ملخص
إنه رمضان الأكثر سخونة في كثير من الدول العربية، فهواجس الأمن والسلامة، وأحياناً حلم البقاء على قيد الحياة، مع آثار الحروب التي أتمت عقداً وأكثر، أو تلك التي اندلعت حديثاً، ومعها ضغوط اقتصادية هائلة تضيف إلى ألم الحروب مرارة العوز والحاجة
قلق وتوتر وترقب، أو ركام ودمار وانتظار الانفجار، أو حرب تصر على الاستمرار وصراع مستمر في الدوران، أو انعكاسات لهذه الأجواء على الجوار رغم ما يتطلبه رمضان من أجواء تراوح ما بين روحانيات التأمل والتعبد، وكذلك أجواء الترفيه والاجتماعيات التي كانت سمة من سمات رمضان في دول المنطقة.
جاء رمضان هذا العام، والجانب الأكبر من المنطقة العربية إما غارق في صراعات تأبى أن تتوقف، أو خرج لتوّه من حرب ضروس تهدد بالانفجار مجدداً، أو دول ومجتمعات تصل أصداء الحروب وآثار الصراعات ومشاعر القلق والخوف إليها بحكم الجوار والتعاطف والدعم التاريخي والشعور بالمسؤولية.
في الأعوام القليلة الماضية أصبحت الأمم المتحدة حاضرة في رمضان، وهو حضور غريب غير معتاد، لكن أصبح معتاداً في ضوء بقاء المنطقة العربية على صفيح ساخن. لم يعد يأتي رمضان من دون أن توجه المنظمة الأممية مناشداتها المعتادة بوقف القتال والاحتكام إلى التفاوض والرفق بالمدنيين، وذلك على خلفية روح رمضان وهلاله وزيناته "حرفياً".
الأعوام الثلاثة الماضية ظهر الأمين العام أنطونيو غوتيريش وهو يوجه كلمة إلى جموع المسلمين، لا سيما المتحاربون والمتصارعون، وكذلك الواقعون في قبضة الحرب والاقتتال، ليعتبروا رمضان فرصة للتمسك بالإنسانية واتباع روحه الداعية إلى التسامي والتسامح، لنبذ الحروب والسعي وراء السلام، رفقاً ورأفة بملايين المدنيين في الدول الإسلامية الصائمة الواقعة في قبضة الحروب منذ أشهر أو أعوام.
لم يكتف الاقتصاد المتعثر وارتفاع أسعار السلع عالمياً بإلقاء الظلال الوخيمة على كثير من دول المنطقة في رمضان، لكن قررت الحروب أن تحكم قبضتها على عديد منها، وبدلاً من أن تستعد شعوبها للشهر بالزينات وصنوف الطعام والتفنن في قوائم الحلوى والمشروبات وعمل جداول مشاهدة مسلسلات وبرامج رمضان، جنباً إلى جنب مع رفع درجة الاستعداد القصوى في المساجد التي تستقبل الملايين ممن يخصصون الجانب الأكبر من ساعات الشهر للتعبد والتفكر والدعاء بالصحة والرضا والأمان، إذ بعدد لا بأس به من هذه الشعوب يستعد لرمضان بالبحث عن ملاجئ آمنة، وتأمين حد أدنى من الغذاء والشراب يبقيها على قيد الحياة، ويساعدها على المضي قدماً من إفطار إلى آخر من دون شرط السحور، رافعين راية الحفاظ على روح رمضان، ومعها أرواحهم، في ظل الصراع.
في رمضان الماضي أيدت 14 دولة عضواً في مجلس الأمن، وامتناع أميركا عن التصويت، القرار رقم 2728 المطالب بوقف فوري لإطلاق النار خلال رمضان. رمضان الحالي يحتاج إلى اجتماع آخر لمجلس الأمن، لوقف أو تهدئة حدة الصراع في الدول "الصائمة"، على أن تستأنف بعد انتهاء الشهر.
غزة... رمضان "على الضيق"
وما دام ذكر الصراع ورمضان، فإن غزة هي أول ما يتبادر إلى الأذهان، رمضان غزة هذا العام عبارة عن ركام وخوف من انهيار هدنة هشة ومراسم استقبال "على أضيق الضيق".
يراقب سكان غزة أخبار الهدنة الهشة السارية بين إسرائيل و"حماس"، ويخشون انهيار اتفاق وقف إطلاق خلال رمضان، يأملون في استمرار الهدوء طوال أيام الصيام، ليتمكنوا من أن يعيشوا الموسم هذا بأقل الاستعدادات. حلّ رمضان على غزة وسكانها قلوبهم مثقلة بالحزن، والمدن غارقة في الدمار، والأزقة يلفها السواد، وخطر عودة الحرب يقترب رويداً رويداً، إذ تهدد إسرائيل على مدى الساعة القطاع باستئناف القتال بضراوة أشد وأعنف.
مع انتهاء المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار في ثاني أيام رمضان، يبقى مصير استمرار الهدوء غامضاً، ويخشى الغزيون من فشل الوسطاء في تمديد الهدنة، وأن تعود الحرب الساحقة مجدداً لتحصد أرواحهم أو تجعلهم يعيشون أيام الصيام في حصار أشد قسوة من هذه الأوقات.
للعام الثاني على التوالي يأتي شهر رمضان على قطاع غزة في ظروف صعبة على جميع الصعد، وبسبب الحرب يحرم الغزيون من الاحتفال في أيام الصيام، ويجبرون على التخلي عن طقوس استقبال ليالي التراويح ويبدلون الاحتفالات بويلات ومآسٍ.
يخاف سكان غزة من عودة الحرب، ورغم خشيتهم من استئناف القتال، فإن الغزيين عملوا باجتهاد لاستقبال شهر الصيام بأقل الإمكانات والاستعدادات، لعلهم يواسون أنفسهم في معايشة طقوس رمضان التي كانت جميلة ولو كان ذلك على مستوى محدود وضيق.
في محاولة لتناسي ما تمر به غزة، علق أصحاب المحال التجارية زينة رمضان، وصنعوا فانوساً ضخماً واحداً وضعوه في وسط السوق الشعبية، وعرضوا بضائع ليالي الصيام القليلة والنادرة أمام بسطاتهم ليجذبوا الزبائن ويشجعوهم على ممارسة طقوس الشهر المبارك ولو بأقل الاستعدادات.
يمشي عطا في سوق غزة بملامح تائهة، يبحث عن أي طقوس لشهر رمضان، يتفحص البسطات العشوائية التي تزينت على خجل بفوانيس رمضان وقليل من الزينة، يقول "نحن على أعتاب رمضان الثاني من دون أن نعيش أجواءه". يصمت عطا برهة وكأنه لا يريد إكمال حديثه، ثم يضيف "حالياً لا أشعر بأي شغف تجاه أي شيء في هذه الحياة، لا طعم لرمضان في غزة، دمرت إسرائيل المحال، ومنعت استيراد مستلزمات الاحتفال في شهر الصيام، وحتى الأغذية أدخلتها بكميات قليلة".
يأتي رمضان على عطا وهو بلا عائلة، يتساءل "مع من سأفطر رمضان؟ مع من سأنتظر وقت الأذان؟ مع من سأعيش ليالي التراويح، وأسهر وأتسامر؟ كل الأحبة ماتوا في الحرب لا نكهة لهذا الشهر فقدت جميع أحبتي وبقيت وحيداً لا أفرح لشيء".
لا يشبه رمضان هذا العام رمضان المعتاد في غزة بأطعمته الشهية والمتنوعة وتجمع الأسر وقت الإفطار ونشاطات ما بعد الصيام من زيارات وفسح وتنزه، ويأتي هذا الموسم ضيفاً ثقيلاً في مدينة أنهكتها الحرب وتخشى عودة القتال مجدداً.
يقول رجل الأعمال الغزي ماهر العجلة "لم نستورد أدوات الزينة لشهر رمضان هذا العام، منعتنا إسرائيل من ذلك، في الأصل لم أفكر في شراء فوانيس وأهلة وزينة الشهر، الحزن يخيم على كل شيء، ولا مجال للاحتفال وسط هذا الدمار". يضيف "الحداد عام في غزة، الناس هنا أولوياتها الضحايا والجرحى والمفقودون، جرح غزة ما زال نازفاً، الكل مشغول أيضاً في استغلال الهدنة لتصليح ما دمرته الحرب وإعادة ترميم بيوتهم، أما موسم رمضان فلا اهتمام فعلياً به".
"لا توجد قوة شرائية" يؤكد ماهر، موضحاً أن غالب سكان غزة بلا مصادر دخل بعدما جرى تدمير كل مكونات الاقتصاد، ما نشهده اليوم هو انهيار اقتصادي شامل لم تشهده غزة من قبل، الناس لا تسأل عن أسعار السلع، بل تسأل هل هناك طعام متاح؟
وفي الأسواق ظهرت آثار الحرب على حركة البيع والشراء، إذ باتت القدرة الشرائية للمواطنين في أدنى مستوياتها منذ 150 عاماً، وسط ارتفاع غير مسبوق في أسعار المواد الغذائية الأساس، مما جعل المواطنين عاجزين عن تأمين حاجات شهر رمضان.
قبل الحرب، كان شهر رمضان مناسبة للفرح والتآلف، فيه تنبض الأسواق بالحياة، وتتزين الشوارع بالفوانيس وأضواء الزينة، وبعد الإفطار يذهب الناس إلى أماكن الترفيه والتراحم في ما بينهم، يسهر سكان غزة حتى وقت السحور، لكن للعام الثاني على التوالي يحرم الغزيون من هذه الأجواء.
تحاول الأسر المنكوبة استعادة جزء من أجواء رمضان وبحذر شديد تفعل ذلك، تشتري نادين بعض المواد الأساس التي سمحت إسرائيل بدخولها، مثل الخروب والتمر هندي والمشروبات الرمضانية، وبعض المجففات والمكسرات والبخور والأجبان والتمور. تقول "أحاول بالكاد توفير الحد الأدنى من الطعام لأستعيد أجواء رمضان لأستقبله كما المعتاد، أفعل ذلك على الضيق، في الحقيقة لم تعد طقوس رمضان كما كانت قبل الحرب، من المستحيل مهما فعلت أن أعيش فرحتنا نفسها في أيام الصيام".
يسأل أطفال عدنان عن فوانيس رمضان، وتماشياً معهم اصطحبهم الأب ليشتري لهم زينة قليلة، إذ صنع المتطوعون فوانيس وأهلة رمضان من الكرتون باستخدام صناديق المساعدات الإنسانية، وليدخل الأب البهجة على قلوب صغاره اشترى لهم تلك الزينة. يقول عدنان "لا مجال للفرح، ومن المستحيل أن نشعر بأجواء رمضان كما في السابق، غزة شاحبة ورغم ذلك عملت على الاستعداد لرمضان، قلبي خائف جداً من عودة الحرب، وأتمنى استمرار الهدوء طوال أيام الصيام".
لا تزال العائلات الغزية تحاول التكيف مع واقع مرير في رمضان، تقول خولة "الخيام التي تأوي الأسر التي فقدت منازلها تتوزع على طول الشوارع والميادين العامة، فقدنا أجواء رمضان الجميلة، رغم ذلك أحاول أن أفرح أطفالي بالتقاليد المتعارف عليها وهي زينة رمضان كالفوانيس تعويضاً لهم عما شاهدوه وعايشوه طوال الحرب". وتضيف "الخوف يملأ قلبي من انهيار الهدنة وعودة الحرب، حينها تختفي مراسم استقبال رمضان التي قمنا بها على الضيق، نأمل في أن تتوقف الحرب وألا نموت وننزح في أيام الصيام، الجميع خائف لدرجة كبيرة".
وعلى صعيد الشعائر الدينية في غزة، فقد تعرضت أكثر من 90 في المئة من مساجد القطاع للتدمير، يتحدث زياد "في رمضان، كانت المساجد هي الملاذ الذي ألجأ إليه للصلاة والدعاء والتهجد، وكان هذا الشهر يعم بالأجواء الروحانية، لكن أصبحت بيوت الله مجرد أطلال من الأنقاض، وأصوات المؤذنين التي كانت تملأ الأجواء تلاشت".
يقول المتخصص في الشأن الاقتصادي ماهر الطباع "معدلات الاستهلاك ترتفع في رمضان، هذا عبء على المواطنين في ظل الحرب، الذين يعانون ضعف القدرة الشرائية، المساعدات الغذائية لا تكفي لسد حاجات المواطنين".
يقول الباحث السياسي فريد أبو ضهير "من دون وجود تنازلات جوهرية من حركة (حماس)، لن تمضي إسرائيل قدماً في اتفاق التهدئة، هناك توجهات في تل أبيب قوية لتمديد المرحلة الحالية في إطار اتفاق محدود بين طرفي القتال، وذلك حتى يمر شهر رمضان بهدوء".
ويضيف "عانى الغزيون ما يكفي من ويلات الحرب، ولا مجال اليوم للحديث عن إمكان استئناف القتال، هناك مسؤولية يدركها الوسطاء وحركة (حماس) لضمان مرور شهر رمضان هذا العام من دون مزيد من الضحايا، السكان في غزة خائفون من عودة القتال، وهذا الخوف انعكس على مدى استعدادهم لرمضان، لذلك نرى تجهيزات محدودة وعلى مستوى ضيق".
الضفة... رمضان نزوح ووعد
ومن رمضان غزة إلى رمضان الضفة، وحال من عدم اليقين والقلق تهيمن على الأجواء. رمضان الضفة أفضل قليلاً، لكن "أفضل" لا تعني أبداً أوضاعاً طبيعية أو رمضاناً كالمعتاد. بمناطق معزولة ومحاصرة، وعمليات عسكرية في شمال الضفة الغربية، وانخفاض حاد في القوة الشرائية، يستقبل الفلسطينيون رمضان، في ظل ارتفاع حاد بأسعار المواد الغذائية، وتراجع حاد في مصادر دخل المواطنين.
يأتي رمضان هذه السنة في ظل إجبار سلطات الاحتلال الإسرائيلي أكثر من 40 ألف فلسطيني على النزوح عن مخيماتهم في محافظتي جنين وطولكرم. معتزمة حرمان هؤلاء الفلسطينيين من العودة إلى منازلهم لنحو سنة في الأقل، في خطوة تحدث للمرة الأولى منذ احتلالها الضفة الغربية قبل نحو 58 عاماً.
وتسبب ذلك في نزوح هؤلاء إلى مراكز للإيواء، وشقق سكنية، أو للإقامة لدى الأقارب، وهو ما فاقم من حدة المعاناة الاجتماعية والاقتصادية.
ورغم اكتظاظ أسواق بعض مدن الضفة الغربية، مثل رام الله والبيرة والخليل وبيت لحم، فإن مدن الشمال في جنين وطولكرم ونابلس تشهد تراجعاً حاداً في الحركة التجارية بسبب العملية العسكرية الإسرائيلية.
وتسبب منع إسرائيل أكثر من 200 ألف فلسطيني من العمل فيها منذ نحو عام ونصف العام في حرمانهم من ثاني أكبر دخل مالي لهم، بعد رواتب موظفي السلطة الفلسطينية، التي لا تصرف بصورة كاملة منذ أكثر من ثلاثة أعوام.
وبعد أن كان الفلسطينيون في إسرائيل يتخذون من جنين ونابلس وطولكرم أسواقاً لهم، حالت الحواجز والعمليات العسكرية الإسرائيلية دون الوصول إليها.
كما شددت سلطات الاحتلال قبل أكثر من شهر من إجراءاتها لتقييد حركة الفلسطينيين بين مدن وبلدات الضفة الغربية، وهو التقييد الذي بدأ في أعقاب حرب القطاع في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023. ووصل عدد تلك العراقيل إلى 898 موزعة بين حاجز عسكري أو بوابة أو حاجز ترابي ومكعبات أسمنتية.
وتسببت تلك الحواجز في نشوء "المعازل الاقتصادية" في الضفة الغربية، كذلك تسهم في تباين الأوضاع الاقتصادية والحركة التجارية بين مناطق الضفة الغربية.
وفي محاولة لتوفير الوجبات الغذائية والنازحين في رمضان، تسارع الخطى لإقامة تكايا ومطابخ مركزية، بخاصة في شمال الضفة الغربية. وأطلق محافظ طولكرم عبدالله كميل "تكية ياسر عرفات الخيرية" بهدف توفير الوجبات الرمضانية للأسر المعوزة، مشيراً إلى أن طولكرم تعاني أوضاعاً صعبة "نتيجة عدوان الاحتلال الإسرائيلي غير المسبوق على المدينة طولكرم ومخيميها".
ولجأ أكثر من 20 ألف فلسطيني من مخيمي طولكرم ونور شمس إلى مراكز إيواء وشقق ومقار جمعيات في الأحياء والقرى المجاورة لهما. وإلى الشمال من طولكرم، أجبرت إسرائيل نحو 20 ألفاً من سكان مخيم جنين على إخلائه من سكانهم كافة، ومنعتهم من العودة إليه منذ أكثر من شهر. وقال رئيس بلدية جنين محمد جرار إن هؤلاء يقيمون "عند أقاربهم، أو في عمارات سكنية استأجروها، وهو ما يفرض عليهم التزامات مالية إضافية".
الوضع في جنين صعب للغاية، والأجواء حزينة، على حد قول جرار، "فلا سهرات رمضانية بسبب منع التجوال، ولا أسواق اعتيادية، ولا زائرون من خارج المدينة لأسواقها كما جرت العادة".
وفي نابلس التي كانت تعتبر العاصمة الاقتصادية للضفة الغربية، حولت الحواجز العسكرية الإسرائيلية أسواق المدينة إلى شبه خاوية، بسبب صعوبة وصول الفلسطينيين في قرى المحافظة، والفلسطينيين داخل إسرائيل إليها. وكانت المدينة تستقبل أسبوعياً آلاف الفلسطينيين من داخل إسرائيل، وهو ما تراجع بصورة حادة للغاية خلال الأسابيع الماضية.
ورغم تلك الصعوبات فإن الأسواق الفلسطينية تشهد ارتفاعاً في أسواق السلع الغذائية، بخاصة الدجاج ولحوم الماشية والعجول إضافة إلى المواد التموينية. ويصل سعر الكيلو الواحد من لحوم الماشية إلى أكثر من 30 دولاراً أميركياً، فيما يصل سعر كيلو الدجاج إلى أربعة دولارات.
وفي محاولة لخفض تلك الأسعار، أطلقت جمعية حماية المستهلك الفلسطيني حملة لمقاطعة شراء اللحوم، لكنها فشلت، وفق المسؤولة في الجمعية رانية الخيري. وأشارت إلى وجود عروض للمحلات الكبرى على أسعار اللحوم والمواد الغذائية، وهو "ما يسهم في تقليل تلك الأسعار عبر المنافسة بين تلك المحال، وهو ما يأتي لمصلحة المستهلكين".
ورغم أن وزارة الاقتصاد الفلسطينية أعلنت "قائمة السقف السعري الاسترشادي الأعلى للمستهلك"، فإن الفلسطينيين يشكون من ارتفاع الأسعار بصورة مبالغ فيها. وقالت وزارة الاقتصاد الفلسطينية إن القائمة أُعدت من قبل لجنة متخصصة بعد مراجعة شاملة لأسعار السلع بما يراعى مصالح جميع الأطراف.
وعبرت الخيري عن خشيتها من استغلال بعض التجار تلك القائمة في رفع الأسعار، مشيرة إلى أن الفلسطينيين مضطرون إلى تأمين حاجات رمضان بالحد الأدنى، مع عزوف كثير منهم عن إقامة الولائم.
ويرى المتخصص الاقتصادي مؤيد عفانة أن الحركة التجارية المرتفعة نسبياً في رام الله ليست مقياساً للمحافظات الفلسطينية الأخرى، مشيراً إلى أن إسرائيل أقامت المئات من المعازل الاقتصادية في الضفة الغربية.
وبحسب عفانة فإن "حرمان عشرات آلاف الفلسطينيين من العمل في إسرائيل، وعجز السلطة الفلسطينية عن دفع رواتب موظفيها كاملة، وتقييد وصول أهلنا في الداخل إلى شمال الضفة الغربية كلها عوامل مدمرة للاقتصاد الفلسطيني، إضافة إلى العملية العسكرية في شمال الضفة الغربية، واحتمال انتقالها إلى وسط وجنوب الضفة، يضع الفلسطينيين في حال عدم يقين اقتصادي، ناهيك بالترقب والقلق".
أما عضو غرفة تجارة وصناعة رام الله محمد عابدين فيشير إلى ارتفاع الحركة الشرائية في رام الله بنحو 20 في المئة خلال المواسم مثل رمضان والأعياد، وهو ما يقلل نسبة الانخفاض المتوقعة بنسب تراوح ما بين 40 و60 في المئة.
وللسنة الثانية على التوالي تحرم سلطات الاحتلال الإسرائيلي الفلسطينيين من الوصول إلى المسجد الأقصى في القدس للصلاة فيه، ومعروف أن المسجد الأقصى وجهة مئات الآلاف من الفلسطينيين من أنحاء الضفة الغربية ومن داخل إسرائيل طوال أيام شهر رمضان.
السودان... الجوع يتربص بالصائمين
يصعب على السودانيين في مناطق النزاع المسلح بخاصة ولايات الخرطوم ودارفور والجزيرة والنيل الأبيض الاستجابة لمتطلبات شهر رمضان بعدما سلبت الحرب البريق المعتاد وغير الحزن بهجته التي كانت في ما مضى تشهد صخباً وتضج بالحياة.
حل رمضان وسط ظروف بالغة التعقيد، خصوصاً الأوضاع الإنسانية والمعيشية وانفراط الأمن، وكذلك انعدام السيولة واشتداد حدة الفقر نتيجة توقف الأعمال اليومية، فضلاً عن أزمة الرواتب التي تفاقمت لأكثر من 22 شهراً، ولم يعد بمقدور الغالبية توفير حاجاتهم اليومية من الغذاء، فكيف بالنسبة إلى شراء مستلزمات رمضان.
يشرح أحد المواطنين مصعب النعيم، من منطقة الأزهري بالخرطوم "تقطعت سبل السكان في تأمين قوائم الشهر الكريم وحتى مياه الشرب والمواد الغذائية، صحيح هناك انفراج طفيف في توافر بعض السلع لكن أسعارها تضاعفت، ولا تزال غالبية المتاجر مغلقة وحركة البيع متوقفة، وكذلك المحروقات غير متوافرة".
وأضاف، "الوضع تجاوز كل حدود الاحتمال، فمعظم الجيران لا يتناولون وجبة واحدة لمدة يوم كامل، ونسمع أحياناً صوت بكاء الأطفال من شدة الجوع، ومن ثم فإن غالبية السكان لا يستطيعون توفير حاجات شهر رمضان". وشدد النعيم على ضرورة التحرك العاجل لإنقاذ ملايين من العالقين وسط المعارك حتى داخل أحياء العاصمة الخرطوم، الذين يكابد معظمهم جوعاً حقيقياً مع تفشي أمراض سوء التغذية، في ظل توقف "التكايا" والمطابخ الخيرية.
الطاهر المندوب، أحد سكان مدينة ود مدني بولاية الجزيرة يقول "أوضاع سكان الإقليم صعبة للغاية، ورغم الاستقرار النسبي والقليل من مظاهر الحياة والحركة التجارية، فإن هناك صعوبات كبيرة في تدبير الناس حاجاتهم اليومية بسبب نفاد المدخرات المالية". مضيفاً "يأتي شهر رمضان هذا العام في وقت تتضاعف فيه موازنة الأسر، فضلاً عن الظروف المعيشية المتردية والافتقار إلى الخدمات الأساس، لذا فإن غالبية السكان يعانون أزمة في الغذاء، إلى جانب عدم القدرة على شراء المستلزمات من سكر وذرة وقمح وتمور وغيرها".
من جانبه أشار المواطن الطيب هارون، أحد سكان مدينة نيالا عاصمة ولاية جنوب دارفور، إلى أن "أكثر ما يقلقهم الأزمة الاقتصادية وندرة السلع الغذائية وارتفاع أسعار المتوافر منها في الأسواق بنسبة تجاوزت الـ400 في المئة، مما يزيد من معاناتهم وصعوبة تجهيز مستلزمات رمضان".
وأوضح هارون "عادة، نتسوق قبل حلول الشهر بأسبوعين، لكنني عاجز في الوقت الحالي عن شراء كثير مما تحتاج إليه أسرتي، وسنكتفي بالحد الأدنى من الحاجات". لافتاً إلى أن "الدولة ركزت جهودها على الحرب ورفعت يدها عن كل شيء، وتركت المواطنين يواجهون مصيرهم وحدهم".
إزاء هذا الوضع، شرع عدد من المتطوعين بالسودان في تقديم مساعدات للسكان العالقين في الولايات التي شهدت نزاعاً مسلحاً من خلال توزيع "كرتونة رمضان" التي تحوي دقيقاً وسكراً وزيوتاً وتموراً وغيرها من المستلزمات. المتطوع محمد عثمان قال إن "المبادرات تستهدف سكان أقاليم الخرطوم والجزيرة والنيل الأبيض، بهدف تقديم العون، بخاصة في ظل الظروف المعيشية والإنسانية الصعبة". موضحاً "المتطوعون تلقوا دعماً مالياً كبيراً عقب الإعلان عن المبادرات في وسائل التواصل الاجتماعي وتفاعل المغتربين ونجوم الفن وكرة القدم بصورة كبيرة على رغم تفاقم الأوضاع".
على الصعيد نفسه، أوضح المتخصص في الشأن الاقتصادي عمار موسى أن "هناك عوامل عدة، جعلت كثيراً من الأسر غير قادرة على تلبية حاجات شهر رمضان، منها التداعيات السلبية للصراع المسلح وتزايد معدلات الفقر وانعدام الأمن الغذائي، وكذلك فشل الموسم الزراعي وتمدد المجاعة في عدد من الولايات السودانية".
وأضاف "الحرب وما سببته من أزمات وأوضاع إنسانية معقدة وارتفاع لأسعار السلع الاستهلاكية، عوامل تجعل رمضان هذا العام أكثر تعاسة بالنسبة إلى السودانيين داخل وخارج البلاد". ونوه المتخصص في الشأن الاقتصادي بأن "توقف الأعمال اليومية وعدم صرف الرواتب لأكثر من عام ونصف العام أسهما في تدني مستوى المعيشة، فضلاً عن إفراز مشكلات اقتصادية واجتماعية".
وحل شهر رمضان على سكان ولاية النيل الأبيض في ظل ظروف صعبة ومعقدة، إذ وجدوا أنفسهم في مواجهة أخرى أشد ضراوة مع الأوبئة الفتاكة، وفي مقدمها الكوليرا التي حصدت أرواح العشرات، فضلاً عن تزايد أعداد المرضى.
يصف محمد جبارة، الذي يقطن مدينة كوستي هذه المرحلة بالمأسوية، يفاقمها الوضع الاقتصادي السيئ والخدمات المقطوعة، فسكان الإقليم حالياً يعيشون حصاراً يغيب فيه الحد الأدنى من متطلبات الحق الإنساني في الحياة، وأضاف "حل رمضان في وقت بلغت معاناتنا حداً لا يوصف في الحصول على متطلبات الحياة اليومية في المأكل والمشرب، وبلغ منا التقشف وحصر الصرف على الضرورات درجة تقليص عدد الوجبات إلى واحدة فقط للحفاظ على مؤنتنا الغذائية، ونعيش الآن على آخر مبالغ مالية من مجمل مدخراتنا ما قبل الحرب، ولا نعلم ماذا سيحدث حال استمرار هذا الوضع وهل فعلاً سنواجه وأسرنا الجوع في ظل غياب أي معونات إنسانية غذائية".
ونوه جبارة بـ"اعتماد" غالبية المواطنين على معاشهم يوماً بيوم، ويشهد شهر رمضان استهلاكاً متزايداً للسلع الغذائية، واستمرار الحرب يؤثر في أرزاقهم وتدبير حاجاتهم، بخاصة بعدما خلفت الاشتباكات المسلحة أضراراً في مختلف الأنشطة الإنتاجية والخدمية، لا سيما المرتبطة بتوفير السلع للأسواق.
وتابع المتحدث "الوضع الإنساني كارثي للغاية، فالمواد الغذائية نفدت من الأسواق تماماً، كذلك فإن المصانع والمخابز توقفت عن العمل، والأمر المؤسف تصاعد أسعار السلع لأعلى معدل في استغلال واضح للمواطنين رغم انعدام النقود لدى غالبية السكان الذين يعتصرهم الجوع".
سوريا... رمضان غلاء وبلا أسد
وفي سوريا يبدو رمضان أخف وطأة من مناطق الحروب والصراعات، لكنه أيضاً أبعد ما يكون عن الأجواء الرمضانية السورية المعتادة، صحيح أن السوريين يحرصون على ممارسة تقاليد وشعائر الشهر المبارك بسهراتهم وجلساتهم وطقوسهم، لكن كل ما سبق طرأ عليه كثير من التغييرات جراء أعوام الحرب العجاف.
أرهق الصراع المسلح السوريين على مدى ما يزيد على عقد، لكن ما يميز رمضان هذا العام بأنه يحل بينما تعيش البلاد مخاضاً عسيراً نحو الاستقرار إثر سقوط النظام، وما خلفه من فوضى عارمة، بينما تظل قضايا السياسة والاقتصاد والأمن الهاجس الفعلي للناس.
يوم ملطخ بالدماء فصل السوريين عن شهر الصوم، يوم عكر المزاج العام للبلاد التي تشهد عمليات انتقامية واسعة، لا سيما في قرى سكانها ذات غالبية من الطائفة العلوية، وسط غياب للعدالة الانتقالية، ومحاسبة علنية واضحة لرموز أو مجرمي النظام البائد منذ سقوطه في الثامن من ديسمبر (كانون الأول) 2024.
تمثل هذه الحوادث مصدراً للرعب لدى السوريين، وأحدثها، بحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان، أدى إلى قتل وإصابة 68 شخصاً بينهم معتقلون ومفقودون، وذلك في عملية عسكرية في قرية عين الشمس في ريف حماه. وتبرر السلطات الجديدة ما جرى بأنها "كانت تلاحق فلول النظام من عسكريين وأمنيين".
ومع هذا يحاول السوريون جاهدين التغلب على واقعهم المؤلم في رمضان، المشكلات الأمنية وغياب السلم الأهلي يأتيان أعلى قائمة أولويات الجميع، لا سيما بعد ما "ذهبت السكرة وجاءت الفكرة"، فبعد خمسة عقود من حكم الأسد (الأب والابن) آلت البلاد إلى حكم المعارضة المسلحة، التي توصف بالأكثر تشدداً. ويطغى لون واحد على إدارة البلاد من دون إشراك لبقية المكونات العرقية والدينية والطائفية، وذلك وسط تطمينات من الرئيس السوري أحمد الشرع بالحفاظ على دورهم وإشراك الجميع في حكومة انتقالية شاملة من المتوقع إعلانها قريباً.
مظاهر التشدد سبقت حلول شهر رمضان بحزمة من القرارات أو عبر مبادرات فردية لأشخاص ملتحين ونساء منقبات يجوبون الشوارع لحث المارة على حجاب النساء وإطلاق اللحى للرجال، والتزام عادات رمضان الدينية، أما وزارة الأوقاف فبادرت إلى عمل إعلانات في الشوارع تحض على التوبة في شهر الصوم.
رمضان "الجديد" في سوريا لا يتوقف عند هذا الحد، بل أمر توجيه صادر عن وزارة العدل، وعبر تعميم رسمي صادر عن عدلية ريف دمشق، بعدم التدخين والمجاهرة بالإفطار احتراماً لمشاعر الصائمين، وطالب كل المراجعين والعاملين في العدلية التابعة لوزارة العدل التزام نص هذا القرار، وأنه وفي حال المخالفة "ينظم ضبط لازم، وتوقيف المخالف، وتحريك الدعوى العامة بحقه استناداً إلى أحكام المادة (517) بدلالة الفقرة الأولى من المادة 208 من قانون العقوبات بجرم التعرض للآداب العامة من قانون العقوبات العام".
هذه الإجراءات المتشددة لفرض الصيام وعدم المجاهرة بالإفطار سبقتها قرارات بمواعيد إغلاق المقاهي والمطاعم في فترات الصيام، وهذا ما ترك كثيراً من التساؤلات عن الحريات العامة التي خرج السوريون في ثورة من أجلها في مارس (آذار) عام 2011 وهيمنة المتشددين على قرارات العهد الجديد.
تقول الناشطة الحقوقية رفاه السيد أحمد "السوريون ليسوا في حاجة إلى قرارات أو قوانين تسن وتفرض، لا من أشخاص أو من هيئات لفرض الاحترام، فهذه من عاداتنا وتقاليدنا الاجتماعية، السوريون من مختلف الطوائف يحرصون على عدم المجاهرة سواء بالتدخين أو بالطعام خلال فترة الصوم حفاظاً على مشاعر الصائمين، حان الوقت للخروج بقرارات أوسع، ونحتاج إلى تطبيق سريع لمخرجات المؤتمر الوطني".
أما تحديات رمضان فتبقى المشكلات الاقتصادية والمعيشية على رأس قائمة الأولويات. ارتفاع كلف المعيشة وتأخر رواتب الموظفين مثلا عبئاً إضافياً على كثر، لا سيما أن أصحاب الأعمال الكبيرة يعانون كثيراً انخفاض الإنتاج، وذلك بعد فتح أبواب الحدود الشمالية من جهة (الجارة) التركية، ومع تدفق المنتجات بأسعار منافسة أدى ذلك إلى خفض أعداد العاملين وتقليص كتلة الرواتب 50 في المئة.
ولم تفلح التحويلات المالية الخارجية من المغتربين إلى عائلاتهم، التي كانت تمثل خلال أعوام الحرب وكانت ترتفع معدلاتها مع حلول رمضان وفي الأعياد كما "البحصة التي تسند الجرة"، في تحسين الأوضاع المعيشية في رمضان ولو قليلاً.
الارتفاع الوهمي في قيمة الليرة التي وصلت إلى ما دون 10 آلاف ليرة مقابل الدولار الواحد في السوق الموازية، بينما كانت قبل سقوط النظام كسرت حاجز 20 ألف ليرة، مع عدم تغير أسعار غالب المواد الاستهلاكية والغذائية، وفلتان الأسواق التي تعمل من دون رقابة تموينية أو صحية، علاوة على ارتفاع أسعار الخبز من 500 ليرة للربطة الواحدة إلى 4 آلاف ليرة، إضافة إلى ارتفاع أسعار المحروقات، التي كان جميعها مدعوماً من الحكومة، جميعها أثر في السوريين في رمضان.
تقول "أم وليد" إن ابنها الذي يعمل طبيباً في ألمانيا دأب على إرسال حوالات للأسرة، وكانت الحال ميسورة، ولم يكن ينقصها أو أسرتها شيء في رمضان، وتضيف "اليوم الفرق كبير، بقيت الأسعار على حالها بينما قيمة العملة الأجنبية انخفضت، هناك فرق كبير في قيمة المدخرات التي أوشكت على النفاد".
الواقع المعيشي السيئ للسوريين يعزوه مراقبون إلى حجم الفساد على مدى عقود حكم النظام السابق الذي هيمن على الاقتصاد. في الأسواق التي تشهد عرضاً واسعاً من المنتجات المحلية وكثيراً من البضائع التركية التي تصل عبر الشمال السوري، تظل القدرة الشرائية ضعيفة جداً.
يقول حسام الصغير (35 سنة) "أذكر أننا قبل الحرب كنا نتوجه إلى الأسواق قبل رمضان بأيام، ونشتري كميات كبيرة من المواد الغذائية، ولا أبالغ إذا قلت إن عائلتي كانت تشتري بالشوال (أكياس خيش كبيرة)، اليوم اختلفت الأوضاع، الضائقة المادية تدفعنا إلى الشراء بالوقية (أقل من كيلوغرام)".
السوريون يشعرون في رمضان هذا العام بفروق كبيرة عما سبقه من أعوام، التحديات الأمنية والمعيشية ترهق كاهلهم، مع البحث عن وسائل التدفئة، وإن وجدت فهي غالية الثمن وسط أجواء باردة، حيث ينخر الصقيع عظامهم في البيوت والخيام المترامية الأطراف شمال البلاد. الغالبية تشعر أن رمضان هذا العام مختلف، إذ المستقبل ما زال غامضاً والحاضر لم تتضح معالمه بعد.
