Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

محمود شقير يهجو غدر الزمن في "منزل الذكريات"

 رواية قصيرة تستعيد ملامح من الماضي الفلسطيني بين سخرية ومرارة

مشهد فلسطيني بريشة الرسامة جمانة الحسيني (صفحة الرسامة - فيسبوك)

ملخص

في روايته القصيرة الجديدة أو الـ"نوفيلا" "منزل الذكريات" (دار نوفل)، يقدم الروائي والقصاص الفلسطيني محمود شقير (1941) نموذجاً آخر من المسارد التي يلتف فيها الكاتب على القضية أو الألم الواقعي، أو المرارة المفترض أن تلازم تجربة الموت وقهر الاحتلال، يزاد عليها غدر ذوي القرابة وبلا أي شفقة، التفافاً ذكياً، موشحاً بقدر من الخيال والمبالغة المضحكة والتهكم المر.

يمضي الكاتب محمود شقير في روايته "منزل الذكريات" من نقطة حارة، يعلمنا الراوي العليم، المسمى محمد عبد اللات، فيها أن زوجته "سناء" توفيت، بعد معاناتها مضاعفات "كوفيد- 19"،  بيد أن هذه الوفاة المأسوية لم تكن لتنهي حضورها أو لتنحجب عن زوجها نهائياً، فهو لفرط ما راح يستحضر ذكرياته مع زوجته هذه، على توالي الأيام والأعوام الـ40 وأكثر، استعاد طيفها هيأته الأولى، فراحت تزوره حيناً بعد حين وتتدخل في شأنه وفي علاقته بامرأة مطلقة تدعى أسمهان، وهي العاملة في إحدى الجمعيات الخيرية، كانت أتت إلى منزل الراوي لتتسلّم منه ثياب المتوفاة لمصلحة العائلات المستورة. ولما ضاق الأرمل الراوي من وحدته، وطغت ذكريات زوجته المتوفاة على ما عداها، طلبت نفسه الرفقة والأنس، فمضى إلى بيت تقوده فريال، يسأل النوم إلى جانب فتاة من عمر أحفاده، عارية، يتفحص وجودها فحسب، من دون أن يقوم بشيء حيالها، على غرار ما يفعله العجوزان في روايتي كواباتا الياباني وغبريال غارثيا ماركيز الكولومبي.

ولما أدرك الراوي قلة دراية صاحبة الدار فريال بفكر كواباتا، وكذا الفتاة المسماة سميرة، قرر أن يجرب حظه بعلاقة جدية مع أسمهان الأرملة، والعازمة على التقرب منه لغاية في نفسها ونفس أخيها جميحان الذي تسر إليه بكل شاردة وواردة. وبالفعل، تتوثق صلة الراوي بأسمهان، بل تتمكن الأخيرة منه، ويجبره أخوها جميحان على الزواج بأخته أسمهان، مهدداً إياه بفضح انتمائه إلى الحزب الشوعي (الشيوعي) وزواج أخيه محمد الكبير من "نصرانية شوعية"، إن هو لم يفعل. وبالطبع لا ينفع مع جميحان هذا إنكار الراوي هذا الانتماء، ولا تسري معه أية محاولة للإقناع بالحجة والبرهان الملموس، ذلك أنه اسمٌ على مسمى، جامح الهوى والغريزة والوقاحة المستندة إلى سلوك الشذاذ وقطاع الطرق. وتظل أسمهان على تطلبها وجميحان على سطوته والراوي على رضوخه لهما، حتى يتنازل الأخير عن ملكية منزله والأراضي الباقية بملكه لأسمهان، وعندئذ يحلو لها أن تطلقه، ما دامت العصمة بيدها!.

