ملخص
ترافقت بداية القرن الحالي مع انتشار واسع للإنترنت واندماجها المتعاظم مع حياة البشر في كل أرجاء الكرة الأرضية حاملة معها حلماً ببشرية مترابطة ومتفاعلة. ويبدو أن القفزة الأخيرة في الذكاء الاصطناعي تطيح بذلك الوعد، فيما يمسك مديرو شركات التكنولوجيا بمقاليد السياسة والحكم، لكن بالترافق مع تفكك الإنترنت تحت وطأة تنامي المحتوى المؤتمت المفبرك الذي يتمدد في أرجائها. هل يتوقف التواصل الشبكي بين البشر ويحل محله تبادل المحتوى الذي تصنعه الآلات الذكية، بالتالي، يتلاشى حلم التفاعل بين البشر في أرجاء المعمورة، فتموت شبكة الإنترنت؟
من المرجح أن ينظر إلى بداية القرن الـ20 على أنه العقد الذي أرست فيه التكنولوجيا أسسها. وبعد تجاوزها مشكلة "خطأ الألفية" millennium bug عام 2000، ومع وجود تقنيات رئيسة مثل "غوغل" التي كانت في بداية سنواتها، شهد العقد الأول من القرن توسعاً مذهلاً في عدد خطوط الاتصال مع الإنترنت وكذلك الحال بالنسبة إلى سرعتها. وتقلص حجم الأدوات التقنية وأسعارها، مما أدى إلى تكاثر المعدات الرقمية على غرار الـ"آيبود" والكمبيوتر المحمول. [مع اقتراب نهاية القرن الـ20، ظهرت مخاوف من الانتقال إلى كتابة التاريخ الداخلي للكمبيوترات بأرقام القرن 21، أي التي تبدأ باثنين، قد لا تفهم من الحواسيب التي اعتادت على كتابة ذلك النوع من التاريخ مع بدئه بالرقم واحد. عرف ذلك الأمر باسم "خطأ الألفية"، وثبُتَ أن لا أساس له].
ومع نهاية ذلك العقد الأول، كنا حصلنا على النموذج الحالي من الإنترنت، على هيئة عالم من الكمبيوترات القوية والمنتشرة، مع إعلام معتمد على البث عبر خيوط الشبكة العنكبوتية والتسوق عبر الـ"ويب"، والملامح الأولى من شبكات التواصل الاجتماعي.
كانت أعوام العقد الثاني هي تلك التي احتضن فيها العالم الحقيقي ذلك العالم الرقمي الجديد. وتوسعت شبكات التواصل الاجتماعي بصورة دراماتيكية إلى حد أنها أصبحت تقريباً الوسيلة الإعلامية الوحيدة. واستطاعت تشابكات من المواقع المترابطة وتدفق المحتوى على مدىالساعة، أن تمسك بأشياء العالم الافتراضي برمتها، بداية من صناعة الموسيقى ووصولاً إلى الأخبار اليومية التي يرسلها لك صديقك عن نشاطاته. ولم تعُد الإنترنت أسيرة للحواسيب والهواتف، بل تنامت ونضجت وانتشرت في أماكن العالم الفعلي جميعها: في أجهزتنا المنزلية وفي سياراتنا وفي علاقاتنا.
وبذلك، مع بداية العقد الثالث من هذا القرن، أصبحت الإنترنت أساساً لما نراه اليوم. قصرت المسافات، وأصبحت الاتصالات فورية، على رغم أن هناك شعوراً متزايداً بأن هذين الواقعين جعلا منا أشخاصاً أكثر عزلة ووحدة من أي وقت مضى. ومع بداية عام 2020 وانتشار جائحة كورونا، كان العالم جاهزاً لأن يهاجر بصورة جماعية تقريباً، ليقطن في كوابل الإنترنت. وصار معظم ما نراه يمر عبر الحاسوب كوسيط.
