليء بالزمن واستثماره وإعادة تطويعه وإنتاجه بصورة روائية وسردية وحياتية، لأن الحياة مع الآخرين في مكان واحد حياة صعبة".

 

ويتابع "شعور من الملل والتوتر فالوجوه نفسها تتكرر أمامك، وحتى لا تدخل في حال عنيفة أو صدامية كما يحصل في السجون الجنائية، يعكف السجين السياسي ومعتقل الرأي على استثمار الزمن أكثر، وهناك نماذج مثل رغيد ططري الذي قضى في السجن 44 عاماً، وهو أقدم معتقل داخل سوريا أو في العالم العربي قبل تحريره من سجن "صيدنايا" بعد سقوط النظام. ورغيد إنسان مبدع كان يصنع من العظم الذي يأتي مع الحساء اليومي بعد تنظيفه تحفاً فنية مدهشة، كما أذكر شاباً اسمه وليد كان رساماً يكرر رسم صورة والدته الشابة، وآخرين يصنعون من لب الزيتون حمالة مفاتيح أو سبحة، وفلان ينحت الخشب".

وكان الغناء بصوت منخفض أيضاً أو تأليف الأغاني إحدى وسائل البقاء على قيد الحياة، وتقول الفنانة التشكيلية والمعتقلة السابقة ريم معتوق "سمعت عن بعض الناشطين الذين كانوا يقومون بتهريب بعض الرسائل من السجون العادية وليس المعتقلات إلى ذويهم خلال الزيارة من خلال رشوة السجانين، إذ كانت تلك الرسائل تحمل بيانات أو دعوات لمتابعة نشاط سياسي معين من قبل النشطاء خارج السجن والقائمين على نشاطهم ضد الديكتاتور".

وتجيب معتوق عن سؤال حول أكثر ما يكتبه ويرسمه المعتقل "الأمهات في أكثر الأحيان وأبناؤهم والمحبوبة أو المحبوب، كل منهم يحاول استذكار آخر شخص ضمه بين ذراعيه، لقد كانت الأحضان أكثر ما يتوارد إلى ذهن المعتقلين والمعتقلات، ربما لأنه يشبه احتضان الرحم للجنين، وربما كانت رغبة دفينة بالعودة إلى نقطة البداية وتجنب الاعتقال، أحياناً يكتبون أو يرسمون مدنهم أو قراهم أو حتى مكاناً مميزاً بالنسبة إليهم".

و"لم تكن الرسوم والكتابة ممنوعة بصورة عامة، لكن بالنسبة إليَّ تعرضت للتحقيق بسبب ما قمت برسمه، وإذا ما كنت أقصد بذلك الحرية"، هذا ما أرادت معتوق قوله حول ما إذا كانت الكتابة على الجدران ممنوعة، لكن إذا كانت مسموحة فهل كان السجانون يطلعون عليها؟

تتابع ريم "لا أعتقد أن السجان كان لديه اهتمام بما كان يفعله المعتقلون، لأنهم كانوا يروننا كالحشرات أو ككائنات تتصرف بعشوائية، لذا بمجرد أن يقومون بإلقائنا في الزنازين فأي شيء يحدث بعد ذلك أمر غير مهم، لكن في بعض الأحيان كنت أسمع عن أشخاص عوقبوا نتيجة كتابتهم أو رسومهم على الجدران، ولأكون دقيقة أكثر ففي سجون الأسد لا توجد قوانين واضحة، هناك فقط أنت وحظك".

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير