ملخص
لأن اللبناني هو من أكثر المواطنين العرب والمغاربيين ارتباطاً ببلده، فهو المنقذ وهو الدم الجديد، فاللبناني من إقامته في ساو باولو إلى ساحل العاج، ومن وهران إلى طوكيو، ومن دبي إلى مون ريال يراقب إيقاع دقات قلب بلده ويعرف تفاصيل التفاصيل عن يومياته، فهل ستعود يوماً بيروت إلى بيروت من المهاجر؟
في البدء كانت بيروت قلب الديمقراطية وملجأ الديمقراطيين وحلمهم.
وضربتها اللعنة، الأشياء الثمينة تلاحقها عيون الشر من كل الجهات.
بكثير من الارتقاب والأمل تابع العالم السياسي والثقافي عملية انتخاب رئيس جديد للبنان: جوزاف عون، بعد عسر وبعد فوضى وبعد حروب وبعد خراب وأحقاد، وكانت هذه بعض اللحظات اللبنانية من التفاؤل.
تساءلت: هل ستكون بداية لاستعادة جزء من صورة بيروت، استعادة قليل من زمنها السخي الجميل؟ وفي الوقت نفسه هي لحظة للوقوف عند أسباب جحيم دانتي السحيق الذي هوى إليه هذا البلد البديع مدة نصف قرن.
كانت بيروت قلب الديمقراطية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
كانت صورة بيروت كمدينة لا يمكن فصلها عن معاني الجمال والخير والثقافة والشعر والموسيقى في أبعادها الراقية والحداثية.
كل ذلك كان قبل اندلاع الحرب الأهلية، كانت صورتها تصل حتى أطراف شمال أفريقيا وأطراف الخليج محملة بالجمال والرغبة للعيش على عقارب ساعة العالم المعاصر.
من مطلع الخمسينيات وحتى منتصف السبعينيات، كان كل شيء جديداً وحداثياً في الثقافة وبالأساس في الشعر والموسيقى المعاصرة ينتظر وصوله من بيروت: المجلات الحداثية، الأدب والنقد والترجمة والمُودة مصدرها بيروت.
لم يكن اللبنانيون وحدهم من يشكلون جوقة حالمي بيروت الحداثية، بل كانت لسان العرب والمغاربيين جميعهم.
كلما ضاقت الدنيا سياسياً أو أدبياً بكاتب أو إعلامي من جراء ثقل تقاليد مجتمعه في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، أو جراء تكميم، إلا ويفكر في الرحيل إلى بيروت ففيها أرز لا يظلم أحداً.
بيروت بيت الضوء، بيروت بيت الجميع.
جميع الهزات والخضات الحداثية التي رجت سكون تاريخ الأدب والفكر العربيين المعاصرين انطلقت من بيروت، من مطابع بيروت، من دور نشر بيروت، من مقاهي بيروت، من جرائد بيروت، من مجلات بيروت، من استديوهات بيروت.
كانت بيروت بما وهبت من ذكاء وإبداع وحرية وحسن تدبير للشأن الثقافي مدينة تثير غيرة كثير من المدن الأخرى الجالسة على ضفتي البحر الأبيض المتوسط أو البحر الأحمر، أو على ضفتي دجلة أو الفرات أو النيل، أو على أطراف الصحراء الكبيرة أو الصغيرة، أو في أدغال وغبار البادية...
جميع المدن كانت تغار من بيروت.
خبز بيروت له طعم آخر وشكل آخر، مخبوز من قمح آخر.
بيرة بيروت المحلية لها رغوتها ونكهتها الأخرى.
فنّ المائدة فيها، في المطاعم وفي البيوت، تديره أنامل خاصة مبدعة.
فنجان قهوة ترشفه في مقهى من مقاهيها الكثيرة العامرة بالنقاش ودخان السجائر والمشاريع كأنما حبات بنّه جنيت من مزارع لا يدركها إلا اللبناني الذي ولد في الأسفار أو على سفر.
مطر بيروت منهمر على رصيف شارع الحمراء له موسيقى غير موسيقى سقوط الأمطار من ذات السماء على أماكن أخرى في الشرق أو في الغرب.
في المخيال العربي والمغاربي الحديث والمعاصر، تبدو صورة بيروت كمدينة أسطورية، مدينة تنتمي إلى سلالات مدن الأوديسة والإلياذة، فيها تعيش الآلهة وأنصاف الآلهة وفيها بشر من جينات أخرى.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لعل الصوت البعيد/ القريب القادم من بداية القرن الـ 20، والذي منح بيروت صفة مدينة الحرية والتحرر حتى سميت بـ "جنيف الشرق" هو جبران خليل جبران، حيث وحده مثّل مدرسة تخرّجت منها جميع الأجيال الأدبية اللاحقة من دون استثناء، ولا يزال حاضراً ومؤثراً حتى الآن، ففي نصوصه صوت الكاتب الحر المتحرر من جميع قيود الشرق الدينية والفلسفية الاجتماعية وحتى اللغوية. كان جبران "نبياً" في الأدب، فإذا كانت الصحراء وبلدان أخرى في الشرق هي مسقط رأس جميع الأنبياء والرسل فلبيروت نبيها في الأدب الحديث: جبران خليل جبران، وكما أثّرت النصوص المقدسة من القرآن الكريم والإنجيل، فأثّرت كتب جبران في القراء، وللإشارة لا يزال كتابه الأشهر "النبي" يباع بشكل كبير.