ولكن، مع وصولنا اليوم إلى منتصف العقد الثالث، ظهرت صعوبة غير متوقعة في رؤية الاتجاهات والابتكارات التي قد تستمر وتثبت نفسها خلال النصف الثاني منه، وما سيليه من الأعوام. وكانت الابتكارات التكنولوجية الكبرى في العقد حتى الآن تتعلق بصورة كبيرة بالإفراط في الوعد: أن الـ"بيتكوين" سيغير شكل النظام المالي العالمي، وأن الرموز غير القابلة للاستبدال (NFTs) ستغير علاقتنا بامتلاك الأشياء، وأن الـ "ميتافيرس" سيغير علاقتنا بالعوالم الافتراضية وببعضنا بعضاً، وأن الذكاء الاصطناعي سيغير معرفتنا. لكن علاقتنا مع كل من هذه الأشياء تظل إلى حد كبير كما هي، فقط أصبحت أكثر توتراً وإرهاقاً.
قد يكون من الممكن أن يحقق بقية هذا العقد تلك الوعود، وهناك أسباب تدعو إلى الاعتقاد بأن ذلك قد يحدث. فبعد أعوام من الوعد بأن "الواقع المعزز" Augmented Reality، وعوالم الـ"متافيرس" ستجلب طرقاً جديدة كلياً في مزج العالمين الفعلي والافتراضي، عملت شركتا "ميتا" المُعادة تسميتها كذلك [قبل ذلك، كانت "فيسبوك"] و"أبل" على إطلاق تقنيات جديدة ومثيرة من شأنها تقديم لمحة عما قد يحصل مستقبلاً. [الحقيقة المعززة تقنية تمزج الأشياء الافتراضية بمعطيات من الواقع الفعلي، مثل نظارت "غوغل" التي تعطي معلومات عن الأشياء التي نراها عبرها].
ومع تراجع الضجة حول الذكاء الاصطناعي، يشقّ الأذكياء والمتمولون سبلاً قد تستطيع بالفعل تحسين حياتنا وعالمنا. وفي الأركان الأكثر هدوءاً وأقل إثارة للانقسام في صناعة التكنولوجيا، ثمة مشاريع لاختراع أنواع جديدة من التقنيات المستدامة، مثلاً، أو إيجاد حلول مبتكرة في الرعاية الصحية. وإذاً، هنالك أشياء جديدة ومثيرة بصورة أصيلة، تتحقق ومن شأنها أن تتيح لنا التعامل مع أزمات عالمية على غرار التغير المناخي وعدم المساواة في فرص الحصول على الرعاية الصحية.
لكن تلك القضايا المثيرة للانقسام تواصل شغل كثير من وقتنا ومالنا واهتمامنا. ويستمر ذلك الأمر الأخير [المتعلق بالانتباه] ربما لأن الأمر الأشد قيمة يتمثل في أنك إذا استطعت أن تدفع أناساً إلى إيلاء انتباههم لك، حينئذ تستطيع دفعهم إلى فعل كل ما تريده بما في ذلك انتخابك رئيساً للولايات المتحدة. وعلى غرار ما اكتشف إيلون ماسك هذا العام، فإن التوق إلى جذب الانتباه قد يساعدك حتى في شق طريقك إلى الحكومة، من دون أن تضطر إلى المكابدة بأشياء كالانتخابات، شرط أن تمتلك الإرادة في إنفاق 43 مليار دولار على شراء شبكة تواصل إجتماعي وتحويلها إلى مكبر صوت خاضع لأهوائك.
صعود ماسك، وصعود تكنولوجيين آخرين، بمن فيهم مارك كوبان، الخصم الدائم الذي دعم كامالا هاريس في الانتخابات الأميركية، ربما على أمل مماثل في جذب انتباه الحكومة، يظهر كيف أن استمرار دمج التكنولوجيا مع الثقافة يؤدي إلى قلة التمييز بين الشخصيات الشهيرة وقادة التكنولوجيا. اليوم، إيلون ماسك هو ببساطة مالك ثلاث من أهم شركات التكنولوجيا في العالم، في الواقع، مثل أي شخص آخر له أهمية، يمتلك القوة والرغبة في جذب الانتباه.