لبنان... رمضان تحت وطأة الأزمات
معالم أخرى لم تتضح بعد، وعهد جديد في طور التكوين، وتحديات تتزامن وشهر رمضان، يشهدها لبنان، فمع خروج لبنان من حرب مدمرة استمرت 16 شهراً نتيجة الاعتداءات الإسرائيلية، يجد البلد نفسه أمام واقع جديد يفرض تحديات غير مسبوقة على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، فقد تسببت الحرب في نزوح آلاف العائلات، وتدمير واسع للبنية التحتية، وتفاقم الأزمة المالية التي تعانيها البلاد منذ عام 2019.
ورغم تشكيل حكومة جديدة فلا تزال المخاوف قائمة في شأن قدرتها على مواجهة التحديات المتراكمة، وإعادة الإعمار، وتحقيق استقرار اقتصادي واجتماعي مستدام. فرضت هذه الظروف واقعاً معيشياً صعباً على اللبنانيين، الذين يستقبلون شهر رمضان هذا العام في ظل تضخم منفلت، وارتفاع أسعار المواد الغذائية، وشح في المساعدات الدولية، كذلك فإن استمرار التراجع في التحويلات المالية من المغتربين زاد من تعقيد الأزمة المالية، مما وضع الحكومة أمام اختبار صعب لتحقيق التوازن بين استقطاب المساعدات الخارجية والحفاظ على الاستقرار الداخلي من دون تحميل المواطنين مزيداً من الأعباء.
يقول المتخصص الاقتصادي والمالي بلال علامة في حديث إلى "اندبندنت عربية" أن "اللبنانيين يواجهون أوضاعاً اقتصادية وأمنية واجتماعية بالغة الصعوبة مع قدوم شهر رمضان، إذ لا يزال كثر خارج منازلهم المدمرة، سواء في جنوب لبنان والبقاع الغربي والبقاع الشمالي، أو حتى في الضاحية الجنوبية".
ويضيف، "هؤلاء النازحون غير قادرين على العودة إلى بيوتهم التي لم تعد موجودة أصلاً، فضلاً عن مواجهتهم أزمة سكنية ومعيشية خانقة"، مشيراً إلى أن "هذه الأزمة تتفاقم نتيجة شح المساعدات، سواء من مؤسسات الدولة أو المنظمات الدولية مثل الوكالة الأميركية للتنمية الدولية USAIDالتي أوقفت دعمها، وهو ما يزيد من معاناة المتضررين مع حلول رمضان".
من جهته أشار النائب بلال العبدالله إلى أن "اللبنانيين استقبلوا شهر رمضان هذا العام بقلق كبير، في ظل الهواجس الأمنية والاقتصادية والاجتماعية والصحية والتربوية التي تؤرق الجميع من دون استثناء"، لافتاً إلى أن "اللبنانيين على رغم بعض الأمل الذي يحمله العهد الجديد والحكومة الجديدة، فلا يزالون يرزحون تحت وطأة الأزمات، منتظرين فرجاً طال انتظاره".
ولفت العبدالله إلى أن "آلاف العائلات دمرت بيوتها كلياً، وبعضها لجأ إلى مساكن موقتة أو استأجر شققاً لدى أقارب، لكن الأزمة تتجاوز مجرد السكن، إذ تتعلق أيضاً بالنزوح وإعادة الإعمار، وهي عملية تحتاج إلى أموال ووقت طويل"، مؤكداً أن "الحكومة، وفق تصريحات رئيسها، تعتزم التحرك بسرعة"، لكنه شدد على "ضرورة إنشاء صندوق لإعادة الإعمار"، داعياً "أصدقاء لبنان إلى تقديم الدعم اللازم للمساعدة في إعادة بناء البيوت والبنى التحتية والخدمات وغيرها".
كما في كل عام تعد كلفة طبق الفتوش مؤشراً إلى كلف المعيشة في لبنان، التي سجلت هذا العام 285540 ليرة لبنانية، بانخفاض طفيف عن العام الماضي، ورغم هذا التراجع، فإن الأسعار لا تزال مرتفعة مقارنة بالأعوام السابقة، إذ ارتفعت من 4250 ليرة عام 2020 إلى 287970 ليرة عام 2024، ويعود هذا التفاوت إلى ارتفاع أسعار البندورة والخيار وغيرهما من مكونات الطبق.
وفي ظل وصول كلفة حصة الفرد من الفتوش إلى 57108 ليرات، تتفاقم الضغوط المعيشية على الأسر اللبنانية، بخاصة في رمضان، واستمرار الأزمة الاقتصادية. وحذر علامة من أن "اللبنانيين سيواجهون ارتفاعاً حاداً في أسعار السلع الأساسية مع اقتراب رمضان، بدءاً من قطاع الدواجن واللحوم، التي شهدت ارتفاعاً عالمياً، وصولاً إلى الخضراوات والفاكهة"، مؤكداً أن "الحكومة عاجزة عن ضبط تفلت الأسعار بسبب ضعف الإمكانات والكادر البشري المتخصص، مما يجعل الأوضاع أكثر صعوبة على المواطنين".
وعن نية الحكومة الجديدة فرض مزيد من الضرائب، أشار علامة إلى أن "الحكومة لا تنوي فرض ضرائب جديدة، لكنها عازمة على تحصيل الضرائب السابقة وإقفال باب التهرب الضريبي، مما قد يدفع بعض التجار إلى رفع أسعار السلع لتعويض هذه المستحقات، مما يجعل المواطن اللبناني المتضرر الأكبر من هذه السياسات".
كثيراً ما شكلت التحويلات المالية من المغتربين ركيزة أساساً للاستقرار الاقتصادي في لبنان، إلا أن التراجع المستمر في قيمتها يفاقم الضغوط المالية، ويضع البلاد أمام تحديات متزايدة في تأمين التوازن الاقتصادي. ولفت علامة إلى أن "لبنان كان يعتمد سابقاً على التدفقات المالية من الخارج وتحويلات المغتربين لسد العجز في ميزان المدفوعات، إلا أن هذه التحويلات شهدت انخفاضاً حاداً من 8 مليارات دولار عام 2023 إلى 5.8 مليار دولار عام 2024، ومن المتوقع أن تتراجع أكثر عام 2025"، مؤكداً أن "هذا التراجع سيخلق فجوة مالية إضافية وضغطاً على الحكومة التي تحاول تأمين استقرار نسبي من دون تحميل المواطنين أعباء إضافية، لا سيما في رمضان".
العراق... قلق من تقلبات الأحداث
الأحداث الساخنة في غزة والضفة وكذلك في لبنان ألقت بظلالها على العراق، مما يفسر جزءاً من تأثر أجواء رمضان سلباً هذا العام. فقبل أيام قليلة من بدء رمضان أصدرت وزارة الداخلية العراقية تعليمات جديدة في شأن إجراءات الشهر الفضيل، وذكر المتحدث باسم الوزارة العميد مقداد ميري ضمن بيان أنه "لن يكون هناك غلق لجميع المطاعم والمقاهي وكذلك المراكز التجارية وأماكن التبضع وجميع مرافق الحياة، واستمرار الفعاليات الرمضانية في بغداد والمحافظات خلال رمضان من وقت الإفطار وحتى السحور"، مؤكداً أن كامل إجراءات المنع ستطبق خلال ساعات الصيام مع توفير الأجواء الآمنة الكاملة والانسيابية المرورية لجميع المواطنين.
وكان وزير الداخلية العراقي عبدالأمير الشمري وجه بمنع الإفطار العلني خلال رمضان، بما في ذلك غير المسلمين أيضاً ومنع تقديم المشروبات الكحولية وغلق مخازنها، فضلاً عن إقفال جميع المطاعم والمقاهي والنوادي الاجتماعية في الفنادق.
في هذا الصدد يقول الباحث السياسي خالد العرداوي إن المنطقة والعراق يستقبلان رمضان بكثير من الأمل، لكن قلقاً كبيراً يوازي هذا الأمل أيضاً من تقلبات الأحداث وتطوراتها، لا سيما مع وجود إدارة أميركية توضح تماماً أنها لن تتسامح في الدفاع عن مصالحها ومحاسبة خصومها، والأشد قلقاً من بين دول المنطقة العراق، لأنه وسط نقطة حرجة بين مطرقة واشنطن وسندان خصومها.
وبحسب العرداوي، ما يزيد الوضع خطورة ويحول دون فرحة الناس برمضان تعدد مراكز صنع القرار السياسي العراقي وتعدد مراكز القيادة والسيطرة الأمنية فيه وتقاطع مصالح القوى السياسية وتآمر بعضها على البعض الآخر في لعبة سياسية جامدة لا تتعظ من تطورات الأحداث وتقلباتها، ولا يرغب لاعبوها في التكيف مع التغيير وتبدل قواعد اللعبة. وزاد أن الجميع يعيش حالاً من التوجس والخوف لعدم اليقين بما هو آتٍ وعدم توافر الإمكانات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية لمواجهته في حال سار بالاتجاه العدائي الخارج عن السيطرة.