لعبة الأطياف والغرائبية

ولكن لغة الكاتب محمود شقير لا تقف عند بنيان الرواية المتقن، ولا يمكن اختصارها في تعدد روافدها، وحكاياتها المتفرعة عن الحكاية الأساس (موت زوجته سناء)، بل عن الحكايات التي تنبثق من الواقع الحي الذي يعيشه الراوي، عنيتُ به واقع الاحتلال الإسرائيلي، ومن بينها أن الراوي، محمد عبد اللات، وهو ابن الـ80 حولاً، يُستدعى إلى الشرطة، حيث يتهم بتحريض الأجيال الشابة على مقاومة الاحتلال ورفع الشعارات الرافضة للتعاون مع السلطات في القدس. ولا ينفع مع المحققين هؤلاء إنكار الراوي المتهم كل ما يشاع عنه. ويعود لمنزله خائباً وخائفاً وراضخاً لتهديد رجال الشرطة له بمعاودة احتجازه إن لم يلتزم الصمت المطبق. ولكن النكهة الغرائبية اللطيفة التي اتسمت بها الرواية القصيرة عوضت عن قصر عالمها ومحدودية أمكنتها وأحادية توجهات شخصياتها، وفتحت لها آفاقاً هي من خاصيات الرواية المكتملة الأركان، على ما بات معروفاً في الرواية المعاصرة.

وتفصيل ذلك أن الكاتب يحسن استخدام لعبة الأطياف، سواء كانت أطيافَ أعزاء له، قصدتُ بها زوجته "سناء" التي راحت تحضر له، بعد أيام معدودات على إلحاح ذكرياته عليه، حين كانت تنعم بالحياة. ولكن لعبة الأطياف تتبدى للقراء من مستهل الـ"نوفيلا"، حين جعل الكاتب الراوي يستحضر كلاً من "إيغوشي الياباني بطل رواية ياسوناري كاواباتا، والعجوز الكولومبي التسعيني بطل رواية غارثيا ماركيز" (ص:10) من أجل أن يشاركا في جنازة امرأته سناء. ولسوف تظل هاتان الشخصيتان، الطيفان، تطلان من داخل المشاهد التي يقتبس فكرتها من الكاتبين الشهيرين، عنيتُ بها مشهد زيارته بيت الفتيات (المومسات) في بلدته الذي تديره فريال وأن يقضي الليل إلى جانب فتاة عارية، نظير ما فعله العجوز إيغوشي، في رواية كاواباتا الشهيرة بعنوان "الجميلات النائمات"، وشبيه ما قامت به إحدى شخصيات "مئة عام من العزلة" خوسيه أركاديو بونديا. وبالطبع، لا يخرج الكاتب، ها هنا، عن سمت الروائيين العرب المعاصرين، من أمثال نجيب محفوظ وصنع الله إبراهيم ورشيد الضعيف وإلياس خوري وجبور الدويهي، وآخرين ممن تأثروا بالجو السحري والغرائبي الذي فرضه ماركيز، ومن قبله كاواباتا. وقد يكون نافلاً القول إن نوع الرواية، وبسبب اتساع نطاقه الأدبي، عبر العالم، باتت الحساسيات والرؤى فيه متناقلة ومتداخلة بين الأدباء من الأمم قاطبة.

 والطريف في أسلوب الكاتب محمود شقير السردي ذلك الإصرار على انتزاع الابتسامة من فم القارئ، بأن يدفعه دفعاً إلى التنبه للعبة الخيالية الماثلة في ظهرانيه، إذ يجعل، على سبيل المثال، ماريا زاخاروفا تتغيب عن "الحضور إلى بيت العزاء الذي أقمناه ليوم واحد بسبب وباء كورونا، فهي مشغولة بإطلاق التصريحات حول الحرب المحتدمة منذ أشهر بين روسيا وأوكرانيا" (ص:10). ومن المعروف أن زاخاروفا هذه هي المتحدثة الإعلامية بلسان الخارجية الروسية الحالية.   

ألاعيب وحذاقة وأوتار

وعلى رغم قصر الرواية، وهي بحدود 176 صفحة، لم يتوانَ الكاتب محمود شقير عن تذكيرنا ببراعته في نسج الخيوط وتركيب الألاعيب ومد الجسور بين أفعال الشخصيات، وصولاً إلى اختتام لوحة مأساة الشخصية الضحية الكاملة، عنيتُ بها محمد عبد اللات. ففي سلاسة لغوية قريبة من تلك التي يصاغ بها الحكي للأطفال، وللأديب شقير باع طويلة في أدب الأطفال لا يتسع المجال للحديث عنه، يحكي الراوي العليم كيف كان للعجوزين (إيغوشي وخوسي أركاديو بونديا) تدخل في كل لحظات شيخوخته، لا سيما إبان علاقته بالأرملة الشابة أسمهان وبأخيها جميحان الداخلين إلى حياته دخول الطامعين الأكولين كل ما بقيَ للعجوز من أوَد ومُلك وحيْل. ولكنهما، إذ يحضران ويؤازران صديقهما محمد الأصغر، ويبحثان عنه ويلقيانه لدى صديقه القديم رهوان، لا يلبثان أن يمضيا، بعد أن يجيبا عن سؤال زميلهما عما إذا كان ماركيز وجد فتاته الجميلة ديلجادينا، في معارضة متهكمة لفتاة دون كيخوته "دولسينايا"!.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ولا يقف اللعب التخييلي عند تدخل الشخصيتين المشار إليهما أعلاه، وإنما يتعداه إلى تسخير الأحلام لفضح صلف بعض الشخصيات، وهذا ما يظهره المقطع المعنون "أحلام" وفيه يتهم "جميحان" الراوي محمد الأصغر بأنه يستضيف، في حلمه، أشخاصاً طاعنين في السن "من بلدان أجنبية" ويتبادل وإياهم أسراراً عن النساء. ويدور بين الشخصين حوار يستهجن فيه الراوي تلك الرقابة الصارمة على الأحلام من قبل أخ زوجته أسمهان، ويقول "بأي حق يُحاسب المرء على أحلامه مهما اشتطت هذه الأحلام"، فيردّ عليه "جميحان" أن "هذه الأحلام يا محترم (بالطبع هو يقصد أنني لستُ محترماً) تشير إلى رغبة فاسقة فاجرة تحققت، أو في طريقها إلى التحقق..." (ص:119).

فكاهة رمادية

لا يستشف من ألعاب الكاتب في هذه الرواية القصيرة "منزل الذكريات" جو من الأسى العميق بقدر ما تهدف هذه المداورات الأسلوبية إلى التخفيف من وطأة مأساة الكائن والهزء منها وتحجيم سطوتها عليه، لا سيما إذا كانت مأساته الشخصية مغلفة بمأساة الاحتلال ومسكونة بمأساة التخلف المجتمعي المحيط به. ففي مقطع سردي بعنوان "اجتماع ثانٍ" يتجلى تهكم الراوي (الكاتب) على وحشته عجوزاً منفرداً، إذ يخترع ذاتاً أخرى له ويقول "عقدتُ اجتماعاً ثانياً مع نفسي"، وأجرى نقداً ذاتياً له، واضعاً جدولاً بنقاط البحث سوف يباشر بها مع أخيه محمد الكبير. كما اعتبر أن أخاه محمود، الهوية الواقعية، يواصل السطو على كتاباته الملتزمة، ونشرها في كتب، بعد أن يضع اسمه أو أحد أسمائه المستعارة عليها..." (ص:162).

في الختام، نشير إلى أن الأديب الفلسطيني محمود شقير صاحب أعمال قصصية وروائية وأدب للأطفال تتجاوز الـ80 إلى حينه، من أهمها "خبز الآخرين" و"الولد الفلسطيني" و"طقوس للمرأة الشقية" و"ظل آخر للمدينة" و"مرور خاطف" و"صوت شاكيرا" و"ابنة خالتي كوندوليزا" و"باحة صغيرة لأحزان المساء" و"احتمالات طفيفة"، وغيرها.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة