ملخص
تحتاج دول الجنوب العالمي إلى تعزيز النظام الدولي الذي تقوده أميركا بدلاً من تقويضه لأنه على رغم عيوبه، يوفر قواعد تحمي الدول الأضعف. وبدلاً من دعم الصين، ينبغي للجنوب الضغط على واشنطن للالتزام بالمعاهدات الدولية، مما يضمن نظاماً أكثر عدلاً واستقراراً.
رأى كثر أن عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض تمثل خاتمة لحقبة. فالنظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة، المعروف بأوصاف عديدة مثل "النظام القائم على القواعد" أو "النظام الليبرالي الدولي"، والذي قام بعد الحرب العالمية الثانية وانتشر ظافراً بعد نهاية الحرب الباردة، لم يعد موجوداً. وبالفعل فإن وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو خلال جلسة تعيينه في شهر يناير (كانون الثاني) الماضي وصف هذا النظام بـ"المتقادم". ومع ضمور النظام المذكور وتلاشيه انبثقت صورة صارخة عن العالم. صورة تحكم فيها المصلحة الوطنية وحدها خريطة العلاقات الدولية، أما اسم اللعبة الجديدة فهو "الصفقات"، وهي لعبة قد تكون سليمة.
موت النظام الذي تقوده الولايات المتحدة وبالنسبة إلى أطراف عديدة في العالم النامي لا يستأهل البكاء والحداد. فالنظام الليبرالي الدولي ذاك، في نهاية المطاف، وكما أشارت هذه الأطراف في كثير من الأحيان، كان وبصورة متكررة غير ليبرالي أو غير دولي، وعديم الانتظام. وقد جهد النظام المذكور لإدراج الدول غير الغربية في نسقه بطرق مفيدة له. وكثيراً ما عبرت حكومات الدول التي تعد قوى وسطى، كالبرازيل والهند، عن شكواها تجاه بقاء المؤسسات والبنى الدولية منحازة، وعلى نحو غير متوازن، إلى مصالح الدول الغنية، وذلك على حساب جميع الدول الأخرى.
مفهوم الجنوب العالمي يمثل مفهوماً مبهماً ومحل نقاش كبير، وهو يشمل مجموعة واسعة من الدول. إنه، بتبسيط، مصطلح يوصف الغالبية الساحقة من سكان العالم، الذين يعيشون في دول كانت عموماً بلداناً خاضعة للاستعمار، في أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط وأميركا اللاتينية. بعض المراقبين يضيفون الصين إلى مجموعة الدول هذه – في الأمم المتحدة تدرج الصين ضمن لائحة الـ"جي 77" (G-77)، أي ائتلاف الدول النامية – بيد أن ذلك يبقى محيراً. إذ من الصعب جداً أن نعد اقتصاد التصنيع الأساس في العالم اليوم بلداً نامياً، حتى لو أصرت بكين على ما هو عكس ذلك. لكن ما يبدو جامعاً لائتلاف الدول الضخم هذا، هو شعور عدم رضا مشترك تجاه النظام الدولي بصورته الراهنة.
إحدى الطرق التي تود دول الجنوب العالمي أن تغير النظام الدولي الراهن من خلالها تتمثل في إصلاح المؤسسات الدولية متعددة الأطراف، كمجلس الأمن في الأمم المتحدة، والبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، لجعلها مؤسسات أكثر تمثيلاً. ويواجه ذاك المسعى الإصلاحي رياحاً معاكسة، فيبدو احتمال تحقيقه نتائج ذات مغزى في المستقبل القريب أمراً غير مرجح، بيد أن تلك الدول الساعية إلى تغيير النظام الدولي أظهرت اهتماماً باستبدال الدولار كعملة احتياطة وآلية للتجارة. كما أن هذه الدول، عن قصد أم لا، تخدم الصين عبر دعم مواقفها في شأن القضايا الخلافية المتعلقة بالبيئة وحقوق الإنسان والحكم الديمقراطي. لذا يمكن القول إنه في عصر التنافس بين القوى العظمى، تقوم دول الجنوب العالمي عبر دعواتها لتغيير النظام الدولي، بالمخاطرة في تسليم إرادتها لبكين، مما يعزز صعود الصين ويسرع تقهقر الولايات المتحدة.
وذاك يشكل جهوداً طائشة ومتضاربة وغير ضرورية. إذ بدلاً من السعي إلى نظام دولي جديد، على دول الجنوب العالمي محاولة تعويم النظام الحالي – حتى لو أظهر السيد الجديد في البيت الأبيض استعداداً واضحاً للتخلي عن المعايير الدولية. إن إعادة انتخاب ترمب في الحقيقة تجعل من هذا التركيز أكثر إلحاحاً، حتى لو لم تستطع دول الجنوب العالمي توقع نتائج رائعة منه خلال ولاية الرئيس الأميركي الحالي. إذ ربما يكون النظام الدولي الراهن، "القائم على القواعد"، مليئاً بالتناقضات، لكنه في الأقل يستند إلى قواعد، لا سيما في صورة المعاهدات الدولية الهادفة إلى ضمان الصالح العام. ومن مصلحة دول الجنوب العالمي دعم تلك المعاهدات وتعزيزها. ويتطلب النظام الدولي الحالي التزاماً أكبر من جانب الولايات المتحدة. فالعالم لا يحتاج إلى تقليص المشاركة الأميركية، بل إلى تعزيزها وتقويتها.
إن وجود عالم منضبط ومنظم وفق قوانين واضحة ومحددة جيداً وصارمة يحترمها الجميع، خصوصاً الأقوياء والأغنياء، هو أمر يصب، وإلى حد كبير، لمصلحة البلدان الأفقر في العالم. إذ سواء تعلق الأمر بالتجارة أو بحقوق الإنسان وحقوق المرأة أو بالبيئة ونزع السلاح والعمل أو بمسألة حفر المناجم واستخراج المعادن من الأرض أو البحر، فإن القانون الدولي في الغالب يبدي مصلحة الضعفاء والفقراء والبلدان الصغيرة. لذا فإن الافتراق عن النظام الذي تقوده الولايات المتحدة والمساهمة في تعزيز موقع الصين، لن يفعلان كثيراً لحماية القانون الدولي. بل من شأن ذلك أن يستدعي ظاهرة تآكل أكثر تسارعاً لما كان يعد أنجح نظام أو إطار قانوني في العالم، ويترك دول الجنوب في مهب قانون أخطر بكثير، أي قانون الغاب.
نظام غير مكتمل
من الواضح تماماً أن الولايات المتحدة انكفأت عن النظام الذي بنته بعد الحرب العالمية الثانية، وهو توجه لن يكتسب على الأرجح في عهد ترمب إلا زخماً إضافياً. وتبقى الأمم المتحدة في السياق المؤسسة النموذجية لذاك النظام، والإطار الأساس للجنوب العالمي كي ينهض بمصالحه. وفي هذا الإطار يشير قرار ترمب بتعيين مشرعة جمهورية من الصقور، هي إليز ستيفانيك، سفيرته في الأمم المتحدة، إلى أن الرئيس الأميركي يريد اتخاذ موقف عدائي تجاه المنظمة الدولية. لكن الولايات المتحدة، وحتى قبل إعادة انتخاب ترمب رئيساً، كانت تقلل على نحو ممنهج انخراطها في الأمم المتحدة ووكالاتها ومؤسساتها متعددة الأطراف الأخرى.
فالولايات المتحدة من جديد انسحبت اليوم من منظمة الصحة العالمية، بعد انسحابها منها للمرة الأولى خلال فترة ولاية ترمب الأولى. وفي الماضي أوقفت الحكومات الأميركية وعلقت مدفوعاتها إلى "يونيسكو"، الهيئة الثقافية التابعة للأمم المتحدة. ورفضت الإدارات الأميركية السابقة مراراً الاعتراف باختصاص محكمة العدل الدولية وأصرت على موقفها الرافض للامتثال إلى قرارات المحكمة المذكورة. كذلك انسحبت الولايات المتحدة من منظمة العمل الدولية خلال سبعينيات القرن الماضي ولم تصادق إلا على 14 اتفاقاً من اتفاقاتها الـ189. وعاود ترمب اليوم مجدداً الانسحاب من اتفاق باريس للمناخ بعد أن انسحب منه أول مرة خلال ولايته الأولى.
وفي ما يتعلق بالتجارة العالمية والمسائل الاقتصادية الأخرى، قامت الولايات المتحدة وعلى نحو متهور بتقويض النظام الذي بنته. فحروب ترمب الجمركية بمواجهة شركاء قدامى وخصوم، على حد سواء، لا تشكل سوى أحدث مثال على الميل المتزايد للابتعاد من نسق التجارة الحرة. خذوا مثلاً في هذا الإطار إهمال الولايات المتحدة لمنظمة التجارة العالمية. فواشنطن منذ عام 2017، لم تعين أعضاء الهيئة المسؤولة عن تسوية المنازعات في هذه المنظمة، مما شلَّ الجهة التي يفترض أن تحل الخلافات المتعلقة بالتجارة العالمية. وكانت الممارسات الأميركية في هذا المنحى بدأت خلال فترة ترمب الأولى، لكنها استمرت أيضاً خلال إدارة بايدن، ومن المرجح اليوم مع عودة ترمب إلى البيت الأبيض أن تبقى عقبة في المسار المذكور.