وربما يكون صوت فيروز وشخصيتها الغامضة التي تشبه شخصية القديسة أو السيدة العذراء، بهالتها النبوية وهي تغني بعض مقطوعات جبران التي اختارتها من كتبه النثرية والشعرية وغيرها من النصوص المدهشة في روحانياتها قد زادت بيروت، وصبغت عليها هالة سحرية سكنت المخيال العربي والمغاربي ولا تزال.
كان لبيروت فضل ريادة الحداثة في الشعر العربي، حتى وإن كان الشعراء الذين مثلوا الحداثة كثيرون منهم كانوا قادمين إليها، نشراً أو إقامة، من الأطراف كبغداد والقاهرة ودمشق والخرطوم إلا أنهم كانوا جميعهم يستظلون بشجرة بيروت المقدسة، بأرزتها، ففي بيروت ظهرت المجلات الأولى التي احتضنت صوت الحداثة في الشعر، فكانت مجلة "شعر" التي أسسها يوسف الخال، وكانت مجلة "مواقف" لأدونيس، وكانت مجلة "الآداب" لسهيل إدريس، وكانت مجلة "البلاغ" لجورج الراسي، وكانت مجلة "دراسات عربية" لجورج طرابيشي، ومجلة "الطريق" لرئيف خوري وعمر فاخوري، و"الثقافة الوطنية" لحسين مروة ومحمد دكروب، و"الطليعة"، و"الحداثة" لفرحان صالح وغيرها، منابر كانت عربية ومغاربية بامتياز، فيها تلتقي الأصوات التي لا صوت لها في بلدانها.
ارتبطت بيروت كفضاء عمراني بشري وثقافي واجتماعي بالدفاع وصيانة الحرية الفردية والجماعية، السياسية والدينية والاجتماعية واللغوية، لقد نحتت بيروت تمثال حريتها من أصوات لبنانية وأخرى عاشت فيها وكتبت فيها وعبّرت عن آرائها الأدبية والفلسفية والسياسية والدينية، بكثير من الحرية التي كان لها سقف عالٍ لا يمكن مقارنته بسقوف الحريات في البلدان العربية والمغاربية الأخرى.
ويقف سعيد عقل المثقف والشاعر المشاكس والجدلي بكل ما مثّله من تكسير في المعنى والمبنى، إذ ظلت آراؤه في اللغة وكتاباته بالعامية مدهشة ومقلقة للمحافظين الواقفين على قشة فكر مهزوز.
وفي هذا المشهد الإبداعي الانقلابي تظهر صورة يوسف الخال شاعراً ومشروعاً ثقافياً كبيراً، من خلال مجلة "شعر"، التي قادت أول ثورة حقيقية في الشعرية العربية الحديثة.
عرف العالم العربي فلسفة الوجودية من بيروت، من خلال ترجمات "دار الآداب"، ومثلت بذلك ربط هذه المدينة بباريس وبرلين ثقافياً.
وجاء بيروت، في مراحل زمنية مختلفة، كتّاب من العالم، جاءها كاتب ياسين وجان جينيه ورشيد بو جدرة وغيرهم.
ولأن بيروت بكل هذا الجمال وهذه الثورة الناعمة العميقة كان عليها أن تدفع الثمن، فلم تتأخر جيوش الشياطين حتى هجمت عليها من كل الجهات ممتطية كل أنواع الدبابات: دبابة الدين، ودبابة القومية، ودبابة الطائفة، ودبابة المال الفاسد.
وبدأ الطاعون العربي، الديني والسياسي والطائفي والمالي الفاسد، ينخر أحشاءها ويشوّه جمالها، وتحولت بيروت من مدينة مصدر لأخبار الجمال والإبداع إلى مدينة حاملة لأخبار الخراب والموت والتقاتل.
ماتت المجلات الطلائعية الجميلة الواحدة بعد الأخرى، ونبتت قنوات تلفزيونية كثيرة لا تتوقف عن بثّ سمومها القاتلة، واختفت جرائد كان لها زمنها وقراؤها وسلطتها، وظهرت وسائل التواصل الاجتماعي فزادت الحال تلوثاً. وأصبحت المقاهي مهجورة أو بئيسة، وفقد البن نكهته، والبيرة جاذبيتها، وأقفل فرن الحي، وصوت التفجيرات طغى على صوت فيروز في الصباحات، وانهزمت الحداثة أمام زحف العصبية والطائفية، وأفل نجم الحرية حين أصبحت قيادة السياسة والأحزاب بالوراثة أو بالطائفة.
لكن بيروت، اليوم، قادرة أن تنهض كطائر الفينيق من رمادها، وأعتقد أن المعول عليه اليوم وفي هذا المنعطف السياسي الجديد، هم بالأساس أبناؤها من الجالية في المهاجر، هم الرأسمال البشري الذي لم يتلوث، فعدد اللبنانيين الموزعين على أركان الأرض الأربع يفوق عدد سكان لبنان في الداخل، ولأن اللبناني هو من أكثر المواطنين العرب والمغاربيين ارتباطاً ببلده، فهو المنقذ وهو الدم الجديد، فاللبناني من إقامته في ساو باولو إلى ساحل العاج، ومن وهران إلى طوكيو، ومن دبي إلى مون ريال يراقب إيقاع دقات قلب بلده ويعرف تفاصيل التفاصيل عن يومياته، فهل ستعود يوماً بيروت إلى بيروت من المهاجر؟