وفي عالم التكنولوجيا، يبدو أن بعضهم نأى بنفسه بعيداً من الثقافة وما تجلبه معها من صدامات. وعلى ذك النحو، نمت "تيك توك" بسرعة خلال الجائحة لدرجة أنها تعرضت للحظر مراراً، وقضت كثيراً من الأعوام الأخيرة في محاولة إنقاذ نفسها بهدوء. كما قام مارك زوكربيرغ الذي كان ذات يوم أحد أكثر الشخصيات سخرية في العقد، بتغيير جريء للعلامة التجارية لإبعاد نفسه من السياسة وغيرها من الأمور المثيرة للجدل، فغيّر علامة شركته التجارية من "فيسبوك" إلى "ميتا"، وحولت التركيز بعيداً من الانقسام والسياسة نحو محتوى المؤثرين الناعم والمواد التي تم إنشاؤها بواسطة الذكاء الاصطناعي.
في الواقع، إذا كان هناك شيء جديد حول الإنترنت في النصف الأول من هذا العقد، فقد يكون ذلك أنها تبدو، بصورة متزايدة، مكاناً ميتاً. ولربما تجسّد الأمر الأشد وضوحاً لصعود أنظمة الذكاء الاصطناعي، في أنها أتاحت لشبكات التواصل الاجتماعي أن تمتلئ بحسابات آلية ووسائط إعلامية مصطنعة. وليس من معنى متصل بتزايد تعقيد الظاهرتين السابقتين، أكثر من أنه بات من الصعوبة بمكان معرفة متى يظهران بالفعل [أي صعوبة التعرف إلى حساب ما بوصفه مؤتمت وزائف، وكشف المحتوى الإعلامي المفبرك بالذكاء الاصطناعي لحظة ظهوره].
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بالتالي، أدى ذلك إلى صعود "نظرية موت الإنترنت" التي تفيد بأن شطراً كبيراً من الإنترنت بات من صُنع الأنظمة المؤتمتة التي تتخاطب مع بعضها بعضاً. وقد أظهرت دراسات أن عام 2024 شكل السنة التي تحول فيها معظم شبكة الإنترنت إلى شيء مؤتمت [مصنوع عبر أنظمة الذكاء الاصطناعي].
وثمة أسباب وجيهة لحدوث ذلك الوهن المرضي. ولقد عدا الزمان على حقبة الأموال الرخيصة التي استطاعت فيها شركات التقنية اغتراف القروض حتى من دون الاهتمام بإمكان استرادادها. وآنذاك، أعطت تلك الأموال الوفيرة قوة للأشياء التكنولوجية كلها، من "أوبر" إلى "أمازون". ولقد انقضت تلك الحقبة، وانقضى معها طموحنا المشترك بمعظمه. وعلى نحو صارخ ومتوسع، ترافق تكاثر الترابطات على شبكة الإنترنت، مع حدوث نوع من التكسر والتجزء، بمعنى أنه باتت لدينا نسخ متنوعة من الإنترنت، بالتالي، تضاءل الأمل في تحولها إلى شيء واحد يستطيع النهوض بأمر إحداث تغيير ضخم.
وعبر تاريخها، لم تصل التكنولوجيا قبل الآن إلى هذا المستوى من التعقيد، وكذلك لم تحُزْ شركات صناعة التكنولوجيا قوة أعتى مما تملكه الآن. لقد أضحى قادة تلك الشركات هم قادتنا، سواء أحببنا ذلك أو كرهناه.
في المقابل، إن النصف الثاني من العقد الثالث قد يتحدد عبر استجابتنا ورد فعلنا على غياب هذا الابتكار، فإذا ماتت الإنترنت، فكيف عسانا أن نرغب في البقاء على قيد الحياة؟
© The Independent