ولا تفكر الولايات المتحدة في الانسحاب من صندوق النقد الدولي أو من البنك الدولي، لكنها جعلت مسألة إصلاحهما أمراً بالغ الصعوبة. لقد استغرق الكونغرس خمسة أعوام للموافقة على الإصلاح الأخير لحقوق التصويت وآلية الحصص في صندوق النقد الدولي عام 2010، وذلك عندما وافق صندوق النقد على تحويل ستة في المئة من أسهم الحصص إلى أعضاء صندوق النقد غير مكتملي العضوية. ومنذ عام 2010، تبين استحالة إجراء أية إصلاحات إضافية. كما أن جهوداً مماثلة للإصلاح في مجلس الأمن بالأمم المتحدة تبقى متوقفة، كحال مسألة الإصلاح في صندوق النقد وفي البنك الدولي – المؤسستان اللتان يهيمن عليهما الغرب منذ زمن بعيد. إذ من غير المرجح أن تتنازل هاتان المؤسستان عن حصة وازنة لمصلحة بلدان الجنوب. ومن المشكوك فيه كثيراً بالإطار ذاته أن ترغب إدارة ترمب الجديدة في تطوير أي نوع من أنواع الرأسمال السياسي لحمل هاتين المؤسستين على مزيد من الانفتاح.
العالم لا يحتاج إلى تقليص المشاركة الأميركية بل إلى تعزيزها وتقويتها
على أن هذين الإهمال والتجاهل اللذين تظهرهما الولايات المتحدة إزاء دورها في المؤسسات والمنظمات الدولية الرئيسة يبقيان أقل أهمية من الطريقة التي فشلت بها تلك الدولة العظمى في دعم القانون الدولي ومؤازرته. فالمشرعون الأميركيون اعتادوا على رفض التصديق على المعاهدات التي طورها الرؤساء والسياسيون الأميركيون الآخرون. والقائمة بهذا الإطار تبدأ من عصبة الأمم، التي تمت الموافقة عليها عام 1919 من قبل جميع المشاركين في مؤتمر فرساي، ومنهم الرئيس الأميركي ودرو ويلسون. لكن مجلس الشيوخ الأميركي قام برفضها خلال العام التالي، ولم تنضم الولايات المتحدة إلى عصبة الأمم إطلاقاً، وذلك في إطار موقف كان الأول ضمن سلسلة طويلة من المواقف تجاه الاتفاقات الدولية التي وقعت عليها واشنطن لكنها لم تصادق عليها، أو وقعت عليها ثم انسحبت منها، أو لم توقع عليها في الأصل أبداً.
وعلى هذا المنوال خلال الآونة الأخيرة، فشلت الولايات المتحدة في المصادقة على "معاهدة الاتجار بالأسلحة"، التي تهدف إلى السيطرة على تجارة الأسلحة التقليدية والتي دخلت حيز التنفيذ عام 2014، وفشلت واشنطن كذلك في المصادقة على اتفاقية تجارية متعددة الأطراف، معروفة باسم "الشراكة عبر المحيط الهادئ" (Trans-Pacific Partnership)، وقعتها الولايات المتحدة عام 2016 ولم تصادق عليها أبداً، ليعود ترمب وينسحب منها في نهاية المطاف. وأثبتت المعارضة الداخلية في الولايات المتحدة أيضاً أنها تمثل عقبة لا يمكن تخطيها أمام المصادقة على معاهدات المناخ، كبروتوكول كيوتو لعام 1997، مما يجعل أي ميثاق مناخي شامل غير قابل للمصادقة – ولهذا السبب كان اتفاق باريس للمناخ عام 2015 مجرد اتفاق، لا "معاهدة".