يقول الباحث في الشأن العراقي مجاشع التميمي إن هناك قلقاً حكومياً وسياسياً تجاه ما يحدث في الإقليم من تطورات بعد سقوط بشار الأسد ومجيء الرئيس ترمب إلى البيت الأبيض والتهديدات غير المباشرة منه تجاه العراق. وانعكس ذلك سلباً على المواطن العراقي الذي يعاني أزمات عدة، لا سيما على صعيد الاقتصاد، مما يتفاقم في رمضان.
ويضيف أن الاعتماد الوحيد على النفط يفاقم من حجم القلق في حال جرى تطبيق عقوبات على القطاع النفطي، لذلك تحول القلق العراقي إلى هواجس من الأوضاع الاقتصادية والمالية بعد أعوام من المعاناة الأمنية خلال السنوات الأولى للتغيير السياسي عام 2003، وكذلك من أوضاع أمنية سيئة انعكست سلباً على أجواء رمضان. ويشير إلى أنه بعد تحرير العراق من تنظيم "داعش" تطورت الأوضاع الأمنية وتحسّنت بصورة ملحوظة، لكن الأوضاع الاقتصادية والأزمات المالية والسياسية مستمرة في التأثير في مزاج المواطن.
ويرى أستاذ الاقتصاد الدولي نوار السعدي أنه رغم طقوس العراقيين الاحتفالية في رمضان، يظل هناك قلق جراء ما يطرح بصورة يومية في الإعلام عن مخاوف من العقوبات الأميركية المحتملة والتغيرات الجيوسياسية التي تعيد تشكيل خريطة الشرق الأوسط، مشيراً إلى أن التداعيات الاقتصادية تبدو أكثر إيلاماً في رمضان، إذ تتداخل الأزمة الاقتصادية مع الطقوس الرمضانية التقليدية التي تعتمد على الاستقرار المعيشي والقدرة الشرائية للعراقيين.
وأضاف، "لو جرى فرض عقوبات أميركية فسيؤدي ذلك إلى مزيد من الضغوط على الاقتصاد العراقي، مما ينعكس في ارتفاع الأسعار، بخاصة في السلع الأساسية التي تشهد طلباً متزايداً خلال رمضان. ومع انخفاض قيمة الدينار العراقي بسبب تقييد التعاملات بالدولار وتزايد التضخم ستتقلص القوة الشرائية للأسر العراقية، مما يجعل توفير المستلزمات الرمضانية أكثر صعوبة بالنسبة إلى كثير من العائلات".
ويشير السعدي إلى أن التوترات السياسية والأمنية المصاحبة لهذه العقوبات حال تطبيقها ستؤثر في الأجواء الرمضانية من تجمعات عائلية وغيرها، لا سيما أن رمضان في العراق ليس مجرد مناسبة دينية، بل مناسبة اجتماعية مهمة لا تستوي مع هذا الكم من الأعباء.
اليمن... شبح المجاعة ما زال حاضراً
أعباء اليمنيين في رمضان هذا العام متعددة المصادر ومتناثرة الآثار، لكن البطون الخاوية تطل برأسها ولسان حالها يقول إنها الأسوأ عالمياً، إذ يعاني اليمنيون انعدام الأمن الغذائي وانهيار المنظومة الصحية وتدني الرواتب التي لا تغطي أبسط المتطلبات الأساسية مع ارتفاع جنوني في الأسعار وتدهور القدرة الشرائية نتيجة الانخفاض الحاد في قيمة الريال اليمني إلى مستويات غير مسبوقة.
ويقول جلال العلواني (38 سنة) وهو أب لأبناء يعيشون في بيت إيجار بمحافظة إب، "نستقبل رمضان هذا العام والأوضاع المادية متأزمة، ويعاني كثير من الأشخاص في سبيل تأمين حاجاتهم الأساسية. فالجيران في الحارات القريبة لا يستطيعون توفير قوتهم اليومي، وأصبحوا يعتمدون على المعونات التي يقدمها فاعلو الخير أو المنظمات الإنسانية"، مشيراً إلى أن "الوضع مزرٍ والناس بلا رواتب ولا معاشات، حتى الأسواق شبه خالية من المشترين بسبب قلة المال المتداول".
ويتزامن رمضان هذا العام وشبح مجاعة يلوح في الأفق عقب توقف ثلث المساعدات من المنظمات الأممية نتيجة العراقيل التي يفرضها بعض أطراف الصراع ونقص التمويل من المانحين الذين سئموا طول أمد الحرب وانشغلوا بأزماتهم الداخلية.
ويحذر الباحث في الشؤون الإنسانية محمد المقرمي من مجاعة محققة بدأت تظهر خيوطها في مختلف المحافظات قبيل رمضان، في ظل تدهور الوضع الإنساني من المرحلة الرابعة (الطوارئ) إلى المرحلة الخامسة (المجاعة)، لافتاً إلى توقف ثلث المساعدات الأممية وحذف أربعة ملايين مستفيد مع بداية عام 2025 بسبب نقص التمويل والقيود التي يفرضها الحوثيون وحملات الاختطاف العشوائية للعاملين في المجال الإنساني، ومطالباً "المجتمع الدولي بالضغط على الحوثيين وتقديم التسهيلات إلى تلك المنظمات حتى تتمكن من إنقاذ المدنيين".
وأوضح المقرمي أن أكثر من 22 مليون يمني لا يجدون قوت يومهم، مشيراً إلى أن بعض أرباب الأسر لجأوا إلى بيع أجزاء من أجسادهم لتوفير متطلبات الحياة. كما بدأت ظواهر اختطاف الأطفال والاتجار بالبشر تنتشر في المجتمع اليمني المحافظ إلى جانب تفشي سلوكيات لا أخلاقية نتيجة صعوبة الأوضاع.
ودعا المقرمي رجال المال والأعمال اليمنيين إلى تحمل المسؤولية المجتمعية في رمضان وتقديم المساعدات لسد الفجوة التي تركتها المنظمات الدولية وطالب المجتمع الدولي بالضغط على الحوثيين وإجبارهم على الجلوس إلى طاولة المفاوضات لتحقيق الاستقرار وإنهاء كوارث الحرب ليسمح ذلك للحكومة الشرعية بالاستفادة من ثروات البلاد النفطية والزراعية والبحرية والسياحية وتحريك عجلة التجارة وإنعاش الاقتصاد مع عودة المستثمرين ومن غادروا من رجال المال والأعمال بسبب الحرب.
أجواء رمضان في مخيمات النزوح اليمنية تغلب عليها الكآبة والبؤس، حيث لا مأوى ثابتاً، أو غذاء سوى قليل للبقاء على قيد الحياة. ووفقاً لإحصاء الوحدة التنفيذية لإدارة مخيمات النازحين في اليمن بلغ عدد النازحين منذ بدء الحرب 4.1 مليون شخص.
وعن أجواء رمضان يقول أحمد زبل (28 سنة)، "للأسف أصبحت أستقبل شهر رمضان بكل حزن وأسى في ظل الأوضاع المأسوية التي تعانيها بلادنا. أتذكر أياماً كان اليمن يعيش خلالها في سلام وازدهار، وكانت أيام رمضان تملؤها الفرحة والسرور، لكن الآن في ظل الحرب والفقر والبطالة أصبح من الصعب توفير الطعام والشراب والمأوى حتى وجبة الإفطار"، مؤكداً استمراره في التعلق بالأمل للخروج من هذه المأساة.
يُشار إلى أن الحكومة اليمنية المعترف بها صرحت قبل أيام بأن الحرب المستمرة منذ 10 أعوام أدت إلى خسارة اليمن أكثر من نصف دخله القومي، بما يصل إلى 250 مليار دولار مع ارتفاع معدلات البطالة إلى 80 في المئة. وقال وزير التخطيط والتعاون الدولي واعد باذيب خلال منتدى الرياض الدولي الإنساني الرابع إن الصراع تسبب في "تدهور قيمة العملة المحلية 700 في المئة ووصول معدل التضخم التراكمي إلى 183 في المئة وارتفاع نسبة البطالة إلى 80 في المئة"، مما يضاعف معاناة اليمنيين في رمضان.
ليبيا... الانقسامات تنعكس على رمضان
معاناة أخرى وانقسامات مشابهة تدور رحاها وتتفاقم آثارها خلال رمضان في ليبيا، ورغم أن ليبيا تستقبل الشهر بقلوب أثقل كاهلها تأخر الرواتب والإفراجات المالية التي يقابلها ارتفاع في أسعار المواد الغذائية الأساسية، فإن الليبيات حريصات على إحياء مظاهر الفرح في بيوتهن، حيث تكون البداية بتجهيز المطابخ وشراء أوانٍ جديدة وما يلزم من مؤونة لوجبات وحلويات أيام الصوم.
ومع محاولة ليبيا تجاوز الانقسامات والشتات علت الفوانيس الرمضانية مختلف الشوارع التي لا تكتمل فرحتها إلا بصوت مدفع الإفطار وقرع طبول "المسحراتي"، تقليد افتقدته البلاد خلال الأعوام الماضية، بسبب سوء الأوضاع الأمنية والسياسية، إذ إن مدفع الإفطار يعد من أبرز ملامح رمضان، بخاصة في العاصمة الليبية طرابلس التي يخرج منها صوته انطلاقاً من السرايا الحمراء نحو بقية المناطق والضواحي المحيطة بها.
