Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

لماذا يرواغ الأدب والفن في معالجة التاريخ العربي؟

محمود الضبع يحلل الظاهرة عبر نصوص معاصرة مستندا إلى اعتبارات سياسية واجتماعية

لوحة للرسام شوقي عزت (صفحة الرسام - فيسبوك)

ملخص

يقدم الناقد المصري محمود الضبع في أحدث كتبه وعنوانه "التاريخ المراوغ في الآداب والفنون البصرية" (بيت الحكمة - القاهرة)، دراسة تحليلية ثقافية تعالج سعي الفنون والآداب إلى استثمار التاريخ، على رغم عدم الوفاء للوقائع تحت ضغط السياسة والمجتمع.

يسعى الناقد محمود الضبع إلى ربط النقد العربي بين الماضي والحاضر، وفتح آفاق على مسارب جديدة لا تلتزم حرفياً تطبيق منهج نقدي بعينه، بقدر ما تبحث عن آفاق نقدية تستجيب لمعطيات الثقافة العربية، وموروثها الذي يحتاج من وجهة نظره، إلى إعادة قراءة اللحظة الراهنة، في محاولة للوقوف أمام حالة الغياب التام لذا الموروث، في وعي الأجيال الصاعدة، هذه الأجيال التي تعرف عن تاريخ شعوب العالم أكثر مما تعرف عن تاريخها العربي.

في مقدمة الكتاب يلاحظ الضبع أن التاريخ العربي كان وسيظل مصدراً ثرياً للفنون والآداب. ومن ناحية أخرى كانت الفنون والآداب في حد ذاتها مصدراً تاريخياً مهماً، وبخاصة في ما يتعلق بالتاريخ الاجتماعي والثقافي للشعوب. ويتكئ المؤلف هنا على توسيع مفهوم التاريخ، ليتجاوز حدود الأحداث والوقائع، إلى ضم تجليات النتاج الإنساني إليها. لذا ضم التاريخ في مفهومه عبر هذا الكتاب، كلاً من التاريخ الرسمي والتاريخ الشعبي، وتاريخ حياة الناس السابقة ونتاجهم المادي وغير المادي. كما جاء الكتاب محدداً في رصده للتاريخ العربي دون سواه، أي الذي شارك العرب في صنعه، "وهو في حد ذاته مساحات شاسعة وتنويعات عديدة، وتجليات متنوعة لا تكفيها كتب ولا مجلدات"، على حد تعبير الضبع.

التناول والتلقي

وإضافة إلى المقدمة، يتألف الكتاب من أربعة فصول يتناول أولها أزمتي التناول والتلقي في ما يخص التاريخ العربي في الآداب والفنون، وعالج الفصل الثاني أشكال حضور التاريخ في فنون السرد المعاصرة، وجاء الفصل الثالث تحت عنوان "التاريخي المقدس في الشعر العربي المعاصر"، وتناول الفصل الرابع "السيرة الذاتية وسرد الذات بين التاريخي والمتخيل السردي". ويذهب الضبع في المقدمة، أي إن الفنون والآداب تكتسب أهميتها في هذا السياق من وجهتين، الأولى في استدعائها للتاريخ القديم وإعادة إنتاجه بآلياتها الجديدة، سواء لإسقاطه على الأوضاع الراهنة، أو لتمثله والاستعانة بقيمه ودروسه، أو مد جسور التواصل معه علاجاً لقضايا راهنة مثل قضية الهوية وما يواجهها من ذوبان في سياق حركات العولمة وما بعدها، وما يجري في سياقها، أو للبحث فيه عن مؤشرات يمكنها الإفادة في توقع التحولات المستقبلية في ظل التحديات التي تواجه أبعاداً جوهرية في صميم وعي وعقل وثقافة الأمة العربية، كما يشهده الراهن.

والوجهة الثانية تأتي من تسجيل هذه الفنون والآداب لأوضاع الحياة المتزامنة معها، وهو ما شكل المادة الأساسية لصناعة التاريخ للأجيال التي تلت ذلك، "وهو ما فعله – سابقاً – كتاب الأدب ومبدعو الفنون وأصحاب الحرف والصنائع". وعبر هذا الإرث استطاعت تلك الأجيال قراءة ماضيها والتواصل معه، والبناء عليه، وهو الأمر ذاته الذي يجب – بحسب الضبع – الانتباه له الآن – "إذ علينا أن نفكر ماذا سنترك من علامات في الفنون والآداب تدل علينا" ص 12.

حضور مراوغ

ولاحظ الضبع في هذا السياق أن حضور التاريخ في الفنون والآداب المعاصرة لم يكن حضوراً مباشراً لخدمة التاريخ، أو لمجرد العودة إليه، وإنما كان دائماً حضوراً مراوغاً، لأسباب سياسية في الغالب، كانت تستدعيها أوضاع العالم العربي السياسية، وما يرتبط بها من قضايا الحرية، وبخاصة حرية التعبير، وكذلك محاولة لتفكيك الوعي العام عندما يتراجع بسبب ميله إلى الاستقرار على ما يعرفه وما نشأ عليه، أو تسرب أفكار واتجاهات مغلوطة، وبخاصة فيما يتعلق بمرتكزاته الدينية والفكرية. وفي الدراسة التي يضمها الكتاب تجاوز لفكرة عبور الأنواع إلى التداخل المستمر بين الفنون والآداب، واستعارة كل منها لتقنيات الأخرى. ومن بين ما خلصت إليه الدراسة أن التاريخ العربي بمروياته وفنونه استطاع الغرب أن يستثمره فنياً لإعادة إنتاجه في شكل فنون بصرية في حين تغافل العرب عن القيام بهذا. ويشير الضبع هنا إلى أنه في دراسة كان يجريها عن "ألف ليلة وليلة" العربية وتقاطعاتها عبر الثقافات والفنون، توقف أمام حضور هذا العمل في فنون الشرق والغرب (السينما والمسرح والنحت والعمارة والفنون التشكيلية... إلخ).