لقد قاوم المشرعون الأميركيون المصادقة على معاهدات أساس لأسباب عدة. وتلك الأسباب تشمل مخاوف في شأن المساس بالسيادة الوطنية والإخلال بالنظام الفيدرالي الأميركي الذي يترك حق الإقرار ببعض الأمور للولايات، وبمسألة تكرار قوانين محلية موجودة. هذا الإحجام عن الالتزام بالمعاهدات قوض بلا شك فكرة وجود هيكلية نظام دولي ذات صدقية. خذوا مثلاً في هذا السياق المحكمة الجنائية الدولية. فخلال عام 2000، وقع الرئيس الأميركي بيل كلينتون على نظام روما الأساس الذي أنشأ هذه المحكمة، لكن لم تتم المصادقة الأميركية على ذلك أبداً، وقد قام خلف كلينتون، الرئيس جورج دبليو بوش، بسحب التوقيع الأميركي، مما جعل قيام محكمة جنائية دولية قادرة وواسعة الصلاحيات أمراً مستحيلاً من الناحية العملية. لكن من المؤكد هنا أن واشنطن تلتزم في بعض الحالات بأحكام هذه المعاهدات حتى لو لم تصادق عليها، وذاك يشمل "معاهدة الاتجار بالأسلحة". وقد يكون أفضل من عدم التقيد كلياً بالمعاهدات، غير أن الأمر على الدوام يستدعي مساءلة أحقية واشنطن في انتقاد دول أخرى غير مصادقة على المعاهدات لانتهاكها بنود معاهدة ما، فيما هي، الولايات المتحدة نفسها، لا تصادق على تلك المعاهدة أو غير مصادقة عليها أصلاً. وهذا الأمر يجعل الولايات المتحدة أشبه براكب أو لاعب حر، فتتمتع واشنطن بفوائد نظام القواعد الدولي من دون تحمل أية مسؤولية من ناحية دعم قواعده وإنفاذ قوانينه.
خذوا مثلاً أيضاً المعاهدة الأميركية لحقوق الإنسان، التي اعتمدتها بلدان غربية عديدة عام 1969 ووقعتها الولايات المتحدة لكن لم تصادق عليها. إن فشل الولايات المتحدة في المصادقة على هذه المعاهدة أدى حتماً إلى إضعاف الدفاع عن حقوق الإنسان في أميركا اللاتينية، مما أمن للديكتاتوريات والمنقلبين على الديمقراطية هناك، حصانة وحماية أكبر. فهذه الأطر باتت الآن مطلوبة على نحو خاص، تزامناً مع الخطر الذي يواجه مجال حقوق الإنسان في أجزاء مختلفة من هذه المنطقة، من ضمنها الولايات المتحدة.
وبالنسبة إلى دول جنوب العالم فإن تلك اللا مبالاة الأميركية تجاه صون نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية الذي أسهم القادة الأميركيون في بنائه، تمثل خبراً شديد السوء. إذ من مصلحة الدول الأفقر والأقل قوة أن يكون هناك هيكل قانون دولي ثابت ومتين ينظم سلوك الدول وتصرفاتها. لنفكر مثلاً بمعاهدة الأمم المتحدة لقانون البحار عام 1982، التي أنشأت السلطات الدولية لقاع البحار ومقرها جامايكا. الولايات المتحدة لم توقع على هذه المعاهدة أبداً. والبلدان الساحلية الأفقر لا تمتلك التكنولوجيا ورأس المال المطلوبين لاستخراج عقيدات المنغنيز وغيرها من المعادن المهمة الموجودة في قاع البحار، فيما الدول الغنية لديها التكنولوجيات والأموال. وخلافاً لمعاهدة الاتجار بالأسلحة، لا تلتزم الولايات المتحدة بعدد من بنود وأحكام معاهدة الأمم المتحدة لقانون البحار، خصوصاً البنود المتعلقة باستخراج المعادن من قاع البحار. لذا فإن وجود نظام دولي للمحيطات يسهم في تنظيم استخراج المعادن واستغلال القيعان البحرية ويشجع على تقاسم مواردها، هو أفضل بكثير لدول الجنوب من أن يكون الأمر مفتوحاً للجميع، إذ يمكن لكل شيء أن يحدث.
إكمال المهمة
قد يكون مستحيلاً إجراء إصلاحات في مجلس الأمن بالأمم المتحدة، وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، وهيئات النظام الدولي الحالي ومؤسساته الأخرى. لكن إقناع الولايات المتحدة بالتوقيع والمصادقة على هذه المجموعة من الأطر والمواثيق الدولية ربما يكون ممكناً. إذ إن واشنطن إما فشلت بالمصادقة أو اختارت الانسحاب من قرابة 50 معاهدة دولية أساس. واليوم في عهد ترمب ومع عودة الدعاوى الانعزالية بأوساط الجمهوريين - فيما المصادقة على أية معاهدة تحتاج إلى تأييد ودعم نسبة الثلثين في مجلس الشيوخ – فإن الحصول على دعم الجمهوريين لهذه المهمة يبقى بعيد المنال.
بيد أن ذلك لا ينبغي أن يوقف دول الجنوب العالمي عن محاولة الضغط على الولايات المتحدة لتجديد وترميم البيت الذي أنشأته. إذ بوسع هذه الدول القيام بدور بناء في تشجيع الولايات المتحدة على التمسك بالنظام القائم على القواعد بطريقة أفضل. فهذه الدول سريعة في العادة بإدانة واشنطن لما تمارسه من نفاق سياسي، لكنها لا تفعل شيئاً لإقناع الولايات المتحدة بالالتزام على نحو أفضل بالقواعد التي تحدد النظام الذي تقوده أميركا نفسها. وعلى هذه الدول، وبدل أسلوب التنديد، اعتماد نهج شائع في واشنطن لتغيير الآراء وتسهيل التشريع: القيام بعمل جماعات الضغط (اللوبي).
يميل الأميركيون، والمشرعون الجمهوريون على نحو خاص، إلى عدم استساغة تدخل الأجانب في شؤونهم، بيد أن بلداناً عديدة في الحقيقة بدأت بحمل قضاياها إلى واشنطن لتشكيل العلاقات الثنائية وصياغتها. فالصين والهند ودول الخليج والبلدان الأكبر في أوروبا، تقوم جميعها بتكليف مؤسسات حقوقية باهظة الثمن ومرموقة، متخصصة في حشد الضغوط وتكوين اللوبيات، وذلك للدفع بمصالحها في الكونغرس. كندا اعتمدت هذا على نطاق واسع، وبأمور تعلقت بكل شيء، من منتجات الألبان إلى الأخشاب وصيد الأسماك وتدابير الحدود. والمكسيك من جهتها شكلت "لوبي" ضغط مكثف وناجح على المشرعين الأميركيين عام 1993، بُغية الانضمام إلى اتفاق التجارة الحرة لأميركا الشمالية. ويمكن لهذه الممارسات وضغوط اللوبيات من حيث المبدأ أن تمتد لتشمل إقناع الولايات المتحدة للمصادقة على الاتفاقات الدولية. ويمكن لدول غير متحالفة مع الصين، مثل البرازيل والهند والمكسيك ونيجيريا وجنوب أفريقيا، أن تأخذ زمام المبادرة في سياق مساعٍ من هذا النوع، وتبذل قصارى جهدها لإقناع المشرعين الأميركيين بضرورة المساعدة في إتمام نظام القواعد وإكماله، لا التخلي عنه. وستسهم مصادقات واشنطن على المواثيق الدولية المرتبطة بنظام القواعد هذا، في إكسابها مقداراً كبيراً من الصيت الحسن بالجنوب العالمي، وذاك تلقائياً سيضعف موقف بكين.
هذه المهمة لن تكون قصيرة الأمد طبعاً، بل ستستغرق عقداً من الأعوام في الأقل وستتطلب التعامل مع تعقيدات إدارة ترمب وما سينتج منها من تدابير ومسارات. لكن مع المهارة والصبر والموارد الملائمة، يمكن لهكذا جهود أن تثمر نتائج مجدية. وهنا على دول الجنوب العالمي أن توضح للولايات المتحدة أن الطريقة الوحيدة أمام واشنطن لمواجهة التحدي الصيني (والروسي) تكمن في عقد التحالفات والشراكات التي تتخطى الغرب التقليدي، وتذهب إلى ما هو أبعد منه. والسبيل الأفضل لبناء وتوطيد تلك الروابط والتحالفات يتمثل باحترام القانون الدولي.
يمكن لدول الجنوب العالمي إن وضعت جدول أعمال ذا بُعد بناء وأكثر عالمية، أن تحدث فارقاً حقيقياً. وبوسع دول الجنوب الرائدة، من خلال أحجامها وثرواتها المتزايدة ومكانتها المتصاعدة، المساهمة ليس فقط ببناء نظام عالمي أكثر عدلاً، بل أيضاً أكثر شرعية وانتظاماً واحتراماً للقوانين الدولية. القانون قادر على تشكيل أداة هائلة للحد من عدم المساواة داخل البلدان، لكن يمكنه أيضاً تحقيق النتيجة ذاتها بين البلدان. والعالم القائم على المعاهدات والقوانين الدولية سيكون أفضل بكثير من العالم من دونها.
خورخي كاستانيدا يدرس العلوم السياسية في باريس، وهو أستاذ دولي بارز في الدراسات السياسية ومسائل أميركا اللاتينية ومنطقة الكاريبي في جامعة نيويورك، ومؤلف كتاب "أميركا عبر عيون أجنبية" America Through Foreign Eyes. شغل منصب سكرتير الشؤون الخارجية في المكسيك بين عامي 2000 و2003.
مترجم عن "فورين أفيرز"، 4 فبراير (شباط) 2025