ونجحت السياسة في تفريق الليبيين إلى قطبين واحد غربي والآخر شرقي منذ عام 2011، إلا أن العادات والأطباق الرمضانية وحدتهم، فتجد" الشوربة العربية" و"البوريك "و"المبطن" على كل الموائد الليبية، وتقول أسماء علي إنها تنتظر كل عام دخول رمضان على بلدها وهو موحد تحت راية حكومة وطنية واحدة. وتضيف لـ"اندبندنت عربية" أنها تجهزت لشهر الصوم في الأسبوع الأخير من شعبان وأصرت على شراء ما هو ضروري فقط، مبتعدة من كل ما هو غير صحي.
وتوضح أسماء أن الأسعار مرتفعة، مرجعة ذلك إلى حال الانقسام السياسي والانشقاق الاقتصادي التي رمت بظلالها على جيوب المواطنين الذين يكافحون منذ عام 2011 للاستجابة لمطالبهم المتمثلة في إنجاز انتخابات وطنية تنهي هذا العبث.
ورغم توافر جميع المواد الأساسية فإن الأسعار المرتفعة تفوق قدرة المواطن المنهكة، خصوصاً أن نسبة الفقر في ليبيا بلغت 32.5 في المئة، بحسب دراسة منشورة في مجلة دراسات الاقتصاد والأعمال، كلية الاقتصاد، جامعة مصراتة، إذ يقول رئيس غرفة التجارة والصناعة في مدينة مصراتة فتحي الأمين إن الأسعار قد ترتفع بصورة جنونية خلال رمضان وتابع في تصريحات صحافية أن وزارة الاقتصاد مغلوبة على أمرها، وفي هذا الصدد يؤكد عبدالرحمن جمعة أن سعر الكيلوغرام الواحد من لحم الخروف وصل إلى 85 ديناراً ليبياً (17 دولاراً أميركياً)، بينما ناهز ثمن الكيلوغرام الواحد من لحم العجل 75 ديناراً ليبياً (15 دولاراً أميركياً) في مدينة طبرق (شرق).
ورد مصرف ليبيا المركزي من جانبه أن أي ارتفاع في أسعار السلع الغذائية في رمضان "غير مبرر"، وأن المصرف المركزي حريص على تغطية الاعتمادات المستندية المحالة إليه لتوريد مختلف السلع والخدمات من أجل تغطية احتياجات السوق المحلي بمناسبة رمضان.
تنهيدة عميقة شقت كلام فاطمة النصر التي تقول أي نكهة لرمضان ومدينتي الأصابعة (120 كيلومتراً من طرابلس) تحترق، وتضيف أن النار التي تشتعل من دون سبب في مدينتها أتت على كل محتويات منزلهم الذي تفننت في تجهيزه هي وأمها احتفالاً بحلول رمضان، حتى المؤونة والأثاث تحولا إلى رماد.
وتتابع أنها اضطرت إلى النزوح هي ووالدتها وخالاتها عند أقاربهم في مدينة الزاوية، بينما بقي والدها وأخوتها الذكور في مسقط رأسهم يتابعون الوضع هناك، خصوصاً أن النيران اشتدت وتمكنت من التهام 120 منزلاً بسبب تواصل اشتعالها وعجز الدولة الليبية عن إيجاد تفسير أو حل لهذه المعضلة.
الجوار: رمضان مصر أجواؤه مستمرة لكن مغايرة
مصر ليست في حرب، في الأقل بمعناها الحرفي من مواجهات عسكرية وصدامات قتالية، لكن أصداء ما حولها من "كماشة" الصراع بين السودان جنوباً وعدم الاستقرار في ليبيا غرباً والقنبلة الموقوتة التي تهدد بالانفجار بين لحظة وأخرى في غزة بالشمال الشرقي، وانعكاسات الصراعات السابقة والحالية ومخرجاتها من موجات لاجئين ومهاجرين من اليمن وسوريا والدول السابق ذكرها، تضاف إلى ما يعانيه المصريون داخلياً من أوجاع اقتصادية على مدى نحو عقد، يتضاعف حجمها ويتصاعد أثرها في رمضان.
أعوام طويلة، أو بالأحرى عقود، وملايين المصريين يعتقدون بأنهم بصدد الاحتفاء برمضان الأصعب اقتصادياً والأقسى ترفيهياً. هنا يطل مبدأ "النسبة والتناسب" ويتشابك مع مقولة "لو علمتم الغيب لاخترتم الواقع"، فما بدا قبل سنوات وكأنه معاناة قاسية وحرمان رهيب متمثل في ارتفاع أسعار البندق واللوز والفستق، هو بمقاييس اليوم ضرب من الخيال، إذ إن اقتناء كيلوغرام من التمر ونصف كيلوغرام من الزبيب وتوليفة من الكركديه والخروب والتمر هندي، كل بحسب مقدرته تعد استعدادات رمضانية رائعة ومبهجة.
وتعضد من هذه الروعة وتقوي شوكة البهجة جهود رسمية مكثفة تُبذل على صعيدين الأول سياسي - اقتصادي لتوفير السلع الغذائية بأسعار معقولة وبدعم من أحزاب سياسية أو وزارات خدمية من خلال أكشاك ومنافذ، لا سيما في الأحياء الشعبية، والثاني عبر الجرعة المكثفة من البرامج والمحاضرات والدروس الدينية التي تعظم من شأن الرضا بأقل القليل وتؤكد أبواب السماء المفتوحة والشياطين المصفدة، فتكون الفرصة ذهبية لتوجيه جل الوقت والجهد للدعاء والتضرع والاستغفار، لا التبرم والتضرر والاعتراض.
الملاحظ هذا العام أن الارتفاع الموسمي وغير المنطقي منزوع المنطق والخالي من التبرير لأسعار المواد الغذائية لا تصاحبه نبرة الضجر والتأفف والشكوى المعتادة. وبلغة الأرقام فإن أسعار بعض السلع في الأسواق شهدت الارتفاع الموسمي المصاحب لرمضان، ورغم هذه الزيادة، بحسب البنك المركزي، فإن معدل التضخم السنوي العام في الحضر انخفض إلى 24 في المئة، وهو المستوى الأدنى له منذ ديسمبر (كانون الأول) عام 2022.
وتفسيرات انخفاض حدة الشكوى تراوح ما بين الملل من تكرار الشكوى واعتياد الزيادات والمصاعب وتقلص أهمية اقتناء السلع الرمضانية غالية الثمن، مثل المشمشية والقراصية في ظل الكميات الكبيرة والأنواع الكثيرة من التمر والزبيب بأسعار في متناول اليد، مما أعطى المستهلكين ربما شعوراً كاذباً بوفرة "سلع رمضان".
ويظل هناك عامل غزة وأهلها ووجود كثير منهم إلى جوار المصريين هذه الأيام، إضافة إلى أعداد كبيرة من السودانيين الذين فروا إلى مصر وقت اندلاع الصراع في السودان، ناهيك بالسوريين المقيمين في مصر منذ بدء الحرب في بلادهم، ومعهم أعداد من اليمنيين وغيرهم من أبناء الدول المجاورة الذين جاؤوا إلى مصر بسبب الصراعات.
ومع اختلاف الظروف الاقتصادية والاجتماعية والنفسية لـ"ضيوف" مصر، وهو المسمى الذي تطلقه القيادة السياسية على من يلجأون إلى مصر من أبناء الدول العربية المتحاربة، يتداخل العرف المصري العريق للاحتفال برمضان مع أجواء الأحداث، لا سيما في ظل وجود ممثلين عن الأحداث في الشقة المجاورة أو المحل المقابل أو عبر منصات التواصل الاجتماعي، سواء طلباً لمساعدة أو عرضاً لمنتجات أو خدمات أو ما شابه.
يطل العرف المصري بعاداته الرمضانية وتقاليده الاحتفائية بصورة فريدة هذا العام، فعلى رغم خفوت حدة البهرجة وتقلص هوامش الإنفاق على مظاهر الاحتفال، فإن نوعاً من الاحتفال العنادي، أو الاحتفاء الثأري يسود في كثير من الأحياء المصرية.
وبدلاً من مئات الأمتار من المصابيح الكهربائية وآلاف الأحبال من الزينة الرمضانية على الواجهات والشوارع والميادين والمراكز التجارية، تظهر زينات رمضانية مفرطة في البساطة زهيدة الكلفة، وبعضها مصنوع يدوياً، أو يجري تشكيله عبر حبال إضاءة "ليد" زهيدة الثمن على شكل هلال أو فانوس أو نجم تظهر بصورة واضحة في الشرفات وأمام المحال الصغيرة.
الفوانيس مصرية، لا صينية الصنع، ذات الأحجام المختلفة تظهر بكثافة في المحال المخصصة لبيعها في أحياء مثل "باب الشعرية" و"العتبة" و"الخيامية" وغيرها. و"كراتين" أو علب رمضان التي أصبحت سمة رمضانية أصيلة يشتريها من يملك ويهديها إلى من لا يملك ما زالت تغطي واجهات محال السوبرماركت وتحظى بإقبال كبير، وإن تقلصت أحجامها فباتت متناهية الصغر وتدنت جودتها فاقتصرت على ما رخص ثمنه واحتفظ بقدرته على الإشباع وإحراز الحسنات.
أجواء رمضان المصرية مستمرة، وإن بصورة مغايرة، مع إضافة توليفة من الأهداف الطريفة واللافتة، فبين مؤكد أن حرب غزة وما تعرض له أهلها من إبادة وطغيان يستدعي إرسال رسائل إلى الطاغي (إسرائيل) أن غزة لن تباد وأن المصريين لن يسمحوا بذلك، ومعبّر عن حاجة أسرته وجيرانه إلى ما يخفف عنهم أعباء العام الاقتصادية والنفسية الناجمة عن حرب القطاع، وأن بضعة فوانيس وأحبال إضاءة زهيدة الثمن بمثابة علاج نفسي، وباحث عن "إبرة" بهجة في كومة "قش" من المشكلات والمنغصات، وهارب من شبح مستقبل الصراعات التي تحيط بمصر، لا سيما أن الحكومة المصرية كانت قد تحدثت عن "احتمال" أن تدخل مصر "اقتصاد حرب" حال تفاقمت الأوضاع الإقليمية.
كان رئيس الوزراء مصطفى مدبولي تحدث في أكتوبر (تشرين الأول) عام 2024 عن اتخاذ مصر مزيد من إجراءات الترشيد، إذا ساءت الأوضاع السياسية في المنطقة وتطورت الحرب الإقليمية (غزة) على نحو أوسع. وعلى رغم أنه عاد وقال إن ذلك أمر غير مرجح في المدى المنظور، وأشار لاحقاً إلى أن ما يقصده هو اتخاذ إجراءات استثنائية على المستوى الاقتصادي لمواجهة أي نقص في سلاسل الإمداد لو استمرت الأوضاع الإقليمية في تدهورها، فإن مشاعر القلق والخوف انتابت وما زالت ملايين المصريين.
وتغير نمط الاحتفال وتعدل نمط الاستهلاك وتبدلت محتويات "كرتونة" رمضان، لكن يظل الاحتفاء برمضان قائماً، لكن بنكهة الظروف الصعبة ومذاق الأوضاع الساخنة.
الجوار: رمضان الأردن سياسي
وعلى وقع الحروب المجاورة وتأثراً بالصراعات الدائرة أيضاً، استقبل الأردنيون رمضان وسط تحديات داخلية وأوضاع اقتصادية ضاغطة، مع تصاعد التوترات الإقليمية، وعلى رأسها الحرب في غزة التي تركت بصماتها العميقة على المزاج العام والمشهد الاجتماعي.
وبينما تحاول غالبية العائلات الأردنية الحفاظ على طقوسها الرمضانية ينعكس المشهد السياسي على الأجواء العامة، إذ تتداخل الروحانيات مع التضامن والغضب لما يدور في الأراضي الفلسطينية. جرت العادة أن يستقبل الأردنيون رمضان بأجواء روحانية وعائلية، فتمتلئ المساجد بالمصلين وتزدهر الأسواق وتنتشر موائد الرحمن، لكن هذا العام يأتي الشهر في ظل أوضاع اقتصادية صعبة، إذ تراجعت القدرة الشرائية، مما انعكس بدوره على إحجام الأردنيين عن شراء الكماليات الرمضانية كالزينة والمأكولات الفاخرة.
وعلى مدى أعوام تراجعت المبادرات التضامنية للأسر المحتاجة، مثل موائد الإفطار الجماعي والطرود الغذائية، وتقلصت مظاهر الاحتفالات وأصبحت زينة رمضان أقل انتشاراً، ويضاف إلى ذلك أن المزاج العام بات يميل للتقشف والتضامن مع غزة.
يقول مواطنون إن المجالس الرمضانية على قلتها تتمحور هذا العام حول الوضع في فلسطين، بينما تتناول الدروس في المساجد القضية الفلسطينية. وطوال أعوام كان شهر رمضان يعد فرصة لكثير من المهن والأعمال الموسمية، لكن هناك بعض المهن التي لم تعُد شائعة حالياً لأسباب عدة، أبرزها تطبيق القوانين الصحية والبلدية كبائعي عصير العرقسوس و"المسحراتي".
ويرصد مراقبون تزايد الدعوات إلى استغلال فترة ما بعد صلاة التراويح لتكثيف الاحتجاجات والمسيرات، لا سيما أمام السفارة الإسرائيلية في عمان، بينما انتهزت تيارات سياسية رمضان للتذكير بضرورة الاستمرار في حملات المقاطعة للبضائع.
وعلى رغم كل ما سبق، فإن هذا لم يؤدِّ إلى اختفاء المظاهر الاحتفالية برمضان، فمثلاً "بوليفارد العبدلي" الذي يعد أبرز وجهة سياحية وترفيهية في العاصمة عمان بدأ يستقبل الزوار في مناسبة رمضان، وأصدر وزير الداخلية مازن الفراية قراراً للحكام الإداريين بالإفراج عن 417 موقوفاً إدارياً لمناسبة الشهر الفضيل.
وكعادتها استقبلت وزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية رمضان بخطة متكاملة، وقال وزير الأوقاف محمد الخلايلة إن هناك تكثيفاً لدروس الوعظ والإرشاد والمجالس العلمية الهاشمية ومسابقات لحفظ القرآن، إلى جانب سداد ذمم مالية مستحقة على غارمات وتوزيع مساعدات ومواد تموينية على الأسر الفقيرة. وفي بعض الأحياء ينظم السكان مبادرات جماعية لتزيين الشوارع وتعليق الأضواء، مما يعزز الأجواء الاحتفالية على قلتها.
وأعلنت الحكومة الأردنية بدورها عن إجراءات اقتصادية لضمان وفرة السلع الغذائية والمواد الرمضانية وتلبية ارتفاع الطلب عليها قبل الشهر الفضيل وخلاله.
وكشفت المؤسسة الاستهلاكية المدنية الحكومية عن خفض أسعار 500 سلعة من بينها مواد غذائية لتخفيف الأعباء عن كاهل المواطنين في رمضان. كما قام رئيس الوزراء جعفر حسان بجولة في الأسواق والعمل على توفير السلع بأسعار مناسبة للتخفيف عن المواطنين وأطلقت وزارة الصناعة والتجارة والتموين حملة مكثفة للرقابة على الأسواق.
ورغم ما سبق، فإن كثيراً من التجار أكدوا أن الحركة التجارية هذا العام أقل من الأعوام السابقة بسبب تراجع القدرات الشرائية للمواطنين، حتى مع العروض والخفوض الكبيرة في السوق.
وفي ظل التوترات الإقليمية تولي الأجهزة الأمنية الأردنية اهتماماً متزايداً لضمان أمن واستقرار البلاد خلال رمضان، ويشمل ذلك تعزيز الإجراءات الأمنية في الأماكن العامة، لا سيما أثناء صلاة التراويح والتجمعات الكبيرة.
ويعد الإفطار العائلي العادة الأكثر تجذراً في الأردن، إلا أن الموائد باتت أقل تنوعاً، إذ تراجع استهلاك اللحوم والدواجن، كما تشهد أسعار الحلويات الرمضانية مثل القطايف ارتفاعاً يدفع بعضهم إلى تحضيرها منزلياً بدلاً من شرائها.
ووفقاً لتقارير غير رسمية شهدت أسعار السلع الأساسية زيادة بنسب تتراوح ما بين 10 و30 في المئة، مما دفع بعض العائلات إلى تغيير أنماط استهلاكها والاعتماد على البدائل المحلية او التقشف وإعداد وجبات تقليدية أقل كلفة.
وبصورة عامة يزيد حجم إنفاق العائلات في رمضان بنحو 50 في المئة عن بقية الأشهر، إذ تميل الأسر إلى شراء كميات أكبر من الطعام مقارنة بالأشهر الأخرى. وتظهر الإحصاءات أن متوسط الإنفاق الشهري للأسرة الأردنية المكونة من أربعة أفراد يبلغ نحو 1500 دولار، لكن في المقابل تفيد دراسات سابقة بأن 34 في المئة من الغذاء في الأردن يهدر ويستنزف، بخاصة خلال المناسبات الاجتماعية والشهر الفضيل.
إنه رمضان الأكثر سخونة في كثير من الدول العربية، فهواجس الأمن والسلامة، وأحياناً حلم البقاء على قيد الحياة، مع آثار الحروب التي أتمت عقداً وأكثر، أو تلك التي اندلعت حديثاً، ومعها ضغوط اقتصادية هائلة تضيف إلى ألم الحروب مرارة العوز والحاجة، أو تمعن في فرض قيود موجعة على الملايين هي اليوم جزء لا يتجزأ من شهر رمضان.
ورغم ذلك فإن أمارات الإصرار على البقاء وإعلان المقاومة وعدم الاستسلام والتمسك بالأمل ولو بدا واهناً تبدو واضحة سواء في دول ضربتها الحروب، أو غيرها ممن تعاني أصداءها وآثارها. شريط زينة زهيد الكلفة هنا، أو تجمع عائلي في أضيق الحدود هناك، أو "فانوس" رمضاني يضيء بنوره الخافت ظلمة المكان لتؤكد أن رمضان هو الآخر يقاوم مع الصائمين مصراً على البقاء.