وتوصل إلى غياب ملحوظ لاستلهامات "الليالي العربية" في الفنون التشكيلية والنحت والعمارة مثلاً في الفنون العربية، "على عكس حضورها الطاغي في فنون الغرب" ص59. فالنماذج الدالة على استلهام "الليالي" في الفن التشكيلي العربي من أشهرها لوحات الفنان السوري سعد يكن، والعراقيين حسن عبد علوان وفؤاد جهاد وفاروق حسن ووداد الأورفلي، والنحات محمد غني حكمت، والمصريين عدلي رزق الله، وعبدالهادي الجزار، وأدهم وانلي وبيكار، "وذلك كله قليل قياساً إلى ثراء "ألف ليلة وليلة"، من جهة، وحجم ما تم إنتاجه فنياً مستلهماً إياها في الغرب، من جهة ثانية. وينطبق ذلك على مرويات ومنجزات التاريخ العربي الأخرى وحضورها في الفنون العربية البصرية وغير البصرية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وفي الفصل الخاص بصور حضور التاريخ في فنون السرد المعاصرة (الرواية والقصة والمسرح) يختار الضبع نماذج نشر كثير منها في السنوات المنقضية من الألفية الثالثة. ومن الأعمال الروائية التي تطرقت إليها الدراسة، ثلاثية غرناطة" و"الطنطورية" لرضوى عاشور، و"النواخذة" لفوزية السالم الشويش، و"ساق الغراب" ليحي أمقاسم، و"بارباروسا" لمصطفى سليمان، و"أسد قصر النيل" لزين عبدالهادي و"عزازيل" ليوسف زيدان و"الموريسكي الأخير" لصبحي موسى. ووجد الضبع أن هذه الأعمال (وغيرها) تنتمي إلى الوعي الجديد في الرواية العربية، والذي يسعى، في تصوره، إلى التفكيك بمفهومه الفلسفي، وإعادة صياغة مفاهيم التاريخ، واستحضاره على سبيل المراوغة (لمواجهة واقع سياسي أو واقع اجتماعي متصلب الفكر...)، وطرح أسئلة الوجود الإنساني، باعتماد تقنيات جديدة في الكتابة الروائية، "تمثل تحولاً في اتجاهات حضور التاريخ في الرواية العربية، وانتقاله من كونه موضوعاً فحسب إلى كونه تقنية تطرح جماليات جديدة في الكتابة، وتستهدف التفكيك في المقام الأول" ص67. وفي سياق التطبيق على نصوص مسرحية، رأى الضبع أن "مأساة الحلاج" لصلاح عبدالصبور تمثل نموذجاً لهذا الحضور التاريخي المراوغ، إذ تعود إلى شخصية الحلاج ومأساته، لتتكئ على تاريخه وتبني من خلاله مأساة الإنسان المعاصر في واقعه السياسي، والعلاقة الثلاثية بين تحالف السلطة مع الدين واستغلالها له، وفكرة المعارضة، ومحنة العقل الناتجة من ذلك كله، ثم التنبؤ بالهزيمة، في حرب عام 1967.

التاريخي المقدس

ورأى أن قصة "المظلة" هي واحدة من قصص عدة لنجيب محفوظ تهيمن عليها تقنيات المسرح، وفيها بالذات تجلى الحضور التاريخي، ليس بوصفه إحالة إلى أحداث بعينها في زمن بعينه، وإنما إلى تاريخ الكون، أو بالأحرى تاريخ فساد الكون والعالم والأرض، ومحاولات الإنسان تبرير هذا الفساد بنفي وجوده، "ليس عن توهم ذلك، وإنما عن قصدية، وموقف السلطة من أصحاب الوعي الذين يعترفون بهذا الفساد، وكبتهم وتضييق الخناق عليهم" ص128. وخلص الضبع في الفصل الثالث إلى أن الحديث عن حضور التاريخي المقدس في الشعر تحدوه التساؤلات أكثر مما تقدمه الإجابات، إذ لكل من المقدس والشعري كمون في النفس البشرية، وإذ الحديث عن الديني يتنافى في الأذهان مع الحديث عن الشعري، على رغم المحاولات التأسيسية التي سعت إلى الفصل بين العقيدة والتوجه الشعري، بدءاً من مقولة القاضي الجرجاني: "إنه لا شأن للدين بالشعر". ويقر الضبع في هذا الصدد بأنه توجه من البداية بالرغبة في الكشف عن آليات الاشتغال، بعيداً من البحث في الحكم مع أو ضد، محاولاً رصد آليات التناول الشعري لما هو تاريخي مقدس على اختلاف أنواعه (ديني، أسطوري... إلخ) مع التسليم بأنه لا يمكن للشعري أن يقاس بمسطرة، إذ يباح فيه ما لا يباح لغيره من فنون الأدب الأخرى.

 وخلص في الفصل الأخير إلى أن الكتابة في حد ذاتها هي من صور السرد الذاتي، لأنه ما من كتابة إلا وهي تسجيل لأحوال صاحبها. ولاحظ الامتزاج التدريجي الذي يحدث لفن السيرة الذاتية مع الكتابة الأدبية عموماً ينبئ بتداخل تام بينهما في المستقبل، ليس بالضرورة لمصلحة الكتابة الإبداعية، وإنما قد يكون العكس، "فالواقع الثقافي العالمي يشير لفتح باب احتمال حدوث أي تحولات حتى وإن كانت غير مقبولة منطقياً وعقلياً الآن" ص229.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة